القـدر .. استسلام أو مغالبة ؟!
القـدر .. استسلام أو مغالبة ؟!
زهير سالم
يوصيك أهل الحقيقة..
لا تدبـر لـك أمـراً فأصحاب التدبير هلكى
سلـم الأمـر إلينـا نحن أولى بك منــكا
كن بين يدي الأقدار كالميت بين يدي الغاسل. أو كالخشبة الطافية على سطح الماء، أو كورقة خريف تذروها العاصفات..
انضم إلى منظومة الوجود التي تعمل فيها النواميس وتعمل هي بالنواميس، كما حركة قلبك، وتقلصات أحشائك، وإفرازات ما لا تعلم من غدد جسمك، وكما حركة الشمس والقمر بحسبان لا تعلمه، ليعمل فيك القانون الأزلي من غير كسب ولا اكتساب. ألق بنفسك لُقى في هذه الحياة لا ترفع ولا تدفع، فإن فعلت كنت جزءاً من الكل، وإن أبيت كنت كموج البحر يصفعه الشاطئ، إذ يرفع رأسه، ليعود كرهاً إليه.. !!
ويستدرك عليك باز التحقيق..
يرفع بوجهك أصبعه وحاجبيه مشيراً (لا..)، نعم، سلم واستسلم واسكن واطمئن في قدر قد نفذ سهمه، ولم يبق إلا الصبر والتسليم واقتناص الذكرى والعبرة لئلا تأكلك الحسرة، ويوهن من قدرتك الندم، ففي كل ما نفذ فيك قل: قدر الله وما شاء فعل ـ واغلق على نفسك باب (لو) فإنها تفتح عمل الشيطان. ولكن قدراً لم تدرك سره، ولم تظهر آياته ففر منه إليه.
يقولها ابن الخطاب لأبي عبيدة أمين الأمة وقد احتج الثاني على الأول: أتفر من قدر الله يا عمر ؟!
يقول عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نفر من قضاء الله وقدره إلى قضاء الله وقدره..
وكانت كلمة عمر بكل ما فيها من جلال وجمال وعبق إرث النبوة الخالدة هي الباقية في عقيدة الأمة، وفي دعوات أهل الحق من رجالها..
حين تشيع رياح الموات بترك الفعل لصاحب الفعل، كما يترك الخلق لصاحب الخلق، ينهض عبد القادر الجيلاني في كتابه (فتوح الغيب) لينادي في مريديه:
فروا من الأقدار إلى الأقدار.. غالبوا الأقدار بالأقدار.. صارعوا الأقدار بالأقدار.. أبداً لا تركنوا إلى الاستسلام. ارم بسهمك والقدر يصيب به من يشاء. أنت أداة القدرة وستارها. والشجرة التي كلم الله موسى من خلالها. قلبك الجبل القابل لتجليات جمال وجلال الرحمن، ذاك الجلال والجمال الذي ما وسعته السموات والأرض.. ووسعه قلب عبد تقي نقي صفي..
قدرية المسلم، إثبات ونفي، إثبات ينفي الجزع والهلع مما كان، كما ينفي الخوف والقلق مما سيكون، تسليم مطلق بأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأنه (لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا..). ونفي في اللحظة التي أنت فيها يدفعك إلى التشمير والجد، تقفز من جانب في الوادي إلى الآخر، حتى يظن من يراك أنك تقول: لا قدر، ولكنك موقن أنك في كلا الجانبين تحت قوس القدر. تتوقى الأذى وتدفع عن نفسك العوادي، تلجأ إلى الغار لتنجو من مكر الأعداء، وطمأنينتك وسكينتك المطلقة معك. تلبس الدرع والمغفر لتتقي سهام الحياة، تباح لك المحظورات لتدفع عن نفسك الضرر، تتداوى إذا مرضت مع يقينك بأن الطبيب أمرضك. تفعل كل هذا بسكينة ووقار وخشوع. وتردد كلما حزب أمر أو حمي وطيس، أو اشتدت أزمة أو ضاقت حلقاتها، أو نشر اليأس ظلمته، وفرد الظلم جناحيه: (لا تحزن إن الله معنا..) أو تلقى بها في وجوه المتكبرين والخانعين معاً (وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون..)
القدر الدرع لا الذريعة..
وهكذا يتحول القدر في المفهوم الإسلامي من ذريعة للقعود والاستسلام والرضى بالدون، وترك سنة الدفع التي كتبها الله على عباده لحماية الحق والعدل (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز)، يتحول.. إلى درع تتكسر عليها ظلمات الحسرة والندم وسهام الخوف والتوتر والقلق، وينشد القدري المثبت النافي وهو يلقي بنفسه في خضم الحياة مجاهداً على كل محاورها
أي يومي مـن الموت أفر يـوم لا يقدر أم يـوم قـدر
يـوم لا يقـدر لا أرهبـه ومن المقدور لا يغني الحذر
عسر ويسر، شدة ورخاء، إقبال وإدبار، ونفس راضية مطمئنة إلى أنها لا يراد بها ولها إلا الجميل..
(ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير، لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم. والله لا يحب كل مختال فخور.)
هذا هو السر.. فإذا كنت جزءاً من الناموس العام فردد بخضوع وانكسار مع السموات والأرض (.. أتينا طائعين).