الأمة في شهر رمضان
خطبة الجمعة 10 / 6 / 2016م
5 رمضان/ 1437هـ
الخطبة الثانية:
"نرفض الفكرالتكفيري الدموي" - أ.د. محمد سعيد حوى
إذا أردنا أن نبحث في عناوين كبرى يجسدها شهر رمضان فسنجد أنفسنا أمام جملة من القضايا الكبرى الكثيرة، كلها يريد أن يتقدم ليكون الموضوع الأول والقضية الأولى.
فإن قلت: نريد أن نجعله شهر القرآن؛ فهو كذلك وينتهي الشهر ولا يمكن أن تعطي القرآن حقه ولا بعضه.
وإن قلت: هو شهر الأرحام، قلنا: نعم هو كذلك، وما أحوجنا أن نقوم بحقوق الأرحام في كل وقت وخاصة في هذا الشهر، وإذا لم نصلها في هذا الشهر فمتى؟
وإن قلت: هو شهر الإصلاح بين الناس، فهو كذلك.
وما أحوجنا حقاً في هذا الشهر أن نعيد النظر في علاقاتنا ونراجع أنفسنا، ونصلح ما بيننا؛ لنكون محل رحمة الله تعالى وقبوله.
وإن قلت: هو شهر التوبة فحقاً هو كذلك، وكم من أناس كان رمضان بالنسبة لهم بداية الخير والفتوح والرحمات والنفحات والصلح مع الله، فجدد توبة وعهداً صادقاً، وأوصل حباله مع الرحمن، وقطع حبائله مع الشيطان، وسكب الدموع بين يدي الله في السجدات، واستشعر لذة العبادة وحلاة الإيمان فكان رمضان ولادة جديدة له، وصفحة جديدة في عمره، وصدق في توبته وما زال، وهكذا في كل رمضان أفواج جديدة تقبل على الله تعالى، وهم يتدبرون قوله تعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ، وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ ﴾ [الزمر: 53- 55].
وإن قلت: هو شهر الإحسان فهو ميدان يتنافس فيه المتنافسون في الخيرات، وكم من أسرة مستورة، وكم من فقير، وكم من كسير، وكم من ذي حاجة ينتظر هذا الشهر الكريم حيث يجود الأجواد بالخيرات.
وإن قلت: هو شهر الصبر والإرادة والمراقبة قلنا: نعم هذه حقيقة الصوم ومدرسة الصوم إنها مدرسة الصبر والمراقبة والإرادة.
وإن قلت: هو شهر الإنسانية والشعور بالآخرين والمستضعفين فهو كذلك، حيث ترق القلوب، وتسمو الأرواح.
وإن قلت هو شهر المساجد فهو كذلك.
إذاً مهما حاولنا أن نضع عنواناً لهذا الشهر أو قضية كبرى فيه فسنجد القضايا والعناوين كثيرة وكلها يقول أنا موضوع هذا الشهر.
لكنني أريد أن أضع عنواناً جامعاً نجسده في شهر رمضان يجمع المعاني كلها، فلنقل إن شهر رمضان
هو شهر الأمة حقاً.
فكيف نترجم ذلك؟
عندما نستشعر معاني الوحدة في هذا الشهر الكريم وذلك من خلال أننا نعيش مع القرآن فيرتقي القرآن بنا إلى أخلاقه وإلى التأكيد على وحدة الأمة وقوة الأمة وعزة الأمة.
كما أنه من خلال هذا الشهر ومن خلال هذا القرآن تتربى الأمة على الاجتماع والإئتلاف والتماسك والحب والود، فكل ذلك مما يعمق معنى الأمة، ومن خلال هذا الشهر
نستذكر دائماً المسجد الأقصى وفلسطين، ونستذكر أهلنا وما يتعرضون له من حصار وقتل وما يتعرض له أسرانا نجسد بعض معاني الأمة الواحدة، فنسعى أن نقدم لهم ما نستطيع.
عندما نستشعر ونستذكر أهلنا في الشام أو العراق أو اليمن وهم يتعرضون لإبادة أو لبراميل متفجرة أو يعيشون حالات من البؤس والتهجير، ونستذكر أحوالهم خاصة لحظة الإفطار فنقول ماذا يجب علينا باعتبارنا أمة واحدة؟
وهذا شهر الأمة لأنه شهر الصبر والإرادة المراقبة وهذه أسس قوة الأمة.
