ديموقراطي أم وطني !

ديموقراطي أم وطني !


ميشيل كيلو

أي عفريت ركب الوطن العربي وجعل حكامه وأحزابهم يخيرونك بين أن تكون وطنيا أو ديموقراطيا ؟. وأية كارثة ترتبت على هذا الفصل بين الوطنية والديموقراطية ، التي تضع الأولى في جانب السلطة والثانية في صف عامة الناس ، وتقيم بينهما حدودا وحواجز يستحيل تخطيها بسلام ، بغير عمليات تخوين وتأثيم وقمع وعنف تسمم الحياة العامة وتطال أغلبية المواطنين ، لأن القلة التي في السلطة تنصب نفسها حارسا على وطنية شعبها المشكوك فيها ، وتعطي نفسها الحق في اختبار ولائهم لبلدهم متى شاءت وبالطريقة التي تحلو لها ، ومنطلقها في ذلك أن المواطن جاسوس أو خائن أو عميل محتمل ، وأن من حق أجهزتها الأمنية الإشراف على دقائق حياته ، لضمان سلامته وطنيا ، وبقائه بعيدا عن طبيعته المشوهة ، التي تدفع بع دفعا نحو العمالة والخيانة .
لطالما تساءل العربي بحرقة وأسى : لماذا يقوم هذا العداء المستحكم بين السلطة العربية وبين الديموقراطية ، الذي يجعل الممسكين بها يتحسسون مسدساتهم كلما لفظ أحد مواطنيهم كلمة الحرية أو طالب بالديموقراطية ، فكأن السياسة ليست تدبير الشأن العام بالتراضي مع المواطنين بل فن القمع والقهر والاستبعاد ، وكأنه ليس من مهامها ترقية وتنمية الحرية وحماية الفسحة العامة التي تتكفل برعايتها وتقوم عليها ، ويسمونها الديموقراطية؟.
لا يلتقي الوطني والديموقراطي في العقل الرسمي السائد ، فالمواطن إما أن يكون وطنيا أو ديموقراطيا ، فإن كان من الصنف الأول ، وجب أن تكون وطنيته علاقة تقوم على عامل واحد ، هو العلاقة مع عدو خارجي ما ، وهذا يفقر الوطنية ويسطحها ويجعلها بلا عمق داخلي أو معنى اجتماعي أو ثقافي أو حتى سياسي ، ويحولها إلى فسحة رسمية وفوقية تتهاوى أمام أي تحد خارجي مهما كان تافها ، مثلما حدث خلال السنوات الأربعين الماضية في البلدان العربية المختلفة . أما إذا كان المواطن ديموقراطيا ، فلا يفيد معه عندئذ غير الأمن ، جريا على تلك الجملة الشهيرة التي قالها ذات يوم فريدريك فيلهلهم الرابع : ضد الديموقراطيون لا ينفع أحد أو شيء غير الجنود – بلغة أيامنا الأمن ، أي المخابرات - لأن من المحال أن تنهض الديموقراطية على أي بعد أو عمق وطني ، لكونها في الرؤية الرسمية فكرة أميركية تستخدم لاختراق الوطن العربي وتغيير نظمه " الوطنية " ، وليست حاجة وطنية أو مجتمعية أصيلة أو داخلية .
لو تأملنا ما جرى في فلسطين بعد غياب الرئيس عرفات ، لوجدنا أن انتخاباتها الحرة تمت في حاضنة وطنية عريضة ، وأن ما انبثق عنها من ممارسة ونظام ديموقراطيين عزز الوضع الوطني الفلسطيني وقواه ، وأقام لحمة يحرص الاخوة هناك من مختلف التيارات على تقويتها بين الوطنية والديموقراطية ، حتى كأنهما شيء واحد وليستا صعيدين مختلفين ، لكنهما مترابطان ، من الشأن العام ، تتكامل فيه قوة الدولة والسلطة والمجتمع ، وتتحصن الوطنية في الأخطار، التي تهددها والتحديات التي تواجهها . يجري في لبنان أيضا شيء مشابه ، فالوطنية تتحول بالديموقراطية إلى قضية عامة توحد اللبنانيين حول مطلب الاستقلال والحرية والسيادة ، وتعيد تأسيس كيانهم السياسي ككيان وطني ، يملك فرصة حقيقية لتخطى الكثير من عوامل الفرقة والتمزق ، التي وسمت حياة لبنان الداخلية خلال السنوات الخمسين الماضية ، أو يضعفها ويحل محلها كيانا ديموقراطيا / وطنيا فاعلا ، ينهض على حديه هذين ، ويطورهما في صيغة تفاعلية وتكاملية إن استمرت كانت منطلق وهدف أي عمل عام حديث ، يتخطى الطائفية ، وضمان أية دولة تريد أن تعبر عن مواطنيها وتنمي حريتهم .
