استقالة الإعلام العربي

صلاح حميدة

[email protected]

الاعلامي يبحث دائماً عن السبق الصحفي، ويحرص على تتبع الملفت من الأخبار، و يتلقّف أي خبر يثير زوبعة في المجتمع، وبهذا يحقق السبق والشهرة، والتفرد بنقل ما خفي من أخبار، لذلك يطلقون  مصطلح " التحقيق الصحفي" في إشارة واضحة إلى الدّور الذي يقوم به الصحفي، وهو البحث عن الخبر، وليس نشره فقط، فالصحفي صانع للخبر، لا مروّج للدعاية السياسية وغير السياسية.

 كانت وسائل الاعلام العربية متحكم بها بشكل مطلق من قبل الدولة، وبالتالي لم يكن السبق الصحفي معروفاً عند العرب، و كان المواطن  العربي يتلقى المعلومات المراد له تلقيها فقط، ولذلك ولغيره من الأسباب، كان المواطن العربي يلجأ لتلقي الأخبار من الوسائل الاعلامية الاسرائيلية والأوروبية، وكان يعتبرها أكثر ثقةً ومصداقيةً من وسائل الاعلام  الرسمية العربية، بالرغم من كونها وسائل إعلامية معادية، وتبث سموماً بين أخبارها.

بعض وسائل الاعلام العربية المقروءة في أوروبا، كانت تعمل على كسر الطوق الاعلامي الرسمي العربي، وتنشر ما تريد، ولكنها كانت ولا زالت محدودة التأثير، واستطاعت بعض الأنظمة العربية شراء بعضها، وتحويلها لأبواق لها، أما ما بقي مستقلاً منها، فقد حرص رئيس تحريرها ( عبد الباري عطوان) على الفوز بأول سبق لوسيلة إعلام عربية لمقابلة أكثر رجل مطلوب على وجه الأرض ( أسامة ابن لادن) وكان له ذلك، ولا زالت حتى الآن هذه الصحيفة، تتفرد بمواقف وسياسة إعلامية بعيدة عن التأثير الرسمي والمالي العربي.

بعد الثورة الاعلامية والمعلوماتية والفضائية، انتشرت وسائل الاعلام كانتشار النار في الهشيم، وشهدت المنطقة العربية انتشاراً كبيراً لوسائل إعلامية متعددة، منها من لعب على وتر إثارة الغرائز، وهي الغالبية، ومنها من عمل على تفعيل  الديني والسياسي والاصلاحي والفكري، وهم الأقلية،  كما ظهرت ولأول مرة ظاهرة المدوّنات والمدوّنين على الشبكة العنكبوتية، وبرزت بشكل واضح فكرة (الرأي والرأي الآخر) لأول مرة في العالم العربي، وهذا الشعار اتخذته قناة " الجزيرة" الفضائية شعاراً لها.

لا يخفى على أحد أن " الجزيرة " دفعت ثمناً كبيراً نتيجة حملها لهذا اللواء، و يحسب لها أنّها أجبرت الآخرين على التّشبه بها وتقليدها، وبالتالي فتحت نافذةً أوسع للحريات في العالم العربي.

لم تفلح أغلب محاولات تقييد الحريات الصحفية في العالم العربي، ولكن هذه المحاولات لم تنتهي ولم تتوقف، وتواصل العمل  لحجب وحظر، وفرض عقوبات وحجب مواقع، وإغلاق صحف وتهديدات وضغوطات سياسية على دول مضيفة، وكل ذلك بهدف تقنين وتوجيه ما يقدم للمشاهد في العالم العربي.

 تعتبر فلسطين من أقل المناطق مضايقةً للحريات الاعلامية منذ  بدايات القرن الماضي، وبالرغم من مضايقات الاحتلال البريطاني، وبعده الاسرائيلي، والأنظمة العربية التي خضعت لها أجزاء من فلسطين التاريخية، إلا أنّ الحرية الاعلامية، وحرية التعبير عن الرأي كانت  من السمات الرئيسية للكفاح والنضال والمقاومة والشخصية الفلسطينية، وبالتالي كانت  ولا زالت من المقدسات في الشارع الفلسطيني، وكان - ولا زال - الفلسطينيون يشعرون بحجم الفرق بين الحريات التي يعيشونها واقعاً، وبين القيود الذاتية والخارجية التي يعيشها نظراؤهم العرب، وهذا ما يفسّر الحرص الشديد من الكثير من الأنظمة العربية على عزل شعوبها عن الاختلاط بالفلسطيني، والتعامل الأمني معه و بحساسية شديدة في المطارات والمعابر العربية، حرصاً منها على أن لا  ينقل الفلسطيني عدوى الاعتزاز بالحرية  لنظرائه من الشعوب العربية.

