نموذج المثقف الفاشل الذي يقيم على نفسه حجة بسبب الهوة السحيقة بين مستواه الثقافي وبين سلوكه في محيطه الاجتماعي

أول ما يتبادر إلى الذهن عند سماع لفظة " مثقف " هو محاولة تعريفها ، وبعض من خاضوا في تعريفها،  صدروا في ذلك عن قناعاتهم المختلفة ، وحسب  وجهات نظرهم أو زوايا نظرتهم  . وقد يتفقون  جميعا على أن المثقف كان في بداية الأمر يطلق  على صاحب رصيد معرفي معين قد يترجمه حصوله على شهواهد تعليمية حسب مستوياته الدراسية . وبعد ذلك  تطورت دلالة لفظة مثقف ،فصار فضلا عن أرصدته المعرفية ، وشواهده التعليمية  والعلمية  شخصية اجتماعية ذات كاريزما في مجتمعه ،و له قدرة على التأثير فيه بشكل أو بآخر .

  ويطلق على مجموع المثقفين في مجتمع من المجتمعات  اسم " الأنتلجنسيا " ،وهي الفئة التي تَعتقِد أو يُعتقَد  أنها قادرة على تنويرالرأي العام  في المجتمع، وذلك لتخليصه  من الخضوع  للسلطة  السياسة خصوصا المطلقة  منها،  وتوعيته ، ووتوجيهه إلى الاحتماء بالقوانين والاحتكام ، والرهان عليها من أجل نيل الحقوق المستحقة .

وترى " الأنتلجنسيا " أنها نخبة متميزة عن  العامة في المجتمع بسبب وعيها ،وسعة اطلاعها ، ومؤهلاتها العلمية والفكرية التي تبوئها  مرتبة " الكاريزما "،  الشيء الذي يجعلها  تعتقد جازمة بحقها في الوصاية على العامة ، باعتبارها الناطقة باسمها، والمعبرة عن همومها ، وتطلعاتها ، والمدافعة عن حقوقها أمام دوغما السلطة الحاكمة . وقد يصدق هذا الوصف على بعض المثقفين إلا أنه لا يشمل الجميع ، ذلك لأن بعضهم يعيشون في أبراج عاجية بعيدا عن هموم ومشاغل  عموم الناس ، ولا يخالطونهم ، بل ينكفئون على أنفسهم ، ويكتفون بالتنظير  خلف مكاتبهم ، وبنشر وطبع ما يؤلفونه من مؤلفات أو دراسات أو مقالات  تهم قضايا المجتمع المختلفة التي لا يتعرفون عليه عن كثب ، وعن ملابسة،  ومعاينة ،واحتكاك . وهؤلاء يستخفون بالرأي العام في أوطانهم ، وهم يظنون أنهم وحدهم من يملكون ناصية الحقيقة دون سواهم ، وأنهم وحدهم المؤهلون لتحديد شؤون الحياة العامة ، الشيء الذي يولد لديهم نظرة استعلائية لا تخلو من استكبار، واستخفاف، وازدراء بالغير . وقد ينتصبون لمعارضة  دوغما الأنظمة الحاكمة ، كما أن بعضهم قد يرتمي في أحضانها .

وعند التأمل نجد أن " الأنتلجنسيا " هي في الحقيقة  صنيع مجتمعاتها ، تقتبس  من هموم ومشاكل ، وتطلعات عامتها كي تؤسس تصورتها ونظرياتها التي تقدمها كحلول وبدائل لتلك المشاكل .

وتختلف " الأنتلجينسا " من مجمع إلى آخر حسب ترتيب المجتمعات باعتبار مواكبة الركب الحضاري الحديث . والمثقفون في دول العالم الثالث ،ومن ضمنها البلاد العربية غالبا ما يقتفون تقليدا  أثر المثقفين  في بلاد العالم الغربي ، وهم يقتبسون وينهلون من نظرياتهم وفلسفاتهم ، ويحاولون تنزيلها في بلدانهم ،  لهذا تأتي نتائج دراساتهم  وتصوراتهم غير منسجمة مع خصوصيات شعوب بلدانهم .

