بـيان سياسي من الكتلة الوطنية السورية إلى المثقفين العرب والمسلمين بمناسبة اليوم العالمي لإعلان حقوق الإنسان
بـيان سياسي من الكتلة الوطنية السورية إلى المثقفين العرب والمسلمين بمناسبة اليوم العالمي لإعلان حقوق الإنسان
أيها المثقفون العرب والمسلمون:
تمر الذكرى السنوية لإعلان حقوق الإنسان، هذا العام، ككل أعوام الظلم والطغيان التي اجتاحت سوريا منذ أن قام البعث بانقلابه العسكري على الدستور، وعلى كل قيم الحرية والتعددية الفكرية والسياسية والحزبية التي كنا ننعم بها، والتي كانت أحزاب كتلنا الوطنية قد أسست عليها الدولة الوطنية السورية.
وبعد أن أطاح الحزب بالشرعية الوطنية بقوة السلاح سنة 1963، أعلن شرعيته الثورية:
فألغى دستور الاستقلال، ووعد بتحرير فلسطين وتوحيد الأمة وتوزيع الثروة بالعدل، ووضع
دستورا شعوبيا وطبقيا سمح فيه لنفسه أن يكـون قائدا للدولة والمجتمع، ووصيا علينا وعلى أوطان الأمة، وأن تكون السلطات الثلاث في قبضة يده الحديدية، يستعملها متى يشاء وكيف يشاء وضد من يشاء.
وشكل البعث مع الناصريين والشيوعيين جبهتهم التقدمية، التي أنجبت من رحم ممارساتها الفاحشة تيارا يمتهن النفاق والفساد، يقوده جيش من المثقفين والإعلاميين من رجال الحزب والجبهة، ومن رجال الدين وتجار السوق السوداء والسماسرة: فنهبوا ثروات الوطن، ودمروا البنية الأساسية لقيم وأخلاق المجتمع ولنظام الدولة الوطنية، وتاهوا في صحراء التنظير القومي والطبقي وفي الصراع المحلي والعالمي، وأضاعوا فلسطين والجولان، وتحالفوا مع آيات الله، وها هم في طريقهم اليوم: لإضاعة العراق وإضاعة أنفسهم، ولا سميع ولا مجيب للإصلاح.
والجدير بالذكر أن البعثيين والناصريين والشيوعيين هم الذين اتهموا أحزاب الاستقلال المجيد: الحزب الوطني وحزب الشعب والكتلة الإسلامية، اتهموها جميعها:
بالرجعية والعمالة للامبريالية والصهيونية وحلف بغداد. وبسبب القهر الذي مارسوه على أبناء الوطن لم يبـقَ اليوم من أحزاب الكتلة الوطنية إلا بعض الشخصيات المشردة هنا وهناك، وجماعة الكتلة الإسلامية تحت اسم: جبهة الميثاق الوطني بزعامة المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين المحامي علي البيانوني.
ولأن جبهة الميثاق تنتمي بمبادئها وأهدافها لتيار النهضة العربية الإسلامية، فقد دعوتُ ؤسسها الأستاذ البيانوني ليتزعم قيادة جبهة أحزاب كتلتنا الوطنية الجديدة، وليقود المعارضة الوطنية السورية سلما. وهذه الدعوة وجهتها له، بعد أن تقدمتُ بطلب إلى سيادة رئيس الجمهورية الدكتور بشار الأسد، بتاريخ 27 حزيران 2004، من أجل السماح لنا بالدعوة إلى مؤتمر وطني لإعادة تأسيس جبهة أحزاب الكتلة الوطنية الجديدة.
أيها المثقفون العرب والمسلمون:
لقد صنفتُ التيارات والحركات الفكرية والسياسية التي ُولدت في عصرنا الحديث متجاوبة مع تطور الحركات الفكرية والسياسية في الغرب إلى ثلاث تيارات:
1 ـ تيار النهضة العربية الإسلامية الذي نشأ منذ زمن الخلافة العثمانية متجاوبا مع النهضة الأوروبية، وظل هذا التيار يمارس قيم: الحرية والديمقراطية والعلمانية الفكرية والسياسية دون إقصاء أحد، منذ عهد محمد علي حتى عهد عبد الناصر.
وقد أنجز سياسيو هذا التيار بالتحالف مع الغرب: بنية الدولة الوطنية، وجامعة الدول العربية، وحلف بغداد.
2 ـ تيار قومي شوفيني تجاوب مع النازية ودعوات التمييز القومي في أوروبا القديمة، وتزاوج هذا التيار مع تيار أوروبي آخر من دعاة الصراع الطبقي لينجب الانقلابات العسكرية التي أنجبت بدورها: التيار القومي الاشتراكي الطبقي. وهذا التيار نشأ في دول الطوق وكان السبب المباشر في كل محن وكوارث الأمة على مدى النصف الثاني من القرن العشرين. وبسبب التصرفات العزباء لهذا التيار احتلت إسرائيل كامل التراب الفلسطيني، وأراضي من دول الطوق. واستمر هذا التيار بعزوبيته حتى خسر العراق استقلاله.
