معالم مرحلة ما بعد الانسحاب من غزة
معالم مرحلة ما بعد الانسحاب من غزة
د.عصام عدوان
جامعة القدس المفتوحة
لقد سجلت إسرائيل سابقة في تفكيكها لمستوطنات أُقيمت فوق "أرض الميعاد" حسب زعمها، فكان ذلك تراجع أيديولوجي خطير في الاستراتيجية الصهيونية الجديدة، سيثمر نفسية تراجعية في سلوك الحكومات الإسرائيلية القادمة، تجاه مستوطنات الضفة الغربية. وقد بدت معالم هذه النفسية التراجعية من أقوال شارون بأنه ليس من المستبعد تنفيذ انسحابات أخرى في الضفة الغربية لاحقاً.
لكن رفْض نتنياهو لخطوة الانسحاب وسعيه لحشد المعارضين لها خلف رايته سوف يمكّنه من تحقيق الفوز في انتخابات رئاسة الوزارة في إسرائيل بعد بضعة شهور، وسوف ينجح نتنياهو في تسويق نفسه بين المستوطنين والأحزاب الدينية، وكافة المعارضين، على أنه القادر على حماية المشروع الصهيوني من الانحراف أو التراجع. وعملياً لن يكون بمقدور نتنياهو التراجع عن الانسحاب بعد أن تمّ تفكيك المستوطنات نهائياً، لكنه سيعمل جاهداً على ألا يحصل الفلسطينيون على أكثر من ذلك مهما حصل، ولذلك سيعمل على إبقاء الوضع في قطاع غزة، فضلاً عن الضفة الغربية، على ما هو عليه لحظة خروج الاحتلال من غزة، ويُستشفُّ ذلك من رغبة إسرائيل في إغلاق معبر رفح لستة شهور ليتم نقله إلى منطقة حدودية مشتركة بين مصر وإسرائيل وقطاع غزة (كيرم شالوم). فالستة شهور المقصود بها فسح المجال أمام حكومة نتنياهو المقبلة لتتابع الأمر على طريقتها، وفي تجربة نتنياهو السابقة بعد أن خَلَفَ رابين في رئاسة الحكومة دليل على أسلوبه في الحكم.
أما الولايات المتحدة فستكون مقبلة على عدة أمور ستشغلها قليلاً عما يجري في الأراضي الفلسطينية، فالإعصار الذي ضربها لم تنته آثاره، بل من المرشح أن تتفاقم المشكلة، وتأخذ أبعاداً صحية واجتماعية واقتصادية وسياسية، ستؤثر على مكانة وسمعة بوش، وستأخذ حيزاً كبيراً من اهتماماته، ولا سيما وهو يرى أن إسرائيل قد أفلحت في تخفيض حدة المواجهة بينها وبين الفلسطينيين بما يسمح بترك القضية الفلسطينية على حالها إلى أن تتفرغ لها أمريكا بشكل أفضل. ومن جهة ثانية فإن المقاومة آخذة في التصاعد في العراق وأفغانستان، وسيكون هذا محرجاً لبوش وإدارته وهما يتلقيان النقد في الجبهة الداخلية، حيث أصاب الإرباك موازنة الحكومة الفدرالية نتيجة الإعصار والحرب في العراق وأفغانستان وتداعياتها الدولية على السواء، ولهذه المشكلات ذيولها التي تشغلها عن الالتفات للوضع الفلسطيني – الإسرائيلي، وقد تكون مرتاحة لسياسة التجميد التي سيتبعها نتنياهو.
وفيما يتعلق بالأراضي التي أخلتها إسرائيل، فقد احتفظت إسرائيل لنفسها بحق التدخل في قطاع غزة لإجهاض أي عمل مقاوم ضدها، فإسرائيل ترى نفسها دولة ضامنة للأمن في المنطقة، ولن يُعْتَد باعتراض السلطة الفلسطينية على ذلك التدخل، باعتبار أن حفظ الأمن في الأساس هو مهمة فلسطينية، وما لم تقم به السلطة فستقوم به إسرائيل. ولكن حجم الملاحقة الأمنية الإسرائيلية سينخفض بدرجة ملموسة، ولا أحد يتوقع كيف وأين ومتى سترد إسرائيل على أية عمليات تنفذها المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية، لكن أي عمل مقاوم ينطلق من القطاع فسترد إسرائيل داخل القطاع بوسائل تقنية وليس بأسلوب الاجتياحات. كما لن تسمح إسرائيل بزيادة تسليح قوى الأمن الفلسطينية، لأنها ستخشى انتقال هذه الأسلحة لأيدي المقاومة يوماً ما أو بطريقة ما، وستلتزم مصر بالعمل على منع دخول أي أسلحة نوعية إلى قطاع غزة.
