شاليت.. ثلاثة أعوام في ضيافة القسّام
مخلص برزق*
يحق لحركة المقاومة الإسلامية "حماس" أن تفخر بما حققته من إنجازات غير مسبوقة وهي في طريقها لتحرير الأرض والإنسان ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس.. ولأننا لن نجد تلك الإنجازات في موسوعة "غينيس" للأرقام القياسية ولا في أكثر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة في زماننا هذا، فإنني أجد لزاماً عليّ أن أسطر هذه الأحرف لتبقى في أرشيف الأحداث وذاكرة التاريخ، لتطلع الأجيال القادمة على مدى الغبن الذي لحق بهذه الحركة المجاهدة التي أرست الأسس الحقيقية لمشروع تحرير فلسطين ومجابهة المشروع الصهيوني بكل جدارة واقتدار دون انتظار لمدح مادح أو مبالاة بقدح ذام لها –وما أكثرهم- ابتغاء الأجر من الله تعالى.
يحق لحماس وذراعها العسكري كتائب الشهيد عز الدين القسام أن تفتخر بانقضاء ثلاثة أعوام كاملة بأيامها ولياليها على عملية الوهم المتبدد التي نفذها أبطال القسام وتمكنوا خلالها من أسر الجندي الصهيوني جلعاد شاليت صبيحة يوم الخامس والعشرين من حزيران (يونيو) عام 2006. ويحسب لتلك العملية المباركة أنها بددت أوهاماً كثيرة كان أولها وأهمها أن حركة حماس لم تركن إلى السلطة كما نعقت بذلك أبواق المتربصين الحاقدين، كانت الدلالة الأكبر لتلك العملية أن هيمنة حركة حماس على المجلس التشريعي واستفرادها بتشكيل الحكومة لم يكن يعني أبداً تخليها عن برنامج المقاومة الذي قامت لأجله وتوسط القلب من اسمها الثلاثي.. كان ذلك في وقت مبكر جداً من دخول الحركة على خط الحكم وتسلم زمام القياد من حركة فتح بعدما أعطاها الشعب ثقته في انتخابات المجلس التشريعي التي جرت في 25 كانون أول (يناير) من العام نفسه.. فكانت عملية الوهم المتبدد بعد تشكيل الحكومة بثلاثة أشهر فقط لتصفع كل مشكك ومتقول على الحركة، وهو ما يفند أكاذيب الذين يثرثرون بسوء نية أو غيرها أن ما جرى بين حماس وفتح إنما مرده إلى الصراع على السلطة.. تلك السلطة التي جاءت لحماس على طبق من ذهب فلم تقع في أسرها ولم تشغلها عن برنامجها الاستراتيجي لإرساء ثقافة المقاومة قولاً وممارسة وفعلاً.
أما الإنجاز الآخر للعملية فقد تمثل في عنصر التخطيط وروعة التنفيذ والقدرة على قهر العدو عسكرياً واستخباراتياً، خاصة في ظل ما تكشف بعد ذلك من ضلوع أجهزة السلطة الأمنية السابقة التابعة لدحلان ورشيد أبو شباك بالتجسس على المجاهدين لصالح العدو لإبطال عملياتهم الجهادية..
إن طبيعة العملية الذي تضمن الاقتحام الجريء غير المسبوق لمواقع العدو المحصنة والعودة إلى مواقعهم سالمين غانمين آسرين قد بدد أوهاماً كثيرة في قدرات جيش العدو أمام الإعداد الجهادي لمقاتلي كتائب القسام الذي جعلهم نداً صعباً وخصماً عنيداً.
فتحت تلك العملية كل أبواب البلاء والمحن على حركة حماس فصمدت صموداً أسطورياً في وجه أعاصير هائجة عصفت بها من كل الاتجاهات دون أن تهدأ لحظة واحدة طوال السنين الثلاث الماضية بدءاً من ردة الفعل الهمجية التي تمثلت في شن غارات مدمرة على قطاع غزة تحت مسمى "أمطار الصيف" أحرقت الأخضر واليابس ودمرت الكثير من البنى التحتية دون أن يكسر ذلك من إرادة الحركة أو تبدي أي تنازل إزاء مشروعية عملية الأسر ومطالب الآسرين.. ثم كانت الضربة القاصمة للحركة باختطاف نوابها في الضفة المحتلة وعلى رأسهم الدكتور عزيز دويك رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني، والتي أراد العدو من خلالها خلخلة التوازن في المجلس لصالح حركة فتح لإسقاط الحكومة الشرعية التي كانت ترأسها حماس، وتلاها محاولات محمود عباس الحثيثة لإسقاط الحكومة بالتهديد بعمل استفتاء شعبي وحل المجلس التشريعي ومقاطعة الحكومة بشكل سفر ومفضوح..
