هل ينفكّ الرئيس السوري عن النظام الأمني؟
هل ينفكّ الرئيس السوري عن النظام الأمني؟
كاتب سوري
يطرح السوريون هذا السؤال على أنفسهم وفي محافلهم، بعد أن تبين حجم التناقض بين وعد الرئيس (الإصلاح) وأدواته، وظهر أن النظام ليس راغبا في التغيير، بعد أن تحول نظاماً محافظاً يدافع عن وضع تتمتع فيه قلة بامتيازات يفترض أنها تتعارض مع شعار الاشتراكية، المرفوع في الحزب، أو العدالة الاجتماعية، التي يدعو إليها الحس السليم في ظروف الأزمة المعيشية المستعصية، التي تعصف بغالبية الشعب السوري.
وكان منتظرا أن يعلن الرئيس منذ لحظة توليه السلطة انفصاله عن النظام أو عن جوانب منه، لأسباب بينها تجربة الشعب السلبية مع نظام لم يكن الرئيس شخصيا من صنّاعه، فلا يجوز أن يتحمل، تاليا، المسؤولية عنه عامة، وعن قمعه وفساده وسوء إدارته وتسيبه وفوضاه الرسمية المنظمة وخياراته الاقتصادية والاجتماعية الفاشلة.
وكان منتظرا، كذلك، أن يسترد السلطة من الأمن، بعد أن أعلن وزير الدفاع السابق مصطفى طلاس في أحاديث ثلاثة إلى جريدة "الأهرام" المصرية ومجلة "المجلة" السعودية وتلفاز أبو ظبي، أنها لم تكن في يد والده خلال العامين السابقين لوفاته، وروى أن حافظ الأسد تذمر من أنـ"هم" يكذبون عليه منذ عامين، وأنه يستغرب سكوت الشعب السوري عليـ"هم"، وأنه كان سيقود مظاهرات ضد"هم" لو كان في صحته.
أخيرا، فقد كان منتظرا أن لا يتحالف الرئيس مع قوى الفساد في السلطة والحزب، لأن تحالفه معها أو سكوته عليها سيحبط الإصلاح، وسيمنعه من بدء عهده الخاص، الذي علّق الشعب الآمال عليه، واعتقد أنه سيكون صفحة جديدة في السياسة السورية، وليس مجرد استمرار لسياسات سابقة، انتهت إلى الفساد والعجز والضعف، وسيادة مبدأ اللهم أسألك نفسي وكرسيّ، الذي أهلك البلاد والعباد.
لم ينفصل الرئيس عن النظام، بل تبنّاه جملة، رغم أنه أشار مرات عديدة بالنقد إلى تفاصيل منه، وحاول زحزحة صخرته الثقيلة في بعض القضايا، لكن محاولاته لم تنجح، لأن محاولاته استهدفت الإبقاء على بناه وعلاقات مكوناته الداخلية وصلاتها بالمجتمع، حتى إن بعض ملاحظي الشأن السوري اعتقدوا أن غياب حافظ الأسد كان فرصة ضاعت على سوريا، فقد حال دون إتمام ما كان عازما عليه من إصلاح، قيل إنه كان سيطاول أركان النظام وبناه، وسيتجه إلى إقامة شيء مختلف عنه من جوانب كثيرة، وأن رئاسة الدكتور بشار وطريقته في الإصلاح، التي لم تبدأ من النقطة التي توقف عندها مشروع الأب، واتسمت بطابعها الجزئي والمحدود، فوتت على البلد فرصة إصلاح حقيقي .
واليوم، وقبل انعقاد مؤتمر الحزب، الذي توجد حوله وجهات نظر وآراء وشائعات وتخمينات... الخ كثيرة ومختلفة، لكنها تتفق جميعها على اعتباره نقطة فصل بين عهدين، فإما أن يقوم بعدها عهد جديد يلبي تطلعات المواطنين وطموحاتهم يكون فيه خير بلد مطوق ومعزول ومهدد، أحواله مأزومة وشعبه متعب وسلطته عاجزة، فليس بوسعها إنقاذه في ظل وضعها الراهن أو أي وضع يشبهه، ومن الضروري إنقاذه عبر تجديد حياته السياسية في حاضنة المشاركة والديموقراطية ودولة الحق والقانون والنزاهة ومحاربة الفساد... الخ، أو أن يستمر العهد القديم في صيغته الرئيسة المهلكة، أو صيغ محورة ومعدلة، لتبدأ عندئذ مشاكل داخلية لا شك في أنها ستطاول كلا من السلطة والمجتمع، بعد أن بلغت علاقاتهما طورا يستحيل معه استمرار نمطها الراهن، وتفاقمت الأزمة الداخلية وأخذت تمس حياة كل مواطن وكرامته، وانهارت سياسة النظام الخارجية بسبب سيطرة عقل أمني عليها، كبح أي إجراء استهدف تخليصها من عيوبها وقوض محاولات تجديدها، كما يظهر من تجربة لبنان، حيث استهتر بمصير بلده من أجل مصالح قلة فاسدة من ضباطه وقادته.