بعد إنشاء السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، عاش الفلسطينيون معضلة إزدواجية إنشاء كيان سياسي عربي على غرار الأنظمة العربية الاخرى، وبين المقّدس الذي يعتبرونه من مكونات شخصيتهم النضالية والكفاحية، والذي لا يمكن التخلي عنه، ولذلك بدأ الصراع بين محاولات تدجين الفلسطيني من الفرد للجماعة حتى المؤسسة والوسيلة الاعلامية، ولمّا كانت فلسطين مركز الحدث العالمي، كان الضغط ولا يزال على الوسائل الاعلامية المحلية والعالمية كبيراً، لتنشر المرغوب، ولترك غيره.

هذه الضغوطات كانت تشتد وتخفّ حسب الوضع الدولي والاقليمي والداخلي، والصراع السياسي، والاختلافات في الرؤى، ولكنها لم تنتهي، ويدلل على ذلك  بإغلاق  صحف واعتقال صحفيين، وضغوطات سياسية على الدول المضيفة لفضائيات معينة، واعتداآت متعددة الأشكال، لا يمكن حصرها جميعاً، وهي معلومة للمتابعين والمهتمّين.

إضافةً للضغوطات على وسائل الاعلام، سعت الأطراف السياسية والحكومية لاستحداث وسائل إعلامية خاصة بها، تشرح من خلالها وجهة نظرها، وتحاول تقليد الأكثر شعبيةً من وسائل الاعلام قدر الإمكان، وبما يخدم رسالتها، وفي أحايين أخرى كانت تهاجم وسائل إعلامية أخرى تخاصمها، أو حتى تلك التي تتبنى خطاً وسطاً.

لا يمكن الجزم بأنّ الأكثر شهرة من وسائل الاعلام والفضائيات، لم ترضخ للضغوطات والتهديدات والابتزاز، ولكن هذا كان نسبياً، ولم يكن  كاملاً، وكان هناك حرص من قبل هذه الوسائل على تعديل الكفّة كلما سنحت الفرصة لذلك، وهذا كان مؤشراً واضحاً على غضب الجميع منها، ومدحهم لها، وركضهم للفوز بضيافتها في نفس الوقت، والحديث هنا يدور عن قناة " الجزيرة" تحديداً، لأنّها الرائدة في هذا المجال.

الهزّة العنيفة التي تسبب بها أحد الأقطاب الأمنية في السلطة الفلسطينية - فهمي شبانة التميمي-  وما ذكره حول ملفات فساد جنسي ومالي وأمني، سلطت الضوء مجدداً على الاعلام العربي والفلسطيني بشكل عام، وبيّنت طبيعة  التعاطي مع ما أعلنه وحاول إيصاله لجمهور الناس، وانقسمت طبيعة التعاطي مع الموضوع إلى عدة أصناف:-

* الصنف الأول:-

هو الاعلام المعارض لمن استهدفهم إعلان التميمي، والحديث هنا يدور عن الاعلام المقرّب من حركة " حماس " وهؤلاء رفضوا نشر الوثائق التي يحملها التميمي، وخاصة تلك التي تتعلق بالقضايا الجنسية، لمحاذير دينية وأخرى أخلاقية وانتهاءً بالمسؤولية الوطنية العامة وسمعة الشعب الفلسطيني، واقتصر دورهم على التعاطي مع ارتدادات الهزة ونقل مقتطفات لا تمس المحددات العامة التي وضعوها لانفسهم، خاصة وانهم يملكون وثائق كتلك التي مع التميمي وبحجم أكبر بكثير، كما قالوا.

بالتالي كان تعاطيهم مع الموضوع يتّسم  بالتمنّع الشديد، ويرفض الدخول في تفاصيل التفاصيل التي من الممكن أن يتعاطى معها الاعلام الحر كما تقتضي المسؤولية الاعلامية، حسب ما قرأنا في المناهج الجامعية حول الوظيفة والرسالة الاعلامية في المجتمع الحر، وتغلّبت هنا الاعتبارات الدينية والسياسية والاجتماعية على اعتبارات الحريات الاعلامية، والمساءلة والشفافية، ودور المعارضة وإعلامها في هكذا قضايا.

