سطور من يومياتي في نكسة 1967

سطور من يومياتي

في نكسة 1967

معذرة يا قارئي العزيز ، إذ أطلقت وصف "نكسة" على ما نزل بنا في الخامس من يونيو 1967 ؛ فما فعلت ذلك إلا مسايرة للإطلاق الوحيد على ما حدث . وحكامنا المهزومون هم الذين روجوا هذه التسمية الغالطة . والحقيقة أنها لم تكن نكسة ، ولكنها كانت نكبة .... نكبة ضارية سوداء ، مازلنا نعيش في آثارها حتى الآن.

*   *   *

هذا، وقد تعودت  من نصف قرن وزيادة  أن أسجل يومياتي في حينها (كل يوم صفحة على الأقل) . واليوم أقدم فيما يأتي سطورا اقتطفتها من بعض يومياتي في نكبة يونيو 1967 ... أعرضها حرفيا كما كتبتها في حينها :

 الثلاثاء 20 من صفر 1387 ه  30 من مايو 1967 :

  الجو هنا في خط القناة مشحون بمزيج من الحمية والحماسة والرهبة . وحاولنا أن ننظم أناشيد للطلاب في الإسماعيلية ، ومما نظمته قصيدة طويلة أنتقي منها الأبيات التالية :

*   *   *

 الأحد 25 من صفر 1387 ه  4 من يونيو 1967 :

كنت في بورسعيد واحدا من المشرفين على امتحانات الثانوية العامة . وفي الثامنة والنصف صباحا وصلت الصحف إلى بورسعيد . قرأنا عناوين الصحف. وقد كانت توحي بأن الحرب على الأبواب : أمريكا تحاول تجميع قوى الدول البحرية لفك الحصار البحري الذي ضربته مصر على خليج العقبة ، ومضيق تيران ... وقد وافقت انجلترا على ما تذهب إليه أمريكا .

*   *   *

 الأثنين 26 من صفر 1387 ه  5 من يونيو 1967 :

  كنا في مدينة بورسعيد عندما سمعنا البيان التالي من الإذاعة المصرية :

 " أيها المواطنون ، سنخوض الحرب بقوة وإيمان ؛ لقد اعتدى الطيران الإسرائيلي على المطارات المصرية . وقد تمكنا من إسقاط 13 طائرة من طائرات العدو " .

  وكنا نلتقط الأخبار من أفواه العمال والزملاء . وارتفعت البلاغات الحربية المصرية بالطائرات الإسرائيلية الساقطة إلى 44 طائرة . ثم سمعنا طلقات المدافع والقنابل من ناحية مطار الجميل ببورسعيد ، وبور فؤاد . واستمرت البلاغات الحربية على هذه الوتيرة . وفي الثالثة إلا الربع مساء أعلن المذيع قرار تأجيل الامتحانات إلى أجل غير مسمى . إذن لابد أن نهرول إلى الإسماعيلية ، ولكننا علمنا أن القطارات والسيارات قد حظر سيرها .

  وتمكنت بحمد الله من الوصول إلى الإسماعيلية في الحادية عشرة مساء ، كانت الإسماعيلية تسبح في بحر من الظلام .

*   *   *

 الثلاثاء 27 من صفر 1387 ه  6 من يونيو 1967 :

  في الصبحة الباكرة سمعت من الإذاعة المصرية أن مجموع ما أسقطته مصر من طائرات العدو 130 طائرة . وتوالت البلاغات الحربية ، ومن ضمن هذه البلاغات بلاغ فحواه " أنه ثبت بالدليل القاطع أن أمريكا وانجلترا قد اشتركتا في القتال بطائراتهما ، وأنهما منحا العدو مظلة جوية عاتية " .