لكن المؤتمر سيكون من جهة فرصة لتخلص الرئيس من نظام لم يكن يوما، وليس اليوم أيضا مسؤولا عنه، أو عمّا قام به من سياسات خلفت قدرا هائلا من المرارة في نفوس غالبية المواطنين، ومن جهة أخرى مناسبة لبدء عهده الخاص، الذي وعد بنقل البلد من الدولة الأمنية إلى الدولة السياسية: دولة الحق والقانون والحريات العامة والشخصية، عبر تحالف مع المجتمع السوري، الجهة التي تم إخراجها من السياسة وتخويفها وأصابها شلل ستكون عواقبه وخيمة من الآن فصاعدا على السلطة، المضطرة للاستعانة به في الدفاع عن نفسها، لكنه لن يستطيع مد يد العون لها إلا إذا شارك في الشأن العام، وتحول إلى حامل وضع جديد، يختلف عن الوضع الذي قام في البلد خلال السنوات الأربعين الماضية، وكان من نتائجه تحييد جسم الحزب الشعبي الواسع، وإصابته بالشلل، وإخراجه من السياسة بدوره، وتعريضه، شأن الجسم الشعبي العام، لكثير من الظلم والتعسف.
وللعلم، فإن تحالف التيار الإصلاحي مع الشعب يستطيع وحده قلب توازنات القوى داخل السلطة، وتحجيم التيار الأمني، ولعب دور حاسم في الانتقال إلى دولة الحق والقانون، ثم الدولة الديموقراطية، التي سميّتها الدولة السياسية.
المؤتمر فرصة ثانية، فإن أضاعها الرئيس أضاع النظام فرصه جميعها. والرئيس بانفصاله عن النظام الأمني، الذي تقادم وصار محافظا ورجعيا، لا يصارع هذه الجهة أو تلك، بل يخلص البلد من أزمة قاتلة ويقيم نظاما حديثا وشعبيا، وينفصل عن الفساد، الذي خرّب الحياة العامة وصار من الحتمي القضاء عليه لمصلحة الشعب والحزب، ويحسم الأمور في ظرف مصيري ليست فرصه بلا حدود، وأخطاره مما يحتمل التجاهل، علما بأن من سيتم التخلص منهم ليسوا غير مجموعات فاسدة، دأبت على ابتزاز السلطة وعلى دفعها إلى الهاوية، بحجة حمايتها.
ثمة فرص تاريخية لا تتكرر، إن لم تتم الإفادة منها، فإنها تمضي إلى غير رجعة، فيضيع ما تحمله من ميزات وسوانح. واليوم، وسوريا تنتظر مؤتمر الحزب وتعتبره لحظة كاشفة في تاريخها، يستحيل أن يكون ما بعدها من جنس ما قبلها او على شاكلته، سيضع تفويت هذه الفرصة أهل الحكم جميعهم تحت خانة واحدة، وسيقنع الشعب أنهم من طينة واحدة، وأن "الحرس الجديد" يضحك عليه ويخدعه بالوعود بينما يقاسم "الحرس القديم" ما ينهبه منه.
لهذا كله، من غير الجائز أن يكون مؤتمر الحزب ساحة تسويات كتلك التي شهدتها بداية رئاسة الدكتور الأسد، وأن ينتهي بحلول وسط في زمن يتطلب سياسات نقطة ثقلها ، التي يجب رؤية الأمور بدلالتها، هي الشعب والمجتمع، وليس الحزب والسلطة. ولا يجوز، أخيرا، تضييع هذه الفرصة بأي حال من الأحوال ومهما كانت العراقيل، لأنها تأتي في ظرف يجعل الإصلاح الديموقراطي العميق والشامل الخيار الوحيد، الذي يقبله الشعب، ويقدر أن ينقذ البلاد.
ماذا يضير الرئيس، في النهاية، إن هو انفصل عن نظام فاسد ومفلس كي يندمج مع شعب نزيه وخلاق ؟
(دمشق)