وبالرغم من أنّ هذا الموقف يتناقض مع الرسالة الاعلامية العلمية المجردة في المجتمعات الحرة، إلا أنّ التعاطي مع هذه القضية بالدرجة العالية من المسؤولية الاخلاقية التي تمت، حاز على إعجاب ورضى واسع في المجتمع الفلسطيني وفي الخارج أيضاً.

* الصنف الثاني:-

وهو الاعلام الرسمي وغير الرسمي المؤيد للسلطة والمستهدفين من إعلان التميمي، وهؤلاء تميّز تعاطيهم مع الموضوع بعد ة طرق، أبرزها كان  التكذيب والإنكار  أولاً، ومن ثم اتهامه هو بالعديد من التهم الكيدية التي وجد أنّه من السهل إسقاطها وردّها، وكانت هذه الوسائل تنشر رأي من يهاجمون التميمي وتستضيفهم، وترفض طرح وجهة نظره هو، وكان هناك إجماع من هذه الوسائل على رفض مناقشة ما يحمله التميمي، وما يقول أنّه موثق بالملفّات والوثائق والتسجيلات، واختارت سبيل " اتهام من كشف الجريمة، بكافّة التهم، ومنها العمالة للاحتلال، وتجاهلت طلب التحقيق مع أو محاسبة  من قام بالفعل الشائن"  كما قال الدكتور عبد الستار قاسم.

وتجاهلت هذه الوسائل كل الدعوات وخاصة من مؤسسة ( أمان) التي تختص بمحاربة الفساد في السلطة، وغيرها من الدعوات التي دعت لتشكيل لجان مختصة لدراسة ما يحمله التميمي، ورأت هذه الوسائل الاعلامية،  أنّ أفضل وسيلة للدفاع هي الهجوم، ورد الاتهام باتهامات وكفى.

أما أحد أقطاب  الاعلام الرسمي، فقد فاجأ الجميع حينما قال علانيةً عن قيادة حركة فتح " أغلبنا مثل الحسيني لولا الكاميرا" وبهذا هو يقول أنّ أغلب الطبقة السياسية التي تحكم الشعب الفلسطيني، والتي تتحكم في القرارات المصيرية في رام الله فاسدة أخلاقياً، وهو هنا يقر بصدق ما قاله شبانه بشكل ضمني، ويضيف أنّ الغالبية من أقران الحسيني فاسدون مثله. إنّ هذا الطرح من إعلامي مخضرم، ووكيل وزارة الاعلام في رام الله، ما هو إلا قول صريح، أنّنا هكذا ويجب أن تقبلونا كما نحن؟! ، وهذا الطرح، وبالرغم من كونه صريحاً وواضحاً وشفّافاً، إلا أنّ ينطوي على خطورة بالغة، لكونه يقول أنّ غالبية الطبقة السياسية التي تتحكم في القرار الفلسطيني فاسدة، وبالتالي فهي ليست أهلاً لحمل ملفّات ثقيلة، مثل ملف القضية الفلسطينية، لأنّ الفاسد هو الأسهل والأكثر رضوخاً للاملاآت الخارجية، كما يقول المحلل السياسي عبد الستار قاسم.

* الصنف الثالث:-

  الاعلام العربي بشكل عام و بعض الفلسطيني، وتحديداً الوسائل التي من المستحيل أن تتجاهل هكذا قنبلة إعلامية، وخاصة قناة "الجزيرة"  هؤلاء تعاطوا مع الخبر وكأنّه غير موجود، ورفضوا من البداية التعاطي معه، وذكر التميمي أنّه اتصل كثيراً بمدير مكتب "الجزيرة" بهذا الخصوص ولكنّه تجاهله، وهنا حرص هذا الاعلام على تجاهل الرأي والرأي الآخر في نفس الوقت، ولكنّه لم ينسى أن يتطرق للموضوع فيما بعد كخبر هامشي، سرعان ما لم يتكرر، وفي النهاية حاولوا العودة للصدارة في تناول الموضوع بعد أن استنفذ غالبية تفاعلاته تقريباً، ولكن هذا التعاطي الاعلامي مع هذا السبق الصحفي والقضية المفصلية شكل تراجعاً جوهرياً لمؤسسات إعلامية تحمل لواء التغيير في العالم العربي، وأثبت أنّ هناك سقفاً سياسياً لهذا الاعلام، سرعان ما يقف حائلاً بينه وبين إيصال رسالته للجمهور.