  وتمت اتصالات هاتفية بين الملك حسين وعبد الناصر لتوثيق هذا الخبر . أما أنباء الأعداء التى أذاعوها فتتلخص فيما يأتي : " في الثانية عشرة والدقيقة الخمسين تم سقوط مدينة غزة ، كما سقطت مشارف العريش "

  ثم أذاعت الإذاعة المصرية أن " قواتنا الباسلة تقاتل بشجاعة فائقة عن مواقع العريش والقسيمة وأبي عجيلة "

  وفي المساء أعلنت مصر إغلاق قناة السويس ، وبعد ذلك أعلنت البلاد العربية قطع العلاقات مع أمريكا وبريطانيا ، وأعلنت الدول البترولية وقف ضخ النفط لأمريكا وانجلترا . لقد تغير وجه المعركة ... وأصبحنا نستخدم الأسلحة السياسية .

  مجلس الأمن يجتمع الليلة ليصدر قرارا بوقف إطلاق النار .

  كان شارع محمد على  أكبر شوارع الإسماعيلية يسبح في الظلام ، ويموج بآلاف من الجنود المصريين المنسحبين ، وعشرات من المصفحات والدبابات .

*   *   *

 الأربعاء 28 من صفر 1387 ه  7 من يونيو 1967 :

  في الطريق رأيت مئات من جنودنا المساكين العائدين من الجبهة ... كانت حالتهم يرثى لها ... كانوا حفاة شاحبين ممزقي الثياب ، يبدو عليهم الإعياء الشديد ، وكثير منهم جرحى . ولكن شارع " الثلاثيني " كان يموج بمصفحات ودبابات تحمل آلافا من الجنود الجدد ، قيل أنهم متجهون إلى الجبهة لمقاومة العدوان الغاشم .

  تخلى جيشنا عن شرم الشيخ ، وتراجع إلى مواقع الخط الثاني ، وهو يحاول تجميع قواته لصد التقدم الصهيوني .

  أذاعت إذاعتنا أنها أبادت قوات المظلات التى نزلت خلف قواتنا بالقرب من شرم الشيخ .

  الناس هنا في الإسماعيلية يبيتون ليلة مذعورة بعد أن أغارت طائرات الأعداء إغارات آثمة على مدينة السويس ، والناس يهاجرون من هنا بالآلاف .

  أذاعت إذاعة إسرائيل أن الجيش الإسرائيلي على بعد ثلاثين كيلو مترا من مدينة القنطرة شرق . كما أذاعت أن " سعد جمعة " رئيس وزراء الأردن قد أبلغ أوثانت أن الأردن قد قبلت قرار مجلس الأمن بوقف اطلاق النار ، وأن اليهود استولو على أهم ثلاث مدن في الضفة الغربية .

  قررت ليبيا وقف ضخ النفط لأمريكا وبريطانيا .

  قدم الاتحاد السوفيتي مشروعا لمجلس الأمن لدعوة جميع الأطراف لوقف إطلاق النار في ميعاد أقصاه الساعة الحادية عشرة بتوقيت القاهرة . وقد وافق عليه المجلس بالإجماع .

  مرت صواريخ ضخمة من نوع القاهر والظافر من شارع محمد على ، قيل إنها متجهة إلى الجبهة ، وترددت شائعات بأن مصر ستطلق هذه الصواريخ المدمرة كحل أخير .

  مدارس الإسماعيلية غاصة بآلاف من الجنود المصريين .

  الإذاعات العربية تقوم بعملية شحن معنوي واسع المدى ... كلمات في قوة الصواريخ ، وموسيقى جرسها كهزيم المدافع . ومن أقوى هذه الكلمات :

غضبا  غضبا  لهبا  لهبا          يشعل إسرائيل حريقا

جاء الحق وزهق الباطل          إن الباطل كان زهوقا

والموسيقى والأناشيد الوطنية تتخلل البلاغات الحربية .

أخبرني أحد الضباط أن الصهاينة ألقوا على قواتنا في الجبهة منشورات ترمي إلى تثبيط الهمم ، ويحمل كل منشور صورتين : صورة لجندي وهو مبتسم ، مشرق الوجه ، وبجانبها صورة لجندي مشوه القسمات ، محترق الوجه وتحت الصورتين العبارة الأتية " في يدك أيها الجندي المصري أن تختار لنفسك صورة من هاتين الصورتين " .

