إيران والمحرقة النووية والمذهبية!
جهاد فاضل
لأول مرة في الصراع المتأجج منذ سنوات بين الولايات المتحدة وإيران، ترد في الأخبار عبارات لم تكن تستخدم في السابق. فالرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي يحذر من محرقة نووية دون أن يوضح أكثر.
ولكن وسائل إعلام عالمية مختلفة تولت هذا التوضيح فتحدثت عن إمكان لجوء الولايات المتحدة إلي السلاح النووي الذي يمكن وحده أن يردع إيران في سياسة الغلو والتطرف التي تنتهجا في المنطقة، وصولاً إلي تسليحها حركة طالبان الأفغانية.
ومع أن إيران تعرف بالطبع نوايا الولايات المتحدة تجاهها، وكونها لن تستسلم إزاء هذه السياسة، إلا أنها مصرة عليها. فآخر ما أعلنه الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد أن المنطقة بعد زوال العصر الأمريكي ستكون بخير، وأن بلاده، بمساعدة الشعب العراقي وبقية شعوب المنطقة، ستتولي ملء الفراغ الحاصل. أما إسرائيل فما عليها إلا أن ترحل، وإلا تحولت هباء منثوراً.
وكان الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله قد صرح قبل أيام أن تاريخ المنطقة سيتغير، وأن أذي عضوياً سيصيب إسرائيل إذا هي اعتدت علي لبنان. ولأن من غير المتصور، في الظروف الحالية، ومنها وجود قوات اليونيفيل في الجنوب اللبناني، أن تعتدي إسرائيل علي لبنان، فقد وضع المراقبون عبارة أمريكا محل عبارة إسرائيل ، وعبارة إيران محل عبارة لبنان يستقيم المعني الذي يضمره الأمين العام لحزب الله. فهو في الواقع يحذر أمريكا وإسرائيل منها من مغبة ضرب إيران. والتحذير لم يشكل مفاجأة لأحد، لأنه تحصيل حاصل.
كل ذلك يؤشر إلي سخونة متصاعدة في مناخ المنطقة. وهناك من يجزم بان ما تبقي من الصيف إن مر بسلام، فالخريف لن يعرف هذا السلام. فسيشهد مواجهة شديدة السخونة بين قطبي الصراع لن تكون بقية دول المنطقة بمنأي عنها.
وسيكون لهذه المواجهة نتائجها البعيدة والكارثية لا علي المنطقة وحدها، بل علي العالم برمته.
ويبدو من خلال استقراء ما حصل خلال الأسابيع القليلة الماضية أن الولايات المتحدة فشلت في تخفيف لهيب فرن الغاز ، وهو الاسم الذي اطلقه أحد المسؤولين في الخارجية الأمريكية علي محمود أحمدي نجاد وسياسات إيران.
فهذا الفرن يتصاعد لهيبه مع الوقت وبلا هوادة، وكأنه أفلت من عقاله، أو فقد أية امكانية مسيطرة عليه. بل كأنه انتحاري لم يعد للحياة من معني بالنسبة إليه. فهو يُقبل علي الموت، تماماً كما يُقبل الظمآن علي الماء.
وأياً كان التشبيه الذي يمكن أن يعطيه المراقب لاندفاعة إيران الحالية نحو المواجهة مع الولايات المتحدة، فإن أحداً في العالم الخارجي لا يمكنه أن يتصور أن الولايات المتحدة سوف تُهزم، وأنها ستترك مصالحها الاستراتيجية الهائلة في الشرق الأوسط لتهتم بحقول الأسكا في المحيط المتجمد الشمالي، تاركة كل شيء برعاية الحرس الثوري الإيراني وحزب الله وحركة حماس.
في البدء كان الغلو، وهو ما نهي عنه الإسلام. فمن راقب الحركة الشيعية المعاصرة، بدءاً من وصول الخميني إلي السلطة، وجد ال لا علي الدوام تتقدم علي ال نعم ، حتي لكأن الرفض استراتيجية لا يلحقها تبديل أو تغيير.
وقبل أن يكون الرفض هو شعار المواجهة مع العالم، كان أيضاً شعار المواجهة مع الإسلام والمسلمين الآخرين، ومع السنة قبل أي شيء آخر، وهو المذهب الشائع والرسمي تقليدياً للإسلام.
وقد ارتكبت هذه الحركة الشيعية المعاصرة، وقيادتها تقع في إيران، خطأً تاريخياً عندما سلكت عملياً وواقعياً ما يشبه الانفصال أو الانشقاق في الوقت الذي كانت قد نجحت في أن تأخذ لنفسها موقفاً كمذهب إسلامي مساوٍ في الحقوق لسائر المذاهب الإسلامية.
