مشهد العراق السياسي بضوء نظرية (فوكوياما)
د. هوار بلّو /العراق
نشر الكاتب الأمريكي (فرانسيس فوكوياما) عام 1993 كتاباً بعنوان (نهاية التاريخ والإنسان الأخير)، وقد أثار كتابه هذا جدلاً واسعاً بين المفكرين والقادة السياسيين في العالم. إن الفكرة الرئيسية للكتاب تمحورتْ حول التبشير بنهاية التاريخ وتوقفه عند النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي الأمثل والمتمثل بالنظام الديمقراطي الليبرالي. فالمجتمعات التي اعتمدت المذهب الديمقراطي الليبرالي ــ حسب رأي فوكوياما ــ هي التي تحقق التطور والرخاء في مضمار الحياة وسوف يعلن التاريخ نهايته السعيدة في هذه المجتمعات، بينما المجتمعات الأخرى ستبقى منخرطة في دهاليز التاريخ وقد تفضي بها هذه الدهاليز إلى الفناء والانقراض. ويرى الكاتب في معرض حديثه عن الديمقراطية في كتابه، أنّ الديمقراطية الحقيقية لا يمكن لها أن تتواجد في ظل التعددية الإثنية والقومية حيث يرى أنّ مثل هذه التعددية توفر مناخاً سيئاً يصعب على الديمقراطية أن تنجح في ظله. اشترط (فوكوياما) في كتابه أنّ كل عملية ديمقراطية يشهدها مجتمع إثني قومي لابدّ أن تسبقها عملية قاسية من الانفصالات القومية والإثنية والتي لا يمكن أنْ تحقق بسهولة أو بدون إراقة دماء، وقد استشهد الكاتب بالاتحاد السوفيتي السابق وتجربته الشيوعية كدليل على رؤيته التحليلية حيث يرى أن الاتحاد السوفيتي السابق لم يكن قادراً على التحول الديمقراطي إلاّ بعد أنْ يتجزأ إلى مجموعة من الدول الصغيرة وفق المعايير الإثنية والقومية. وبضوء نظرية (فوكوياما) فإن المجتمع العراقي بتركيبته الإثنية والطائفية المتناهية في التعقيد كالمجتمع السوفيتي السابق هو إنما مقبل على هذه الحقيقة الكونية المرة بعد سقوط نظام (صدام) وخوضه لغمار التجربة الديمقراطية .
إنّ المجتمع العراقي بعد خوضه للتجربة الديمقراطية واجهته تحديات كثيرة متمثلة بقتل المدنيين والعمليات الانتحارية والتفجيرات العشوائية والتناحرات الطائفية والقومية ، مما أدى إلى خلق حالة من الفوضى والتسيب أنذرت بقيام حروب أهلية لا يحمد عقباها ، إلى الحد الذي جعل بعض المراقبين للشأن العراقي يرى بأن البلد مقبل على انقسامات طائفية ومذهبية وقومية مرعبة . ومما لاشك فيه أن كل ذلك حدث بمباركة قوى الشر الداخلية والخارجية التي لعبت دوراً مهماً في محاولة إجهاض هذه التجربة الفتيّة .
إنّ المجتمع العراقي يضم في تركيبته السكانية الكثير من الأديان والمذاهب والقوميات والأعراق ، ولا نبالغ إنْ قلنا بأن العراق هو أشبه ما يكون بعالم مصغر بكل تعقيداته السياسية والقومية والدينية والعرقية والحضارية . و استناداً لرؤية (فوكوياما) فإن العراق بخوضه للتجربة الديمقراطية قد يشهد انقسامات قومية وتناحرات طائفية دامية تنتهي به إلى دويلات قومية وطائفية مستقلة عن بعضها . ولعل التحديات التي واجهها مشهد العراق السياسي بعد سقوط نظام (صدام) من قتل عشوائي وعمليات انتحارية وتناحرات طائفية وعرقية واستهداف للشخصيات البارزة هي إمارات لتحقيق نبوءة (فوكوياما) . ولكن انطلاقاً من مبدأ أن لكل القوانين شواذ ، فإننا نأمل أن يشذ العراق عن قانون (فوكوياما) ويخوض تجربته الديمقراطية بنجاح تام ومن غير أن تحدث تصدعات في جداره الوطني .
يشهد العراق تناقصاً كمياً ونوعياً في وتيرة العنف والإرهاب خاصة في الآونة الأخيرة ، حيث تراجعت العمليات الإرهابية والتصفيات العرقية والطائفية أكثر من ذي قبل . وفي أعقاب نجاح عملية الانتخابات الرئاسية في العراق هذا العام والزحف المليوني نحو صناديق الاقتراع تمكن العراقيون من إطلاق رصاصة الرحمة على الإرهاب والمؤامرات الداخلية والخارجية ، حيث لاحت تباشير انتصار لغة الحبر على لغة الدم . ولا ندرك تماماً هل أنّ هذا التناقص في حدة العنف والإرهاب هو الهدوء الذي يسبق العاصفة لا سمح الله أم أنه شذوذ عن رؤية (فوكوياما) ونظريته في نهاية التاريخ ؟ لأننا إذا ما تأملنا في الوضع الراهن للعالم فسوف نعثر على حالات كثيرة من الشذوذ عن رؤية (فوكوياما) التحليلية ، إذ ليس كل دولة ديمقراطية هي دولة تتألف من قومية واحدة ، فبلجيكا وبريطانيا وسويسرا هي دول ديمقراطية رغم إثنياتها المتعددة و احتوائها على أطياف قومية واسعة . وهكذا فإننا نستبعد وجه الشؤم في تحليلاتنا للمشهد العراقي و لا نتوقع من عراقنا الفيدرالي إلاّ النجاح في خوض تجربته الديمقراطية ليكون نموذجاً يحتذى به في العالم الثالث على أقل تقدير ، على غرار الدول الأوروبية التي ذكرناها من قبل .