3 ـ تيار إسلامي مذهبي مسرف، ناهض الأنظمة العربية الإسلامية التي تخندقت مع الشيوعية، وناهض أيضا الأنظمة التي تخندقت مع الولايات المتحدة زعيمة الرأسمالية وقائدة العالم الحر، ولكن هذا التيار انتهى في معظمه إلى ما انتهى إليه معظم التيار القومي الاشتراكي الطبقي في الرفض المطلق للآخر وإباحة قتله وسحقه، ليصبحا وجهيـن لعـملة واحدة.
ولأن حكومات التيار القومي الاشتراكي الطبقي تخندقت مع الاتحاد السوفييتي زعيم الشيوعية العالمية في صراعه ضد الولايات المتحدة زعيمة العالم الحر، فقد كان من الطبيعي أن تنحاز الولايات المتحدة لصالح إسرائيل في ذاك الصراع الذي تكشف عن سراب الحتمية التاريخية التي تراكض وراءها الكثيرون من المثقفين العرب والمسلمين متجاهلين تلازم الحرية الفردية والعدالة الاجتماعية. فسقطت الشيوعية وسقطوا معها.
أيها المثقفون العرب والمسلمون:
ولأن تنظيرات التيار القومي الاشتراكي الطبقي وتنظيرات التيار المذهبي المسرف، تحمل في طيات فكرها وثقافتها قيما تتنافي مع القيم الإنسانية النبيلة، وتمارسها حكومات هذين التيارين بالقوة والإكراه على شعوبها، وتحاول فرضها على غيرها وعلى العالم، فإنها تكون بهذه الصفات خطرا ليس على شعوبها فحسب، بل وعلى العالم أجمع. وهذا الخطر على السلام العالمي لا يقل عن خطري النازية والطبقية الشيوعية في حينه، ولهذا أريد أن أثبت الحقائق التالية:
الحقيقة الأولى: هي أننا كنا ننـتظر من البعثيين والناصريين والشيوعيين الذين ادعوا العلمانية والتقدمية أن ينهجوا نهج رجال تيار النهضة في تدعيم وترسيخ قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وأن يحافظوا على استقلال الأوطان، وأن يطوروا علاقاتها البينية ليصلوا إلى وحدة شاملة من خلال تطوير نظام الجامعة العربية، ومن ثم يتلاقوا مع بقية الأقوام الإسلامية في وحدة ثقافية وحضارية واحدة، وعندها يستطيعون منافسة الآخر.
والحقيقة الثانية: هي أن الحرب الدائرة اليوم على الإرهاب ليست حربا بين المسيحية والإسلام كما يصورها الغلاة من الطرفين، بل هي حرب بين قيم الحضارة الغربية المسيحية في الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، المنتصرة على مخلفات قيمها ذاتها في التمييز القومي الشوفيني وفي التمييز الطبقي الاجتماعي خلال الحربين العالمية الثانية والحرب الباردة، وبين قيم مخلفات حضارتنا العربية الإسلامية في العشائرية والشعوبية وفي الطائفية والمذهبية المسرفة.
والحقيقة الثالثة: هي أن ساحة واسعة وسع هذا العالم، تنتظر التنافس الحر بين حملة هاتين الثقافتين السمحتين: الغربية المسيحية والعربية الإسلامية، حول إيجاد الصيغ الملائمة لتطبيق قيم العدالة الاجتماعية مع المحافظة على الحرية الفردية في عصر العولمة.
وفي هذا فليتنافس المتنافسون.
والحقيقة الرابعة: هي أن من يقارن بين هاتين الثقافتين سيتبين له أن نبع قيمهما واحد، فقيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان في الحضارة والثقافة الغربية المسيحية تنبع من جوهر محبة الآخر، وهذه القيم ذاتها في الحضارة والثقافة العربية الإسلامية تنبع من قيم الإخاء والتسامح مع الآخر. ومن هنا، فإنه لا بد من إيجاد السبل للتفاهم مع السياسيين الغربيين بشكل عام، وخاصة مع سياسي دولتي التحالف وفق مفاهيم الغرب وفهمه لهذه القيم الإنسانية النبيلة، لا وفق مفاهيم وفهم التيارين القومي الشوفيني والمذهبي المسرف لها.
أيها المثقفون العرب والمسلمون:
إن القيم العربية الإسلامية لم تـُهزم ولن تهزم أبدا، ولكن الذين هُـزموا هم الذين استوردوا قيم مخلفات الحضارة الغربية المسيحية في التمييز القومي الشوفيني وفي التمييز الطبقي الاجتماعي، وسيهزم معهم حملة قيم مخلفات حضارتنا العربية الإسلامية في العشائرية والشعوبية وفي المذهبية المسرفة. وهؤلاء المهزومون هم المسئولون اليوم عن أنهار الدماء الطاهرة التي سالت في النجف الأشرف وفي الفلوجة وما زالت تسيل في ديار العراق الحبيب.