والذي يعنينا في هذا المقال  تحديدا هو مشكل التناقض الصارخ بين المستوى الثقافي للمثقف العربي ـ دون  تعميم ـ  بما يعنيه من معارف وخبرات وبين سلوكه في محيطه  الخاص والعام ، وهو تناقض يعتبر حجة ودليل على عدم اتزانه السيكولوجي بسبب توزعه بين  ثقافة البرج العاجي ، وبين ما يصدر عنه مما هو دون سلوك من يعتبرهم عوام وجهلة  بدرجات .  

أول  ضحايا  هذا النموذج العديم الاتزان سيكولوجيا هو وسطه الأسروي الصغير الذي يمارس عليه تسلطه، وطغيانه ، واستبداده  قبل أن يمارس ذلك على عموم الناس في المجتمع . هذا النموذج قد تعيش معه رفيقة العمر، وأم أولاده معيشة ضنكا خصوصا إذا كان مستواها الثقافي متواضعا أو كانت أمية أو شبه متعلمة ، حيث يزدريها ، لأنه  في نظره المثقف السيء الحظ الذي لم تسعفه الظروف قبل أن يصير في طليعة المثقفين بالظفر برفيقة عمر من طينته ، وفي مستواه الثقافي.

وحين تجالس مثل هذا النموذج الغريب الأطوار قد يبهرك بسعة اطلاعه ، وطول باعه ، ورسوخ كعبه في شتى  المعارف إلا أنك  إذا أسعفك حظ الاطلاع عن قرب  على وسط الأسروي أو حصل لك ذلك بطريقة من الطرق، فتذهل كل الذهول لما يبوح  به عنه من هم أقرب الناس إليه رفيقة العمر وفلذات الكبد  من مبالغته في سوء معاملتهم و في اضطهادهم، واحتقارهم ، وإصابتهم بجروح  غائرة في أعماق وجدانهم بسبب امتهان  كرامتهم الإنسانية وبمنتهى السادية  متلذذا بمعاناتهم التي قد تولد لديهم عقدا نفسيا غاية في الزمانة،  تؤدي في غالب الأحيان إلى أمراض نفسية معقدة  وخطيرة قد تعرضهم للضياع  في متاهات الاكتئاب الحاد .

ويخشى مثل هذا النموذج أن يطلع الناس على  عيوبه وعلى معاناة وسطه الأسروي، لهذا يحرص كل الحرص على عزلته والتكتم على أحواله الداخلية خصوصا بالنسبة لمن يقدم  إليهم  نفسه كمثقف عالي الثقافة  وفي طليعة المثقفين، ويحرص على الظهور بمظهر الإنسان الراقي ، و المؤدب، والوقور، والمحترم ،والألمعي ،والكاريزمي .

وهذا النموذج  السيء السمعة باعتبار ما يعانيه عشه الصغير جراء استبداده ،وتعسفه شخص مزمن الداء بسبب عقدة الشعور بالاستعلاء على المجتمع الذي يستخف بجميع أفراده ، ويسخر منهم ، ويضحك منهم ملء شدقيه ، وينعتهم بكل النعوت البذيئة  حين يجتمع بمن يشاركونه عقدة أو علة الاستعلاء  ، والحقيقة أن أسلوب السخرية عنده، إنما هو آلية من آليات الدفاع التي  يروم من ورائها الخلاص  من عقدة معرفة  الغير حقيقة انفصام شخصيته، وهو انفصام يحرص على إخفائه عن الناس، خصوصا الذين يعرفونه كمثقف فقط ، وهو يعاني من ذلك كأشد ما تكون المعاناة  ، ولا يجد خلاصا من  ضياعه بين  برجه العاجي الذي يشيده  له وهمه ، وبين فشله  الذريع كإنسان سوي السلوك والمعاملة  مع أقرب الناس إليه.

وإذا كان خيار الناس من منظور ديننا الحنيف هم الخيار لأهلهم ، فحتما أن شرارهم هم الشرار مع أهلهم . وما كبر مقت  الله عز وجل إلا مع الذين يقولون ما لا يفعلون ، وما أكثر ما يقوله  بعض المثقفين ، ولكنهم لا يفعلون منه شيئا .

وسوم: العدد 1123