*الصنف الرابع:-

الاعلام الالكتروني، وهو الاعلام الذي كان له الدور الأبرز في التعاطي مع القنبلة الاعلامية التي فجّرها التميمي، وقامت غالبية المواقع الالكترونية بالحديث عن كل شيء في هذا الموضوع، بل خضع الموضوع لجدال ونقاش موسّع على عالم الشبكة الالكترونية، وبالرغم من كونه وصل لمراحل من السلبية أحياناً، إلا أنّه خير من ناقش أبعاد هذه القضية، وكان هذا النمط الاعلامي هو الوحيد  الذي لم يأبه ولم يخضع للتوازنات السياسية، التي منعت الوسائل الاعلامية الأخرى عن التعاطي مع هذا الموضوع، وبالتالي توّج الاعلام الالكتروني على رأس الاعلام العربي بجدارة، ويحسب له أنّ قاد وسائل الاعلام الأخرى هذه المرة لبحث هذه القضية واللحاق به.

* الصنف الخامس:-

هو الاعلام الذي كان الوسيلة التي لجأ لها التميمي لنشر بعض ما لديه، وهو الاعلام الاسرائيلي والأمريكي باللغة العربية ( فضائية الحرة) بعد أن أغلقت السبل أمامه عربياً. هذا الاعلام ناقش الموضوع من خلفية خاصة جداً، وهي كونه إعلاماً معادياً. حرص هذا الاعلام على التعاطي مع كافّة تفاصيل القضية، ومن الجدير بالذّكر أنّ استدعاء الاعلام الاسرائيلي وخاصة الصحفي يحزقيلي، وكاميرا قناته "العاشرة" لم يكن مقتصراً على "شبانة" ، وأنّ هناك من استدعى هذه القناة لمرافقة قوى الأمن الفلسطينية في الخليل وجنين  أثناء حملة الاعتقالات والمداهمات، والتي ظهرت فيها الكثير من الممارسات التي تضمنت اعتداآت على عناصر حركة "حماس" وبيوت مواطنين فلسطينيين، وأظهرت صورة مسيئة لتلك القوات، أثارت حفيظة    زياد أبو زياد أحد قيادات  حركة فتح.

ولذلك يحتجّ من يدافعون عن موافقة  التميمي على استضافته على القناة العاشرة الاسرائيلية، بأنه ليس الأول، وأنّ هناك من استدعى خصّيصاً تلك القناة لتنشر الممارسات الأمنية الفلسطينية الداخلية ضد الفلسطيني الآخر، التي يأنف المشاهد من رؤيتها على تلفزيون عربي، فكيف بالتلفزيون الاسرائيلي؟.

* الصنف السادس:-

الاعلام العربي المهاجر، وهو الذي قرر اللحاق بركب المتابعين لهذه القضية، وتحديداً قناة  "الحوار" الفضائية - التي سبقتها صحيفة "القدس العربي" في تناول الموضوع-  وكانت هي القناة العربية الفضائية الوحيدة التي تناولت الموضوع مع التميمي في لقاء مطوّل لمدة ساعتين كاملتين.

من خلال متابعة تداعيات القنبلة الاعلامية على الأداء والوظيفة والرسالة المطلوبة من الاعلام، يتبين أنّ الغالبية العظمى من المؤسسات الاعلامية العربية، وخاصة الفضائية والمكتوبة، تنازلت عن دورها الاعلامي في نقل الخبر ونقاشه، وعرض الرؤى المختلفة من القضايا الحساسة، وتصرفت  بطرق مغايرة لما تعلن أنّها تحمله من رسالة للجمهور، وتبين أنّ سقف الحريات لا زال منخفضاً، ويخضع لاعتبارات وحسابات كثيرة، تمنعه من التحرك بفاعلية في القضايا الحساسة التي تهم المواطن العربي، وظهر جلياً عودة صورة إعلامية كنّا قد نسيناها من قبل، وهي لجوء المواطن العربي لوسائل الاعلام الاسرائيلية والأجنبية، والاعلام العربي المهاجر، للحصول على الخبر المفصلي المحجوب، مع أن تلك الوسائل الاعلامية كان بإمكانها مناقشة الموضوع بموضوعية، بلا عرض للصور المخلّة، فهل هي انتكاسة مؤقتة، أم هي استقالة الاعلام العربي؟