  اجتمع عبد الناصر اليوم بسفير الاتحاد السوفيتي وسلمه رسالة عاجلة مهمة إلى الرئيس السوفيتي ، كما اجتمع بعبد العزيز بو تفليقة ، وقد سمعت اليوم أن سلاح الطيران الجزائري سيلقي بكل ثقله في المعركة . وهو يتكون من 47 طائرة من أحدث الطائرات .

*   *   *

 الخميس 29 من صفر 1387 ه  8 من يونيو 1967 :

أذاعت الإذاعة المصرية في الحادية عشرة صباحا أن طائرات العدو أغارت على البلاح ، وأننا أسقطنا لهم سبع طائرات ، كما أسقطنا طائرة على منطقة أبي رواش ، وأخرى على أبي زعبل . ( وهذه مناطق في القاهرة ) .

الإسماعيلية مازالت تموج بآلاف من الجنود الجدد ، وقيل : إنهم متجهون إلى الجبهة للأخذ بيد قواتنا المهيضة الجناح ، المثخنة بالجراح . وقد علمت أن المستشفيات هنا قد غصت بالجرحى .

في الخامسة صباحا استيقظنا على صوت قصف فظيع ... طلقات مدافع متلاحقة ، وأزيز طائرات قريبة جدا تخلع القلوب . واستيقظت بنتي الصغيرة لمياء التي لم تكمل العامين من عمرها ، وارتمت على صدري هاتفة في خوف شديد باك " بابا ... بابا ... " واحتضنتها ، وأخذت أضاحكها ، محاولا التخفيف عنها ، ولكن وجهها كان يكسوه الفزع والشحوب .

علمنا أن الطيران الإسرائيلي نسف 8 تكسيات بركابها كانت تسير في طريق الصالحية .

من إذاعة الأردن سمعت خطابا للملك حسين ، يعلل فيه قبول الأردن قرار وقف إطلاق النار بتفوق السلاح الجوي الإسرائيلي . ومما جاء في خطابه "

*   *   *

الجمعة غرة ربيع الأول  9 من يونيو 1967 :

إذاعة الأعداء تذيع  بين الفينة والأخرى  نداءات متوالية إلى الجيش السوري ، بإلقاء سلاحه حقنا للدماء ، وضمانا لسلامته ، وتندد بالبعث ، وتدعو الجيش والشعب لتحطيمه ... " ... أيها الجندي السوري ، ألق سلاحك ، وانبطح على الأرض ، رافعا يديك إلى أعلى ، فقد أبدنا الجيش المصري ، وحطمنا جيش الأردن " .

*   *   *

السبت 2 من ربيع الأول 1387 ه  10 من يونيو 1967 :

*   *   *

الأحد 3 من ربيع الأول 1387 ه  11 من يونيو 1967 :

*   *   *

الاثنين 4 من ربيع الأول 1387 ه  12 من يونية 1967 :

  نشرت صحيفة الأهرام القاهرية اليوم خبر التغييرات الشاملة في قيادة القوات المسلحة ، ومنها تعيين الفريق أول محمد فوزي قائدا عاما للقوات المسلحة . والفريق أول مدكور أبو العز قائدا للقوات الجوية . وقبول استقالة كل من : سليمان عزت ، ومحمد صدقي محمود ، وأحمد حليم إمام ، وهلال عبد الله هلال ، وعبد المحسن كامل مرتجى ، وجمال عفيفي ، وأنور القاضي . وأحيل إلى المعاش اللواء عبد الرحمن فهمي ، واللواء عثمان نصار ، واللواء حمزة بسيوني ، واللواء طيار إسماعيل لبيب .

