"كفانا بؤسا" نريد أن نعيش!
"كفانا بؤسا" نريد أن نعيش!
بقلم: حسن الحسن
المياه قليلة وإن توفرت فملوثة، الكهرباء تطل علينا كما تطل الشمس على دول الشمال، البطالة مكتسحة، وإن وجد عمل فلا يتوفر معه إلا النزر اليسير من المال. مشاكل اجتماعية واقتصادية وسياسية متراكمة. سعي من أجل الحفاظ على الوضع الاجتماعي لدى البعض، وتحسينه لدى آخرين، وصراع من أجل البقاء لدى الكثيرين.
لا تقل لي دولة إسلامية، لا تقل لي تضحية وفداء، لا تقل لي فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان، دعك من شعارات الجهاد والكفاح والنضال، دعنا نعيش الواقع وننسحب من عالم الخيال، كفانا خطابات جوفاء وخطبا حماسية صماء.
أريد امرأة مليحة أستأنس بها ولا أمل النظر إليها، وبيت واسع أسكنه مع عيالي، وحديقة غناء أتمشى فيها قبل الغروب، ووظيفة مستقرة ترد علي دخلا يكفيني همّ الحياة والتفكير الثقيل بيوم غد.
فليمنحوا إسرائيل ما تشاء، ولتدعنا نعيش بسلام، من غير حواجز ولا قصف ولا صوت سيارات إسعاف. وليهنأ قرنق بجنوب السودان، ولينفصل إقليم دارفور، ولتتدخل بريطانيا وأمريكا وكل أمم الدنيا فيها. تكفينا همومنا، يكفينا جوعنا، لقد مللنا الفقر وشظف العيش، وآن الآوان لأن ننعم بالثروة والنفط. ودع روسيا تلتهم الشيشان، وأمريكا تبتلع العراق والسعودية وأفغانستان، ولا يؤرقن أحد بريطانيا في الكويت وقطر والإمارات وعُمان.
بدلا من ذلك كله دعونا نلتفت إلى ما يثمر وينفع الناس، وإلى ما يرتب شؤوننا ويحسن أوضاعنا المعيشية، علنا نتقدم ولو قليلا فنلحق بذيل الغرب أو حتى بعضا من أثره.
هذا ملخص ما تلوكه ألسنة المفكرين الواقعيين، العلمانيين عبيد الغرب أو علماء السلطان وبعض مشائخ الفضائيات على حد سواء، ممن يسهل عليهم تحريك ألسنتهم بالباطل، وسرد حجج القعود والاستكانة والنوم العميق، الذين لا يطأطئون أصابعهم ولا يحركون أناملهم الرقيقة إلا عند عدّ رزم الفلوس وكتابة المقالات المحقونة بالسم الزعاف.
يسوق هؤلاء فكرة الاستسلام للواقع والتعامل معه على أنه قضاء لا يمكن تغييره، وأن محاولة المسّ به والانقلاب عليه هي وهم لا بد من تجاوزه، وأن أي إصلاح لا يتأتى من خلال القنوات التي تفرزها السلطة ويسمح بها الواقع الدولي هو الانتحار والجنون بذاته.
يشعر المرء بالارتباك أمام تلك الادعاءات لأول وهلة، إذ يلمس لها واقعا في حياته مع تناقضها ومسلماته. ويرجع وهج وجهة النظر تلك، لروجانها في وسائل الإعلام، وكثرة تكرارها على المنابر وفي الندوات العامة والمفتوحة.
ولقد رأيت بسبب كثرة اجترارها وما تحويه من مغالطات، حاجة لسبر أغوارها، وإماطة اللثام عن عوارها، عسى أن يسددني الله في التبيان لمن زاغت بصيرته، رؤية الحقائق كما هي، عله يرعوي ويعود إلى جادة الصواب.
ولنأخذ كل قضية على حدة حتى نحاكمها بعيدا عن ضوضاء اللغط وكثرة الكلام.