وعندما نلح بالدعاء فنستحضر في دعائنا هموم أمتنا وقضاياها، ولحكمة جاء في سياق آيات الصوم ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُم يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186]
نعم الدعاء لا بد معه من العمل والأخذ بالأسباب، لكن الدعاء أيضاً فيه معاني التذلل والافتقار إلى الله، ومعاني الشعور بالآخرين، ومعاني الإهتمام بقضايا الأمة واستحضارها في القلب، وتجسيد قول الله تعالى: ﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 92]، وحديث رسول الله ﷺ : (عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى") صحيح مسلم، 2586.
وفي هذا الشهر نجسد معنى الأمة الواحدة إذ نستذكر الفتوحات، وأنه شهر الجهاد والانتصار، ونجسد معنى الأمة الواحدة بالتكافل والتراحم وإصلاح ذات البين، ونجسد معنى الأمة الواحدة في أن لنا عقيدة واحدة، نعبد رباً واحداً، رسولنا واحد، كتابنا واحد، عباداتنا واحدة.
نجسد الأمة الواحدة في وحدة الفكر والهدف والألم والأمل.
ومن هنا نستشعر ما يحاك بالأمة من مؤامرات وما يراد بها ولها، من تمزيق وفتنة وإضعاف، ولا بد أن نقف ملياً مع المخططات الخطيرة الخفية التي وصفها ربنا ﴿ بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ﴾ [سبأ: 33].
ووصفها ربنا ﴿ شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُوراً ﴾ [الأنعام: 112]
﴿ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبَالُ ﴾ [إبراهيم: 46].
لا تقف مخططاتهم على مستوى العالم الإسلامي عند حد إقصاء المصلحين والمعتدلين ومحاربة كل فكر معتدل لأنهم يريدون أن يقدموا كل فكر مشوه منغلق متحجر ممزق ليقدموا إسلاماً مشوهاً لا علاقة له بالإسلام، ولا تقف مخططاتهم عند حد الترويج المخطط المقنن في بلاد المسلمين للمخدرات وأسباب إفساد الشباب وتحلل المجتمعات، وانتشار الجريمة؛ إنهم يخططون لذلك تخطيطاً ولا تظنوا أن انتشار المخدرات والجريمة هكذا، لأنهم يريدون إشغال الناس وإيجاد هزيمة نفسية وترويع المجتمعات وتحلل المجتمعات، ولذلك يخططون أيضاً للفقر لتبقى هذه المجتمعات فقيرة منكوبة، وأيضاً من مخططاتهم العمل على عدم النهوض بالأمة علمياً وصناعياً، ولا تقف مخططاتهم عند حدود الحرب الإعلامية من كل صنف ولون التي تسرق العقل والقلب والوقت والمال والروح والأسرة والفكر والقيم والأخلاق، ولا تقف مخططاتهم عند حد دعم كل متطرف وإرهابي ليزداد سفك الدماء داخل الأمة الإسلامية، ولا تقف مخططاتهم عند حد تأجيج الصراع الطائفي والفئوي والمناطقي والعرقي، وتأجيج العنصرية والإقليمية والفئوية ليضرب الناس بعضهم بعض، ومن ثم ضرب الأقطار بعضها ببعض، وإفساد علاقة الشعوب فيما بينها ثم فيما بينها وبين حكامها، ولا تقف مخططاتهم عند حد أنهم لا يريدون أن يخوضوا حرباً بأنفسهم بل يدعوا الأمة يقتل بعضهم بعضاً، لتقوم بعض الفئات وخاصة من يسمونهم أقليات بالحرب بالنيابية عنهم.
إنهم يريدون أن تبقى الأمة في حالة تمزق وإنشغال وتحلل وهزيمة داخلية واستنزاف وضياع وتيه.
لذا ما هو واجبنا؟
أولاً: الوعي والفهم لما يجري، والتحصن بالقرآن وهدي القرآن، والابتعاد عن كل مظاهر الفتن والاقتتال التي ليس من ورائها إلا جر الأمة إلى الويلات والتصفيات، واستنزاف الأوقات والأموال والأنفس والدماء، لذا المسلم لا يمكن أن يقاتل إلا تحت راية إيمانية ربانية شرعية واضحة المعالم والهدف والمضمون والشخوص، حرة الإرادة، حرة القرار، حرة التسليح، حرة الرأي، لا تخضع لألاعيب الدول الكبرى ولا الصغرى، لذلك يجب أن نحصن شبابنا وأبناءنا؛ فلا نسمح أن يكونوا وقوداً لهذه الفتن بأي شكل من الأشكال، ونحصنهم من الفكر المنحرف الذي يقاتل تحت راية عمية جاهلية.