وقد عجزت هذه الحركة عن أن تقدم نفسها كجهة منتمية بالكامل إلي المفهوم التاريخي للإسلام والفكر الإسلامي.
وكان واضحاً انزعاجها الدائم من المركز، سواء كان مكة أو المدينة، واصطناعها مراكز أخري مثل النجف أو كربلاء أو قم.
وبسبب اصرارها علي التمايز، واختلاف أولوياتها في أحيان كثيرة عن أولويات المسلمين الآخرين، بدت أقرب إلي الحركة المنشقة داخل الإسلام منها إلي أي شيء آخر.
ومن ينصت إلي خطاب هذه الحركة يجد غياباً غير مبرر لرموز إسلامية أساسية، وحضوراً مبالغاً فيه لرموز إسلامية أخري.
فإذا كان المسلمون مجمعين علي تكريم الخلفاء الراشدين بلا استثناء، نظراً للدور المتميز الذي أداه كل منهم للإسلام عند تأسيسه، نجد هذه الحركة تعتم علي الخلفاء الثلاثة الذين سبقوا علياً، وتكاد لا تعترف بأي فضل لهم، أو لا تعترف علي الاطلاق، وتبالغ في العصبية لعلي، كرم الله وجهه، ولآل البيت، هذا في الوقت الذي لا يجهل فيه أحد فضائل هؤلاء الخلفاء الثلاثة وأدوارهم في نشر الإسلام وتأسيس الدول بعد وفاة الرسول صلي الله عليه وسلم.
ودون أن ينكر أحد فضائل علي، وكتابه نهج البلاغة، وهو اسم علي مسمي، فمن غير الممكن أيضاً إنكار فضائل أبي بكر وعمر وعثمان، وقد كانوا مع علي فريقاً واحداً. كان أبو بكر صاحب النبي في الغار عندما كان جبريل يبلغه آيات الله. ولعمر، وهو رجل دولة بالمعني الحديث للكلمة، من المكرمات، ومنها فتح العراق وفارس، ما لا يجهله أحد.
وفي عهد عثمان وصلت الفتوح الإسلامية إلي أقاصي العالم. ويكفي عثمان فخراً أنه اهتم بجمع القرآن الكريم، وبذلك أفصح عن عقل مؤسسي مبكر قبل أن يعرف العالم المؤسسات. وقد شارك علي في مبايعة الخلفاء الثلاثة الذين سبقوه إلي السلطة، وكان عوناً ونصيراً لهم.
وفي آخر كتاب صدر للباحث العراقي حسن العلوي، عنوانه عمر والتشيع يفهم صراحة إن الإمام علي كان نوعاً من مستشار لعمر في شؤون الدولة الإسلامية الفتية. فلم تكن هناك خصومة بين هؤلاء الخلفاء الأربعة، طيب الله ذكرهم، بل تعاون وتعاضد، ولكلٍ منهم فضائل عطرة خالدة.
وإذا كانت قد نشأت فتن فيما بعد بين علي وأبنائه من جهة، ومعاوية ويزيد، فقد كانت فتناً جوهرها سياسي لا ديني لا تمس جوهر العقيدة. فالعقيدة واحدة وهي الإسلام والرسول واحد هو محمد صلي الله عليه وسلم.
ولكن بدلاً من سلوك سبيل الوحدة، نجد في الحركة الشيعية المعاصرة من يحرص علي التمايز والاختلاف كون السنة شيئاً والشيعة شيء آخر وأن آل البيت شيء وبقية القيادات الإسلامية شيء آخر، في حين أن الجميع ينبغي أن يكون واحداً.
وقد نهي الرسول صلي الله عليه وسلم عن العصبيات الجاهلية، ومنها عصبية القربي الدموية، وأشاع عصبية مباركة أخري هي العصبية للإسلام وحده. ألا يتناقض هذا مع وصف عثمان، علي سبيل المثال، بأنه أُموي ومن قبيلة أخري؟
ولو كان لقربي الدم مثل هذه المكانة، فلماذا لم يفطن المسلمون الأوائل إليها؟ ولماذا أقبلت علي الإسلام قبائل وشعوب لا تربطها صلة قربي بآل البيت، وهم بالطبع مكرمون أبعد حدود التكريم؟
لا يُنكر أحد أن بين فارس القديمة وبين العرب المسلمين حقداً تاريخياً.