أليس من العجيب أن نتحدث عن قلة الماء في بلاد تعتبر منبعا للثروة المائية والتي تختزن أطول الأنهار وأهمها في العالم، ناهيك عن البحيرات والبحار والآبار والأمطار؟ أوليس غريبا أن تلوث مع أن الله قد أنزلها وفجرها وأجراها طاهرة نقية؟ ألا نملك النيل ودجلة والفرات وبحيرات كثيرة وبحار؟ أليس جديرا إلقاء اللوم وتحميل المسؤولية للسلطات القائمة التي تهيمن على مقدرات البلاد والعباد والقادرة على استثمار هذه الموارد العظيمة، وتسهيل إيصالها للناس؟ أليس من التجني إلقاء الكلام على عواهنه ونسبة ذلك إلى تمسك الأمة بإسلامها وقضاياها المصيرية؟
أما البطالة فيحق لنا التساؤل عمن سببها وأرهق كاهل الناس بها. فبعد أكثر من خمسين سنة على الاستقلال في أغلب البلدان العربية والإسلامية، لا يوجد مصانع للسيارات أو الطيارات أو الكمبيوترات أو المعدات الخفيفة أو الثقيلة، ناهيك عن صناعة النفط والغاز والصلب وعموم أنواع الطاقة. فمن المسؤول عن ذلك؟ ولماذا لا تستصلح الأراضي وتستثمر خصوبتها والطقس المتنوع الذي تمتاز به بلاد المسلمين والذي يمنحها القدرة على إنبات كافة أنواع المزروعات؟ ألا يملك المسلمون الثروة والمواد الخام والنفط والمعادن الثمينة والأرض الخصبة واليد العاملة والعلماء والخبراء المشردين في كافة أصقاع الدنيا؟ أليس المسؤول عن ذلك هو السلطات الحاكمة التي تعزف اللحن الذي يشير إليه السفير الأمريكي أو البريطاني أو مندوبهما وتطبق هذه السلطات خططهما كأنها وحي من السماء؟
لماذا شح المال وقلّت مداولته في الأسواق، مع كثرته وثبوت تخزين تريليونات الدولارات منه التابعة لبلدان العالم الإسلامي في أمريكا وأوروبا؟ ولماذا يملك أقل من عدد أصابع اليد الواحدة من الأفراد في عديد من أوطان المسلمين من المال، ما يزيد عن ثروة شعوب بأكملها، مع أنهم لم يرثوها ولا يوجد في الواقع ما يؤهلهم امتلاكها وخاصة مع ادعاء شح المال وقلة وفرته؟
كما أن واقع المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المتراكمة تتجاوز الأفراد لتعم الناس كجماعة ومجتمع وتشمل غالب الأمة، فتخرج الحلول والمقترحات آنئذ من إطار الحلول والمقترحات الفردية، إلى حقل العلاج والحل الجماعي والمجتمعي، والذي لا يملك التصرف به ومعالجته أحد سوى من يملك زمام أمور المجتمع ويتحكم بشؤونه ومقدراته، مما يمنحه القدرة على التأثير وصياغة الواقع بما يناسب تصوراته.
إن كل ما سبق هو محاولة لفهم الأمور على حقيقتها، فمجرد حدوث أية علة أو وقوع أي مرض لا ينتج بمجرد استنتاجات عشوائية، من غير معاينة الداء وتحديده بشكل دقيق، وعندها فقط يتم تناول العلاج المناسب. وبما أننا نتحدث عن أمة الإسلام، فإن هويتها وانتماءها وعلاجها ينبغي أن ينطلق من وجهة نظر الإسلام في الحياة ككل، والوقوف على نظمه وقوانينه التي تعالج الإنسان كفرد وجماعة ودولة وأمة، ومن هنا كان ضرورة وجود دولة تحكم بالإسلام وتوحد الأمة في دولة واحدة هي دولة الخلافة الإسلامية، فوق كونها فريضة تجسد معنى العبودية لله في أرض الله وملك الله. وكان لا بد من العمل لإيجاد هذه الدولة لأنها النمط الوحيد الصالح لهذه الأمة.
ويتجلى من خلال ذلك ان محاولات الانتقاص من مفهوم الدولة الإسلامية والدعوة لإيجادها، ما هو إلا شغب نتيجة غبش وغوغائية في التفكير لا أكثر، وكان من التجني والإمعان بالتضليل إضفاء المشكلات المذكورة والأزمات التي تعاني منها الأمة كتداعيات للمطالبة بدولة إسلامية أو محاولات إيجادها. مع أن دولة الإسلام غائبة بالكلية منذ أكثر من 80 سنة، وكانت تداعيات غيابها هي هذه المشكلات المذكورة وغيرها من ضياع فلسطين وتقسيم بلدان المسلمين واحتلال العراق وأفغانستان وجعل ثروات الأمة الإسلامية نهبة لأعدائها وتخلف الأمة عن ركب التقدم الذي تشهده البشرية بعد أن كانت الدولة الأولى في العالم بلا منازع. فواضح أن النهضة المادية مرتبطة بدولة الخلافة وجودا وعدما كاقتضاء وتلازم، فضلا عن أن الأمة لم تشهد فظائع مجتمعة يوما ما كما شهدتها وقاستها بعد هدم دولة الخلافة.