اشتد الحصار شيئاً فشيئاً على قطاع غزة بشكل عام وعلى حركة حماس بشكل خاص وتدخلت الإدارة الأمريكية بشكل مباشر لتقود حملة شرسة ضد الحركة بإعلانها حركة إرهابية لا يجوز للدول دعمها أو تحويل الأموال لها أو استقبال وزرائها وممثليها.. وتحرك الجنرال دايتون مع أذنابه من أجل توجيه ضربة قاضية للحركة في قطاع غزة عقب توقيع اتفاق مكة وتشكيل حكومة الوحدة الوطنية فهزم جمعهم وولوا أدبارهم دون أن يحققوا مآربهم وباؤوا بالخزي والعار، وبقيت حماس بجذور راسخة قوية رغم شراسة الحملة ضدها بعد اتهامها بتنفيذ انقلاب دموي على سلطتها وحكمها!! وتكشفت أمور كثيرة بعد الحسم العسكري المبارك عندما أطل وزير الداخلية الشهيد سعيد صيام على العالم بكم هائل من الوثائق التي تدين المنظومة الأمنية الفاسدة البائدة التي شكلت حركة فتح عمودها الفقري والتي تضمنت المحاولات المضنية لتقصي آثار جلعاد شاليت لصالح العدو ورصد كل ما من شأنه الإمساك ولو بطرف لخيط يوصل لمخبئه!!
بقي شاليت في ضيافة القسام رغم مكرهم وفداحة جرمهم المصحوبة بتخذيل أليم من محمود عباس بأن الاحتفاظ به كلف شعبنا مئات الشهداء وتسبب في جلب الدمار والخراب والحصار ومطالبته بالإفراج عنه بلا مقابل أسوة بما تفعله أجهزته مع الجنود والمغتصبين الذين يدخلون أراضي الضفة المحتلة بقصد أو بغير قصد فيتم تسليمهم معززين مكرمين حتى لو كان دخولهم من أجل تنفيذ عمليات قتل واغتيال لأبناء شعبنا.
صمدت حماس في وجه الحملة الهمجية البشعة التي شنتها حركة فتح عليها في الضفة المحتلة مستقوية بجنود الاحتلال وتوجيهات الجنرال دايتون وارتكب محمود عباس جريمة قانونية ودستورية بتشكيل حكومة فياض غير الشرعية التي مارست دوراً قذراً إلى جانب العدو في خنق القطاع ومحاولة تركيعه وبث القلاقل والفتن بداخله مع حصار لم يشهد له عصرنا مثيلاً..
صمدت حماس عسكرياً في وجه الآلة الصهيونية وفي وجه مثيري الفتن الموجهين مباشرة من رام الله، وصمدت سياسياً فلم تبد أي تراجع عن خطها المقاوم المطالب بكامل حقوق شعبنا والالتزام بثوابته.. ولم تفلح الرباعية ولا أنابوليس ولا ضغوط دول الاعتدال في زحزحتها ولا قيد أنملة..
وخلال كل تلك الضغوط لم يتمكن الكيان الصهيوني من فرض شروطه الخاصة بصفقة تبادل الأسرى مع الجندي الأسير شاليت، وعبثاً حاول المجرم أولمرت أن يحقق شيئاً يقدمه لشعبه وحزبه بين يدي الانتخابات إلا أنه كان دائماًَ يصطدم بصخرة الصمود اللامتناهي لحركة حماس في تمسكها بشروطها وعدم قبولها بأي مساس بها.
فشلت محرقة "الرصاص المنصهر" في تخليص شاليت من أيدي آسريه كما فشلت في تقويض حكم حماس لقطاع غزة، وارتطمت بعد ذلك بصخرة الثبات على ذات المطالب التي أملتها الحركة بكل عزة ثقة في النفس.. فعاد عاموس جلعاد أسيفاً وولى أولمرت خائباً وانقضى حكم الرئيس الأميركي بوش دون أن يخرج شاليت من أسره، أقصي الجمهوريون عن الحكم في أميركا ولم تفلح الدماء الغزيرة التي سفكها مجرموا حزب كاديما في حصد أصوات الناخبين.. كل ذلك دون أن تتزعزع قبضة حماس عن الإمساك بزمام الأمور فبقي الولاء لها في قطاع غزة رغم قسوة الحصار ونالت وسام العزة على صمودها في غزة من شعوب الأرض والكثير من حكامها.. ولم يمنعها ذلك كله من تدعيم صفها الداخلي بإجراء انتخابات شوروية سلسة وهادئة في الوقت الذي يحاول غيرها جاهداً الخروج من دائرة التنازع والاستئثار بالمنصب والقرار.. بلا جدوى.
خرج الدكتورعزيز دويك من السجن عزيزاً شامخاً مرفوع الهامة رغم أنف سجانيه ولم يخرج شاليت من أسره.. وسيخرج بقية الأسرى من سجون الاحتلال وسجون أجهزة دايتون، وسينكسر الحصار عن غزة بإذنه تعالى دون أن تنحني الهامات أو تخور العزائم.
يحق لحركة حماس أن تفخر برجالها الذين قهروا جيش الاحتلال وعملاءه وجواسيسه واستخباراته وتمكنوا من الاحتفاظ بشاليت في قلب الأتون المشتعل.. وقد أحسن الأخ القائد المجاهد خالد مشعل باختياره للذكرى الثالثة لعملية الوهم المتبدد ليدلي بخطابه الهام كي يبدد معه أوهام المتربصين بحماس، الزاعمين أنها ستلين وتستكين وتنحني للعواصف وتقبل بما لم تقبله سابقاً وهي تحت نطع الحصار وخناجر أجهزة دايتون.
* كاتب فلسطيني مقيم في دمشق.