وهؤلاء المهزومون هم المسئولون عن استمرار العـداء مع الغرب ومع قيمه الإنسانية النبيلة، ومسئولون أيضا عن صعود إسرائيل من دويلة بعد حرب 48، لتصبح دولة عظمى بعد حرب حزيران لعام 67، تضاهى بقوتها قوة كل الدول العربية مجتمعة، وتهيمن على سياستهم، فصالحها بعض والبعض الآخر ينتظر، نعم أيها السادة المثقفون لقد صالحوها قبل أن يصالحوا شعوبهم، هكذا سيقول التاريخ عنهم، وسيقول أيضا: وكأنهم ُوجدوا من أجل ذلك.
أوجدتهم ظروف عصرٍ هوانٍ فاستباحوا دماءنا والحقوقا
أيها المثقفون العرب والمسلمون:
من هذا الواقع المدمر الذي فرضه هذان التياران على أوطان الأمة، أتوجه بالدعوة لكل المثقفين العرب والمسلمين لكي يعترفوا للولايات المتحدة بانتصار قيمها في الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان على كل القيم المتناقضة معها، سواء كانت قيم مخلفات الحضارة الغربية المسيحية أم كانت قيم مخلفات حضارتنا العربية الإسلامية.
وأما الاعتراف لحليفتها إسرائيل بهذا النصر فدونه حبل الوريد. لأن الدولة العبرية مبنية على مبدأين عنصريين: التمييز الشوفيني الصهيوني والتمييز الديني اليهودي، هذا من جهة.
ومن جهة ثانية: لأن حملة الثقافة العربية الإسلامية على مدى تاريخهم الطويل، لم يؤذوا اليهود ولا ثقافتهم، بل كانوا حاضنين لها ولهم ومدافعين عنها وعنهم؛ وتاريخ حضارتنا العربية الإسلامية، خاصة في الأندلس، هي خير شاهد على قيم الإخاء والتسامح الإسلامي بين بني البشر.
ولا يخفى على المثقفين أن اليهودي ابن مالك كان واليا على دمشق من قبل الإخشيديين في عهد سيف الدولة الحمداني أمير حلب.
ومن هذا الواقع ثانية: أدعو للعمل على تعرية ونبذ ثقافة العنف والانتحار، وتوضيح أنها ُولدت من رحم الظلم والفقر والجهل والحرمان الذي تعانيه الشعوب العربية والإسلامية من السلطات الفرعونية الطاغية لحكامها القابضين على كل ثروات أوطانهم، ويتصرفون بها وكأنها ملك لهم ولآبائهم.
ومن هذا الواقع ثالثة: أدعو القيادة السياسية السورية لأن تحزم أمرها حزم الرجال، وتقرر قرار الحكماء، وتبدأ بالإصلاح الداخلي على ثلاث محاور: إعادة دستور الاستقلال الذي ظل يعمل به حتى سنة 1958، ومحاسبة الفاسدين حسب شريعة الفاروق، والمصالحة الوطنية؛ وأن تُـثـنيَ برفع الوصاية عن الوطن وعن أوطان الأمة، وأن تتعامل بالندية مع المعارضة اللبنانية، ومع منظمة التحرير الفلسطينية، ومع الحكومة العراقية المؤقتة؛ وأن تـُثـلثَ في بناء علاقات إستراتيجية مع دولتي التحالف على غرار ما سيبنيه العراق الجديد معهما ولو كان حلف بغداد جديد، وتقترب أكثر مع مجلس تعاون دول الخليج؛ وأن تـُربِّعَ بالابتعاد عن آيات الله قدر ابتعاد الشقيقة مصر عنهم.
ولأن الوزير الشرع، كان قد صرح في عيد الصحفيين الثاني عشر، بأن أمريكا وعدت بأنها لن تسمح لإسرائيل بأن تضم بوصة واحدة من الجولان، ولأن الرئيس جورج بوش تعهد بقيام دولة فلسطينية قابلة للحياة جنبا إلى جنب مع الدولة العبرية دون أن يحدد مستقبل القدس وحق العودة؛ فإن الدخول في مفاوضات مع إسرائيل، قبل إنجاز هذه الأهداف الأربعة، ليس في صالح الموقف السوري الذي هو اليوم في أدنى مستويات الضعف، وهو هروب مؤقت للقيادة السياسية السورية من الاستحقاقات الوطنية والقومية واستحقاقات الشرعية الدولية.
دمشق في 10 كانون أول لعام 2004
عن، الكتلة الوطنية:
د. محمود حسين صارم