ففارس لم تغفر للعرب، وهم قبائل صحراوية متفرقة متنازعة بنظرها، أنهم استولوا عليها وحكموها قروناً متطاولة. لذلك عمد الفرس عبر التاريخ الإسلامي إلي الكيد للعرب فأنشأوا الحركة الشعوبية التي عمدت، وبصورة منهجية إلي هدم المقومات والثوابت العربية، والتهوين من أمر العرب شعباً وتاريخاً وثقافة. وحتي قبل نشوء الحركة الشيعية السائدة الآن، كانت إيران الشيعية تقف علي الدوام ضد العروبة والحركة العربية العاملة للوحدة.
فقد وقفت إيران هذه، زمن الشاه السابق، مع الشاه ضد العروبة بكل تجلياتها. وها هي الآن، لا تتلفظ مرة واحدة بعبارة عروبة أو أمة عربية، أو إسلام بالمعني الجامع الواحد، بل تتصرف علي الدوام علي أن هناك عربين لا عرباً واحداً، وعلي أن هناك إسلامين لا إسلاماً واحداً.
وإذا تحدثت إيران عن أمة إسلامية، فليست هذه الأمة هي الأمة الإسلامية كما يتصورها المسلمون في أصقاع الدنيا، بل هي أمة إسلامية شيعية فاتيكانها يقع في طهران أو في قم. وقد قادت مثل هذه السياسة إلي كوارث بلا حدود. فصحيح أن الحديث عن سنة وشيعة، ألحق بالأمة العربية أضراراً عضوية وإلي آجال غير معلومة، إلا أن هذا الحديث ألحق أضراراً أشد وأفدح بالإسلام نفسه.
فالفرقة، نتيجة هذه السياسة تفتك بالمسلمين الآن. والفتنة وقعت، وستقع، وسوف تقع. وقد يكون ما سيقع، وما سوف يقع، أفدح وأخطر نتيجة تصدير ثقافة متطرفة غريبة عن الإسلام وسماحته واعتداله، هي ثقافة الغلو والتشدد والطاعة العمياء للفقيه، أو للمركز الجديد.
وهي ثقافة تتعارض تعارضاً جوهرياً مع الثقافة الإسلامية المعروفة. فالغلو ليس إسلامياً البتة. وقد نهي عنه الرسول صلي الله عليه وسلم بصراحة ما بعدها صراحة. وفي الإسلام يسود العقل والمنطق والاعتدال وتقليب الأمور علي شتي وجوهها تمهيداً للإذعان لحكم العقل واطاعته، لا إطاعة أي شيء آخر.
وليس في الإسلام ما يأمر بالموت، أو يحرض عليه. حرم الإسلام الانتحار، ودعا إلي الاقبال علي الحياة والتنعم بمباهجها. وليس في الإسلام أي تعصب للشخص أو الأشخاص، أو تنزيههم، أو رفعهم فوق مستوي البشر.
ولا يمكن لسياسة الغلو والتعصب والإلحاح علي التمايز، وكذلك لسياسة الصواريخ وامتلاك القوة التي لا تُقهر، وكون أمريكا في منطقة الشرق الأوسط، وفي الخليج علي التحديد مرحلة في طريقها إلي الزوال، وأن علي العالم ألا يخشي من الفراغ الذي سينشأ لأن إيران ستعبئه بمساعدة شعوب المنطقة، لا يمكن لمثل هذه السياسة أن تقود إلا إلي الكوارث، وإلي الكوارث التي لن ينجو منها أحد.
وإذا كانت إسرائيل، بنظر الرئيس محمود أحمدي نجاد، أوهي من خيوط العنكبوت، فهي بنظر المجتمع الدولي أمنع من عقاب الجو.
نحن نكرهها كما يكرهها، ولكن تحري فلسطين لا يتم علي هذه الصورة، كما أنه ليس مهمة إيرانية فقط لا غير، بل مهمة عربية وإسلامية وإنسانية عامة.
والتحرش بإسرائيل وبأمريكا اليوم، لن يقضي أبداً عليهما.
وأخشي ما نخشاه أن تحمل هذه السياسات كلها مقامرة بمصير إيران ونظامها السياسي بالدرجة الأولي، وأن تعيد المنطقة قروناً إلي الوراء. وإذا كان الشيعة قد عرفوا علي امتداد التاريخ الإسلامي الانتفاضات غير الموفقة علي خصومهم، فالخوف كل الخوف أن تكون الانتفاضة الجديدة أقلها توفيقا وأكثرها أخطاراً!