ديمقراطية المنفى

ديمقراطية المنفى

خيري منصور

راجت في الستينات من القرن الماضي رواية حملت عنوانا مثيرا، هو الحقيقة ولدت في المنفى”، واوشكت هذه الرواية ان تتحول الى دستور جيل شعر بالخذلان وتكسرت قوادم احلامه كما قال صلاح عبدالصبور وهو يرثي الفارس القديم.

اشياء كثيرة ولدت في المنفى، سواء بمعناه الجغرافي أو السياسي أو حتى الميتافيزيقي، فثمة بشر يشعرون بالنفي وهم في عقر الوطن، وآخرون يستشعرون النفي لأنهم يعتقدون انهم ولدوا في زمن غير زمنهم، قبل الأوان أو بعده.

أما من يشعرون بأن الزمان كله هو منفاهم فلأن اعتقادهم رغم ما يشوبه من الأوهام هو ان وطنهم الحقيقي هو الابدية.

واذا كانت الحقيقة بالنسبة لذلك الجيل الغاضب والمخذول قد ولدت في المنفى، فأين ولدت الديمقراطية؟ تلك الابنة البكر لحضارة لا تفترس ابناءها، سواء باسم الحرية التي اقترفت جرائم لا حصر لها باسمها، أو باسم الاعلاء من شأن الذات بهاجس امبراطوري.

ان ولادة الديمقراطية، قد تكون الأعسر بين الولادات كلها، ويسبقها مخاض صعب، قد يهدد الأم الحامل بالموت اذا لم تكن القابلة على درجة عالية من المهارة والامانة.

لكن ما اسهل ان ينعم المنفيون بقدر من الديمقراطية التي يتيحها المنفى، فخلال الحرب الباردة كان المثقفون والفنانون الروس اللائذون بالغرب يقولون ما يريدون عن موسكو والكرملين وكارل ماركس وفلاديمير لينين، بحيث سادت في تلك الايام نكتة سياسية سوداء هي: يستطيع السوفييتي ان يقول ما يشاء في نيويورك، ويستطيع الامريكي ان يقول ما يشاء في موسكو.. رغم كل مزاعم الليبرالية التي تبرئ النظام الرأسمالي من الحكم الشمولي، والديكتاتورية، وما عاناه الامريكيون من المكارثية التي تحولت الى “فوبيا” تطل برأسها كلما تراجعت الحريات، واتسعت مهام المفتش العام.. لا يبرئ الولايات المتحدة واداراتها ومخابراتها من انتهاك للحريات.

ان ديمقراطية المنفى هي ما اتاح ويتيح لأي سياسي لائذ بنظام آخر أو ببلاد اخرى غير بلاده ان يقول ما يشاء، شرط ان يتم توظيف هذا القول لمصلحة المنفى السياسي أو المضيف!

لقد اتاحت فرنسا مثلا لمن لاذوا بها في مطالع القرن العشرين ان يكتبوا افتتاحيات أهم صحفها، كما حدث بالفعل مع يعقوب صنوع، فقد كان هذا المنفي حرا في هجاء أية جهة أو أي طرف باستثناء المضيف الفرنسي، واخطر ما تفرزه ديمقراطية المنفى، هو عادات تفكير يصعب الاقلاع عنها في حالة العودة الى الوطن، لهذا فإن ما يعترض طريق المعارضات السياسية هو تحولها من متدفئ على النار الى غارزاصابعه فيها.

فالكلام سهل، ومجاني اذا لم يكن مطروحا كاختبار، وترجمة الى أنماط سلوك! وهناك مفارقة تستحق التأمل في هذا السياق، هي ان المعارضة ما ان تصل الى الحكم حتى تفرز معارضة جديدة من صلبها، فيكون الاختلاف الذي قد يعقبه انشقاق أو أي حراك آخر يجزم بأن من انتقل من الهامش الى المتن قد تغير، وأصبحت السلطة وادامة استمرارها في رأس الاولويات لمن كانوا للتو يسخرون من السلطويين”، وعشاق الكراسي.

وقدمت الفضائيات العربية خلال السنوات الاخيرة مثالا بالغ الوضوح عن ازدهار ديمقراطية المنافي، فالذين يعيشون في اوروبا والولايات المتحدة يقولون كل ما يعنّ لهم، ولا تكون حساباتهم دقيقة، ومسكونة بالاحترازات والخشية من التأويل، لأنهم ببساطة ماكثون حيث هم، ولن يتعرضوا الى مساءلة فور وصولهم المطارات أو نقاط الحدود لبلدانهم!

ان لديمقراطية المنفى جمالياتها، وزخرفها اللفظي، فهي غالبا ما تكون مرصعة بمقولات انيقة منتقاة بعناية من مقالات وكتب تاريخية وفلسفية.

ولا اظن ان ذلك الصديق الذي قال إن الاقامة في الطريق الى السلطة افضل من بلوغها كان ساخرا أو مبالغا، فهو يعني ان الحكم يتخطى تلك المقولات.. وذلك التأنق النظري.. لأنه يشتبك مع الرغيف والأمن، والدواء واجهزة المخابرات والشرطة، والعسكر.. وحين كتبكامو” مسرحيته الشهيرة بعنوان “العادلون” نبه الناس في بلاده وخارجها الى مسألة بالغة الاهمية، هي ان اليوتوبيات التي تعد بها المعارضات السياسية يجب ألا تؤخذ على محمل الجد، وكان هذا الكاتب الفرنسي يستكمل ما قاله اسلافه عن الثورة التي تأكل ابناءها..

وقد تمتد انيابها الى احفادها.

ان الحقائق التي تولد في المنفى، هي زوادة روائي أو فنان ضاق ذرعا بمسقط الرأس، وادرك انه بالفعل ما من كرامة لنبي في وطنه، لكن الحقائق تبقى كما هي، بمعزل عن موقع الراصد لها، اللهم الا اذا كان لكل واحد الحق في احتكار الحقيقة تبعا لما يراه، عندئذ تسود سفسطائية من طراز جديد، ويصبح الفرد هو مقياس كل شيء! ولو حدث هذا فإن التاريخ برمته يصبح هباء!

وقد يتلخص الفارق بين ديمقراطية المنفى بكل ما يتعنقد عليها من تأنق لفظي، وجماليات سياسية محررة من غبار الواقع وبين ديمقراطية تفرز عضويا وتولد بعد حمل استكمل نصابه ومخاض “بالغ العسر” في ان الديمقراطية الاولى نبات يعيش داخل الزجاج، وهو للزينة اكثر مما هو للاثمار.

   انها قد تموت من اشعة الشمس ولا تتغذى منها.. الحقائق التي ولدت في المنافي اعادت للأوطان اعتبارها المسلوب، أما ديمقراطية المنفى فهي سباحة على السرير وفي احسن الاحوال في “البانيو”!