وقد تسمح إسرائيل بعودة بضع آلاف من الفلسطينيين من لبنان تحديداً، وخصوصاً قوات فتح مع عائلاتهم، وقد يتم إسكانهم على أرض إحدى المستوطنات المدمَّرة. ولن تسمح إسرائيل بعودة واسعة النطاق للاجئين، وسوف تكون السلطة الفلسطينية مهيأة لتقبُّل هذا الواقع نظراً لانشغالها في العديد من القضايا العالقة مع إسرائيل من أجل استكمال مظاهر السيادة الكاملة. وستحتفظ إسرائيل برقابة ذات سلطة على المطار، لكن حركة النقل البشري عبره ستكون أسهل بشكل عام، كما قد تُحْدث انفراجاً في سيطرتها على معبر الأفراد مع مصر، لكنها لن تجازف بترك سيطرتها على معبر البضائع.
وبالنسبة للاقتصاد الفلسطيني فمن المتوقع أن يظل مرتبطاً بإسرائيل؛ فموانئ الاستيراد هي الموانئ الإسرائيلية، والعملة هي الشيكل، ومعبر البضائع مع مصر بإشراف إسرائيلي متحكم فيه، وصيد الأسماك ضمن مسافة 10-15 ميل كحد أقصى وهي غير كافية لزيادة الكميات وزيادة تنوعها، ومصادر الأعلاف والأسمدة والبذور كلها من إسرائيل، ومعظم الفواكه سيتم استيرادها من إسرائيل، وستبادلها إسرائيل مع الورد والفراولة والبندورة من غزة، وبالمجمل سيبقى الوضع الاقتصادي على ما هو عليه من حيث علاقته بإسرائيل. ومن المتوقع أن تسمح إسرائيل لحوالي عشرين ألفاً من العمال الفلسطينيين بالعمل لديها، وقد رغب الجانب الفلسطيني بتمديد فترة استعمالهم من ثلاث سنوات إلى خمس سنوات، الأمر الذي يزيد في ربط الاقتصاد الفلسطيني بالاقتصاد الإسرائيلي.
وبالنسبة للشأن الداخلي الفلسطيني، من المرشح بعد مقتل موسى عرفات أن يسعى محمد دحلان إلى توحيد الأجهزة الأمنية تحت قيادته، وسيكون على رأس أجندته فرض هيمنته على الجميع وبلا استثناء، وسيثير ذلك توتراً دائماً، خصوصاً مع حركة حماس، والتي من المستبعد أن يتمكن من إخضاعها بالقوة، لكنه قد يستثير مخاوف حماس – عبر سلسلة إجراءات - أنها مالم تتفق معه فإن الفتنة ستأكل الأخضر واليابس، وسوف يراهن على الحس الديني لدى حماس الذي يمنعها من استباحة دماء الآخرين كما يَعتقد. ومن الراجح أن محمد دحلان سيسطع نجمه بشكل أكبر في المرحلة القادمة في أوساط حركة فتح، وقد يتمكن من إخضاع أقاليم الحركة بالترغيب والترهيب، وسينجح بالترغيب أكثر من الترهيب في استمالة معظم شباب وكوادر الحركة الشابة، ويمكن التنبؤ بتوجهات الحركة بعد نتائج انتخابات الأقاليم في نوفمبر القادم.
وبالنسبة للمقاومة المسلحة، فإنها ستجتهد في نقل عملياتها إلى الضفة الغربية، وقد تسعى حماس في غزة للحصول على صواريخ يصل مداها إلى عسقلان وأسدود، عندها يمكن لحماس أن تفرض برنامجها وأن يحسب لها الجميع كل حساب، وخصوصاً إذا استأنفت عملياتها سريعاً ومنذ الأيام القليلة القادمة قبل أن يرتب الآخرون أنفسهم ويتهأوا للمعركة معها. ومن المتوقع أن تشهد نهاية ولاية نتنياهو انسحاباً من أجزاء واسعة من الضفة الغربية كما شهدت نهاية ولاية شارون انسحابه من قطاع غزة، وذلك في الحالتين بفعل استمرار المقاومة.