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ، وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ، ثُمَّ مَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، وَمَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ، يَغْضَبُ لِلْعَصَبَةِ، وَيُقَاتِلُ لِلْعَصَبَةِ، فَلَيْسَ مِنْ أُمَّتِي، وَمَنْ خَرَجَ مِنْ أُمَّتِي عَلَى أُمَّتِي، يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا، لَا يَتَحَاشَ مِنْ مُؤْمِنِهَا، وَلَا يَفِي بِذِي عَهْدِهَا، فَلَيْسَ مِنِّي») مسلم، 1848.
(عَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْبَجَلِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ، يَدْعُو عَصَبِيَّةً، أَوْ يَنْصُرُ عَصَبِيَّةً، فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ») مسلم، 1850.
وفي الحديث أن النبي ﷺ قَالَ: "يَا أَبَا ذَرٍّ، أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، يَعْنِي حَتَّى تَغْرَقَ حِجَارَةُ الزَّيْتِ مِنَ الدِّمَاءِ، كَيْفَ تَصْنَعُ؟ " قَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "اقْعُدْ فِي بَيْتِكَ، وَأَغْلِقْ عَلَيْكَ بَابَكَ ". قَالَ: فَإِنْ لَمْ أُتْرَكْ؟ قَالَ: "فَأْتِ مَنْ أَنْتَ مِنْهُمْ، فَكُنْ فِيهِمْ " قَالَ: فَآخُذُ سِلَاحِي؟ قَالَ: "إِذَنْ تُشَارِكَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ، وَلَكِنْ إِنْ خَشِيتَ أَنْ يَرُوعَكَ شُعَاعُ السَّيْفِ، فَأَلْقِ طَرَفَ رِدَائِكَ عَلَى وَجْهِكَ حَتَّى يَبُوءَ بِإِثْمِهِ وَإِثْمِكَ) مسند أحمد، صحيح، 21325.
(وعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ. يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، وَيُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا. الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي. فَاكْسِرُوا قِسِيَّكُمْ، وَقَطِّعُوا أَوْتَارَكُمْ، وَاضْرِبُوا بِسُيُوفِكُمُ الْحِجَارَةَ، فَإِنْ دُخِلَ عَلَى أَحَدِكُمْ بَيْتَهُ، فَلْيَكُنْ كَخَيْرِ ابْنَيْ آدَمَ ") مسند أحمد، صحيح، 19730.
إنها توجيهات نبوية صارمة لئلا تزهق الأرواح وتدمر الأمة وتضيع الطاقات في سياق الفتن.
ومن ثم نوجه شبابنا وأبناءنا إلى الابتعاد عن كل هذه الفتن والانشغال بالعمل والبناء والإعداد والإصلاح والتربية والعلم.
وفي هذا السياق وإذ نتحدث عن رمضان شهر الأمة فإننا ندين وبشدة هذا العمل الإجرامي الجبان الذي استهدف رجال أمننا في الأردن غدراً في أول يوم من أيام رمضان بعد أداء صلاة الفجر.
فعبر هؤلاء الذين قاموا بهذا العمل الجبان عن سقوط أخلاقي وانحراف فكري وتبعية للغير ، إنهم لن يتمكنوا من هذه الأمة ولا من وحدتها ولا من ثباتها ووعيها، وإذ ندين هذا الإجرام الذي تتبرأ منه كل الشرائع، وإذ نترحم على شهدائنا الأبرار ونعزي أهليهم وذويهم وهو مصاب الأردن جميعاً؛ لنا أن نتساءل من أين يأتي هذا الفكر المنحرف الذي يُهدر دماء المسلمين ويقتل ويفجر ويكفر ويستبيح الدماء والأعراض باسم الإسلام؟
إن هؤلاء نشئوا على فكر الإقصاء والتحجر وسوء الفهم لم يفقهوا القرآن ولا هدي السنة، لم يتعلموا علم المقاصد والأصول، يقرؤون الآيات والأحاديث قراءة جزئية وسطحية وينشئون اتباعهم على رفض الآخر واتهام الناس والنوايا، ومن ثم خلل التفكير يؤدي إلى التبديع والتضليل ثم إلى التكفير ثم إلى التفجير، كم حذر علماؤنا من هذا الفكر الضيق الأفق.
فلنجعل من رمضان شهر الأمة والوحدة والإنطلاقة والتوبة والتراحم والتكافل والشعور الإنساني لتكون أمتنا حصناً منيعاً في وجه المؤامرات.
وسوم: العدد 672