أما التضحية والفداء والنضال والجهاد والكفاح فهي غنية عن التعليق، إذ أنها ضريبة سننية في خلق الله لتحقيق الأفضل والخلاص من الأسوأ، كما قال الشاعر:
وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
ولا يقتصر هذا على أمة من الأمم بل هي طريق كافة الشعوب التي تصبو إلى الانعتاق والنهوض والارتقاء، وأذكر أنه إثر خروج أحد الثوار الفرنسيين من معتقل النازيين بعد تعذيبه بوحشية لكي يرشد الألمان إلى مقار الثوار، وأصابه جراء ذلك 17 كسرا في وجهه وسائر جسده، قيل له لقد أبليت حسنا وأنت بطل تفخر بك فرنسا فأجاب: الحقيقة أنني لم أفعل شيئا سوى ما يفترضه علي انتمائي لوطني ولم أكن متميزا في أدائي فقد جمع المعتقل الكثيرين من أمثالي ونالهم أكثر مني ولم ينل ذلك من عزيمتهم، ولم يش أحد منهم بأسرار الثوار الآخرين، إنها ضريبة الثورة.
بل إن ما يمكن تأكيده في أيامنا هذه أن آلام الأمة ما هي إلا نتيجة ذلك المخاض العسير الذي ستولد بعده من جديد بعد أن تنعتق من سموم الغرب والإدمان على ثقافته والتبعية السياسية العمياء له. لتعيش في كنف إسلامها العظيم، موحدة بكيانها تظلها من جديد راية العز والمجد والتوحيد.
وأما تحرير البلاد المغتصبة فهي من بديهيات الفطرة البشرية ومن أهم الفرائض الشرعية، وإذا ما استثنينا ذلك السقوط الذي تمر به أمتنا اليوم وأطللنا على واقع بقية الأمم نرى أن أمريكا نفسها خاضت حروبا لاستقلالها عن أعدائها وفرنسا فعلت نفس الشيء بل إن اليهود في فلسطين يزعمون أنهم حرروا فلسطين من العرب بعد آلاف السنين، فما بال رموز المسملين اليوم لا يصلون إلى مستوى ذلك الدافع الغرائزي بالحاجة إلى تحرير البلاد ودفع الأعداء ويلهثون وراء السلام والذوبان في الآخر وكأنهم أمة من العبيد أدمنت السخرة والأسر.
أما المرأة المليحة وما إلى ذلك من متطلبات الغريزة والدوران حول المصالح الشخصية والأنانية المفرطة وجعلها هدفا بحد ذاتها، فيكفي توضيحا لها قول الله تعالى:
" زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المئاب، قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد".وقال الشاعر قديما:
إذا ما صح لي ديني وعرضي فلست لما تول ذا اهتمام
فالإسلام يوضح للإنسان غاية وجوده، بين قدوم ورحيل قسري إلى ومن هذه الحياة الدنيا، كسهم ما إن ينطلق من قوسه ببرهة حتى ينتهي أمده، وينتقل إلى عالم برزخي. هذا حال جميع من سكن الأرض، مؤمنهم وكافرهم. وسيطوي الموت قبيل قدوم قرن جديد غالبية من هم الآن من أهل الدنيا إن لم يكن كلهم. لتتجدد رحلة الحياة بعد ذلك من جديد مع آخرين، يرفلون بفهم قويم لأسباب وجودهم في هذه الدنيا مع تسخير لمكونات الأرض وخيراتها لهم كما لم يسبق له مثيل في ظل التقدم الهائل الذي حققته البشرية.
هذا إن تركنا لهم نموذجا ترتقي إليه الإنسانية في الحياة من خلال إيجاد دولة الخلافة النظام الشرعي الذي تعوزه البشرية اليوم بحق ويعالج مشكلاتها الكأداء. وإلا فإن البشرية ستعوم في عالم البهيمة والمادة التي تحتاج إلى نظام الإسلام الذي يصيغ العلاقة معها ليرتقي بالإنسان عن كافة المخلوقات التي ما خلقت إلا خدمة له، وتتحقق بذلك الرسالة وتتم بذلك الغاية من الخلق.
"وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون"
2005-01- 22