أما إذا عدنا قليلا إلى الوراء ، وتأملنا برامج بعض القوى الحاكمة ، التي تنفي اليوم علاقة الوطنية بالديموقراطية ، وتضع كلا منهما في مواجهة الأخرى ، وتجعل إحداهما تنفي الأخرى ، ويصل بها التهافت والسخف إلى درجة تجعل معها انتفاء الحرية والديموقراطية شرط الوطنية ، لوجدنا أن هذه القوى كانت تربط قبل وصولها إلى السلطة بين الديموقراطية والوطنية ، وأنها كانت ترى الوطنية بمعايير ودلالات الحرية والديموقراطية ، إلا أنها قبلت الأمور رأسا على عقب ، بمجرد استيلائها بالقوة العسكرية على السلطة ، وأعلنت أن الوطنية لا تحتمل أن يخالطها أي قدر من الديموقراطية في حقبة الصراع مع الخارج ، وأن على الأخيرة انتظار نهاية معارك التحرر الوطني وحماية الاستقلال وإشادة البناء الاجتماعي الجديد ، وإلا خدمت العدو ، وقوض تحقيقها صمود البلد وقدرته على الدفاع عن نفسه وعلى التقدم .
هذا التحول من انسجام الوطنية والديموقراطية إلى تنافيهما المتبادل ، ومن أولوية الحرية والديموقراطية في إطار الحاضنة الوطنية ، إلى نفيهما بذريعة الوطنية والتقدم الاجتماعي ، وضعنا أمام المعضلة التالية : إذا كانت الوطنية إقصائية ، تستخدم من أجل إبعاد المجتمعات عن الشأن العام ومساعدة السلطة على التحكم بمجالها الداخلي ، فإن النتيجة التي لا مفر منها ، التي تترتب عليها ، ستكون ضعف السلطة وتراجع قدرتها على حماية بلدها من الأخطار الخارجية ، وفشلها في إنجاز ما تعد به من تقدم اجتماعي . هكذا ، يصير هذا الضرب من الوطنية خطرا يهدد الوطن ، وتصير الديموقراطية مدخلا ضروريا إلى استعادة الوطنية ، وإلى شحنها بالقوة المجتمعية اللازمة لتقوية الوطن وتعزيز قدراته ، وهذا شرطه حدوث تغيير حقيقي في السلطة يبدل أسلوب عملها وطرق اشتغالها وقبل هذا وذاك بنيتها . بقول آخر : يفضي الضعف الذي يصيب الوطن بسبب غياب مجتمعه عن شؤونه إلى تهافت الوطنية كنهج ، وإلى بروز أهمية الديموقراطية وما تضمره من تأكيد على نمط مختلف من الوطنية يقوم على وحدة الدولة والمجتمع . ومن أسف ، فإن الممسكين بالسلطة لا يفهمون الأمر على هذا النحو ، بل يردون على عجزهم عن حماية الوطن بإحكام قبضتهم على الديموقراطية ، وبالإلحاح على طابع السلطة الشمولي ، المغلق والإقصائي ، ويوترون علاقتهم أو ما تبقى منها مع مجتمعهم ، ويتشددون في اعتبار الديموقراطية خطرا وليس فرصة أخيرة ، فيطاردنها بلا هوادة ، رغم ما ينجم عن ذلك من انكشاف وطني ، ويبدو وكأن السلطة دخلت في طور من السعار والجنون ، تتعاظم لاعقلانيته مع تعاظم المطالبة بالديموقراطية والحرية .
يترجم التناقض بين الوطنية والديموقراطية نفسه إلى تناقض عدائي متزايد الخطورة بين السلطة والمجتمع ، بلغ في سنوات الهزائم الوطنية الثلاثين الأخيرة درجة من التفاقم تهدد بانفجار الأوضاع في أي بلد عربي في أية لحظة . وبدل أن يبحث الحكام عن حل يجمع الوطنية إلى الديموقراطية كلحظتين متكاملتين، تراهم يركزون جهودهم على ملاحقة الديموقراطية باسم الوطنية ، في بلدان ونظم أنهكها الضعف والعجز ، وجعلها مكشوفة أمام الخارج ، فقدت مناعتها الوطنية ، وصارت قابلة للسقوط بدفشة بسيطة ولم يعد هناك ما يمكن أن ينقذها غير اللحمة الوطنية المؤسسة على الديموقراطية .
لا يستطيع المرء أن يكون وطنيا في أيامنا الحالية دون أن يكون ديموقراطيا ، ولا يقدر أن يكون ديموقراطيا إذا لم يكن وطنيا . ولا تستطيع السياسة أن تسير بعد اليوم على قدم الوطنية وحدها ، ولا بد لها من قدم الديموقراطية ، وإلا تعاظمت هزائمها وانهارت تحت وطأة التحديات الخارجية والداخلية ، التي صار جليا أنه لا قبل لها بمواجهتها من خلال وطنيتها الغريبة العجيبة والعرجاء ، التي لا هم لها غير حذف المواطن من دفتر الوجود السياسي، وخاصة في صعيد السلطة والدولة ، ومواجهة الداخل والخارج في آن معا عبر سياسة غبية ترى فيهما جهة واحدة .
على حكامنا أن يفهموا ، من أجل مصلحتهم بالذات ، أن الوطن لا يحميه مواطنون أذلاء ومستبعدين عن شؤونه ، وأن الوطنية لا تعني حماية الوطن من شعبه ومجتمعه ، لأن شعبه ومجتمعه هما حاملها الرئيس ، وأن الوطن لا يبقى ، إن هو ألغى حق المواطن في الحرية والديموقراطية والكرامة .

عن: ( كلنا شركاء) 23/3/2005