*   *   *

 الثلاثاء 5 من ربيع الأول 1387 ه  13 من يونيو 1967 :

  في منتصف الليل تقريبا كتبت قصيدة من عشرين بيتا موجهة إلى الجندي المصري المنسحب من سيناء . ومطلعها :

 يا     أيها    المشرد          الضائع      المهدد

 يا  ضاربا  بلا هدى          ينعاك  صبح  أسود

 لفظتك سيناء الحبيب          بة والمضيق الأمجد

*   *   *

 الأربعاء 6 من ربيع الأول 1387 ه  14 من يونيو 1967 :

  في الإسماعيلية التقيت بضابط صديق من المنزلة مسقط رأسي هو حسن الخريبي الضابط بالجيش ، ومعه أحد الضباط يدعى جمعة ، وأخبرني حسن أنه كان بشرم الشيخ حين صدر الأمر بالانسحاب ، وأنهم رأوا الهول ، مما جعل بعض الجنود والضباط يصيحون " القيامة قامت " . وقال حسن ولكن لابد من جولة ثانية نغسل فيها العار .

  رفض مجلس الأمن الليلة المشروع السوفيتي الذي يطلب من إسرائيل سحب قواتها إلى مواقعها السابقة وتوجيه اللوم إلى إسرائيل .

  ترددت اليوم شائعة قوية مؤداها : أن الصين الشعبية ويوغسلافيا قد زودتا مصر بقرابة 600 طائرة .

*   *   *

 الأحد 10 من ربيع الأول 1387 ه  18 من يونيو 1967 :

  الجنود العائدون من الجبهة يروون قصصا عجيبة غريبة منها : أن الأعراب البدو في صحراء سيناء كانوا يبيعون لجنودنا وضباطنا المنسجبين المثخنين بالجراح ... يبيعون لهم شربة الماء ، أو رغيف الخبز بخمسة جنيهات أو عشرة . وأسأل عن السبب فيقال : إن الحكومة المصرية قبل العدوان جمعتهم في صحراء سيناء ، واعتقلتهم في مدينة العريش . فلما سقطت العريش في أيدي اليهود أطلقوهم ، فعادوا إلى قواعدهم سالمين ... نفوسهم حقد ، وقلوبهم سعير .

  وسمعنا من العائدين أن اليهود يحتلون كل الضفة الشرقية من القناة ، ويسمحون للجنود المصريين بعبور القناة إلى الضفة الغربية بعد تجريدهم من ملابسهم وأموالهم وساعاتهم . أما الضباط فيأسرهم اليهود ويعيدونهم إلى غزة أو العريش . ولم يطلق اليهود الجنود المصريين إلا لينقلوا للمصريين المأسي التى عاشوها في الميدان بسبب أخطاء القيادات ، أي أنهم بذلك يكونون  بطريقة غير مباشرة  دعاة هزيمة وانخذال .

*   *   *

 الأثنين 11 من ربيع الأول 1387 ه  19 من يونيو 1967 :

  ركبت القطار المتجه إلى بورسعيد ، كان الجو حارا خانقا ... ووصلنا إلى القنطرة غرب ، وهناك على الضفة الشرقية كانت تمتد مدينة القنطرة شرق التى سقطت في يد اليهود ، وعلى مبنى الجمرك كان العلم اليهودي الأبيض اللون ذو النجمة السوداء يرفرف مزهوا بما فعل رجاله ، وعلى سطح مبنى نادي الضباط رأيت ثلاثة من الجنود الإسرائيلين وقد خلعوا ملابسهم ، وهم يتبعون مسيرة القطار بعيونهم الشامتة . وبطول مبنى الضباط علقوا لافتة قماشية كبيرة جدا وقد كتب عليها " كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله " . لم أصدق نفسي ، وتمنيت أن يكون ما أرى حلما مزعجا تمحوه اليقظة،ولكنه  ويا للأسف الأسيف  هو الواقع المر ، والحقيقة البشعة .

يا لله لقد شاء الله أن أرى في حياتي أقسى وأمر ما يمكن أن أراه ... أرى من وصفهم الله بالخسة ، وكتب عليهم الذلة والمسكنة ، أراهم يحتلون فلذات من كبد الوطن الحبيب . وسرحت بعيني الكسيرتين بعيدا أستشف ما وراء الأفق الدامي ، وما وراء الحاضر الحزين الباكي وتذكرت قوله تعالى (... إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ) الرعد (11) .

وقوله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ) محمد (7)

 ونكتفي بهذا القدر من سطور من يومياتي في نكبة 1967 . نقلتها حرفيا كما سجلتها في حينها ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .