قراءة في محاضرة للدكتور عماد الدين خليل

قراءة في محاضرة الدكتور عماد الدين خليل

في رابطة الأدب الإسلامي العالمية

في أيار / مايو 2003

نعيم الغول   

د. عماد الدين خليل

إعداد نعيم الغول

ألقى الدكتور عماد الدين خليل  أستاذ التاريخ الإسلامي ومناهج البحث  وفلسفة التاريخ في جامعة الموصل  و الأستاذ الزائر في جامعة  الزرقاء الأهلية  محاضرة بعنوان " الأحادية القطبية  وسنن الله في التاريخ ".

وقبل ان ننطلق مع موضوعات المحاضرة الزاخرة بالجديد المفيد  لا بد لنا من وقفة تعريفية  بالدكتور  عماد الدين خليل. وهذه الوقفة  ضرورية  لإلقاء الضوء  على أهمية  هذه المحاضرة  من حيث  أن صاحبها جمع بين أمرين :الأول انه أستاذ في التاريخ الإسلامي  وله نظريات  معروفة  فيه . الثاني أنه عراقي  شهد كما شهد الملايين من المسلمين في العالم  القدم الهمجية وهي تدنس أرض الرشيد بدعاوى باطلة  عرج عليها في ثنايا المحاضرة  مبطلا إياها  وفاضحا لها.

الدكتور عماد من مواليد الموصل عام 1939  وقد حصل على الليسانس في التاريخ  عام 1962والماجستير 1965 والدكتوراة في التاريخ الإسلامي عام 1968 ويبلغ عدد مؤلفاته ما بين دراسات وبحوث و روايات ومسرحيات وقصص قصيرة و دواوين شعر ما يزيد على اثنين وثلاثين وله مشاركات في ما يقرب من خمسة عشر مؤتمرا وندوة عربية وإسلامية وعالمية .وهو بعد مفكر وأديب إسلامي واسع الاطلاع ومعروف على المستويين الأكاديمي والثقافي  في العالم.وقد وضعت مؤلفات كثيرة عنه وعن فكره وكتبه .

تأتي أهمية  هذه المحاضرة  في هذه الظروف  خاصة  وفي الظروف  التي عاشتها  الأمة الإسلامية  عامة منذ بداية حقبة  الاستعمار  وحتى يومنا  هذا  من كونها محاولة جادة لإعادة  عقل المسلم  الى الطريق الصحيح في نظرته الى الأشياء  تلك النظرة التي يجب ان تظل مستمدة من  القرآن  و السنة  مستهدية بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :" تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا : كتاب الله  وسنة نبيه " .ولهذا  فإن المحاضرة تمسك بيدك  منذ البداية  وتفتح  معك كتاب الله الى أن تصل الى نهايتها  حيث تُبيّن ان الله عز وجل هو الذي يحكم عالمي المادة والاجتماع.

يقيم الدكتور عماد الدين خليل في هذه المحاضرة نسقه الفكري على أساس من الآية الكريمة : " أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها و الله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب "( الرعد 41) و الآية الأخرى التي تكاد تشبهها في كثير من الكلمات :" بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر ، أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ن أفهم الغالبون    "( الانبياء 44) فيمضي  في اخذ كل جزء  منها بالشرح  و البيان و التمثيل  في أماكن متفرقة من المحاضرة  حتي  يتمهما  وبتمامهما   يكون  قد أتم استقراءه المنطوي على سنن الله في جانبين : سنن الله في التاريخ  و سنن الله في الكون ( الطبيعة ) .

 وحتى يوجد المحاضر جسورا من الفهم بينه وبين جمهور الحاضرين عرض  إلى  الخطاب القرآني  الدعوي ، و اعتبر أنه يمر  عبر بوابات ثلاث . وتمثل كل بوابة  بعدا زمنيا يتعامل  معه البشر :

بوابة المستقبل :  ومنها يتناول الخطاب  القرآني البعث  و القيامة والجنة والنار  و المصير  الذي سيؤول إليه الناس والأشياء .

بوابة الرجوع الى الوراء ( Flash Back ) : وهنا  يعرض التاريخ بصفته خبرة ومعلما كبيرا  يستفاد منه  ويتعظ من أحداثه  (و تستقرأ قوانين حركته) .

 بوابة الواقع  البشري و الكوني :  ومنها يتناول  الخطاب القرآني آيات الله في الإنسان  وفي الكون  وما فيهما من إبداع في الخلق ودقة في الصنع وحكمة مذهلة  كي يتفكر  الإنسان  ويتدبر  ويعرف أن  للكون  خالقا عظيما .

ولأن كل واحدة من البوابات الثلاث أعلاه تحتاج الى  محاضرة وحدها فقد لفت الدكتور عماد الدين نظر  الحضور الى أن حديثه  سينصب على  قوانين الحركة التاريخية  او ما يسميها  الأجداد (سنن الله العاملة  في التاريخ ).

ولأن المصطلح قديم جديد فإن الدكتور يسارع الى الجواب عن سؤال قد يحوك في الأذهان عن مدى مساهمة علماء الإسلام السابقين  و المفسرين القدماء  فيقول إنهم لم يولوا أهمية كبيرة للبحث في هذه السنن ، و لم يعطوها مساحة كافية  لانشغالهم  في تلك العصور  بالبيان والبلاغة و الإعجاز وقصص الأنبياء  بدرجة أكبر . ودعا الى  تعميق وزيادة  البحث في سنن الله في التاريخ  والكون  . ومن المفيد ان نعلم أن هناك ما يزيد على سبع رسائل ماجستير و دكتوراة في هذا الموضوع الهام .

والحديث عن الحركة التاريخية  يستدعي الى الذهن  محاولات المفكرين والفلاسفة منذ القدم تفسير التاريخ  وهي محاولات كثيرة  لكن ما يستوقف الدكتور خليل  من بينها جميعا  ادعاءان كبيران  قاما على فكرة  واهية  ألا وهي أن التاريخ يصل نهايته عند مرحلة يفترض كل  ادعاء ان لا مرحلة بعدها . وهذان الادعاءان الكبيران هما:  المنظور الماركسي ، ونظرية نهاية التاريخ . وربما كان ما استوقف الدكتور في هذين الادعاءين هو مناقضتهما الكاملة للمنظور القرآني الذي يقطع بديمومة حركة التاريخ إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.

أما المنظور  الماركسي  فيصور  حركة التاريخ على أنها محكومة  بصراع طبقات يتمخض عن تغير في وسائل الإنتاج التي يتوقف  عليها التغير  في البنى  الفوقية  للمجتمع  وتعاقب  الطبقات  في حكم الناس  و الأجيال . ويستمر التغير  إلى أن يأتي  يوم يتوقف  فيه التاريخ عن الحركة  حين تحكم  البروليتاريا  حيث تتوقف بحكمها   جدلية  الصراع الطبقي  التي هي  المحرك للتاريخ ولا يعود التاريخ يتغير  ولا يتحرك.

وأمام هذا الطرح الذي طغى حقبة  من الزمن على عقول  العديد من الناس  حتى حسبوا أن الأمر  انتهى لصالحهم الى غير رجعة يعقب الدكتور  قائلا  لكن التاريخ تغير  رغم حكم طبقة البروليتاريا . وتحولت هذه الطبقة كما تنبأ بعض المفكرين الى مجموعة تقنيين ذوي ياقات بيضاء نظيفة . ولم تقم  بثورة كما خمن منظرو الماركسية . وكان المؤسسون لهذا المنظور  البائس  مأسورين في الزمان و المكان ولم تكن لهم _ ولا ينبغي أن تكون _ النظرة   المحيطة الفوقية  التي لله عز وجل .

أما الادعاء الثاني  فهو نظرية  نهاية التاريخ  لفرانسيس  فوكوياما الأمريكي. يرى فوكوياما  أن التاريخ  قد وصل بعد رحلته الطويلة  الى الخبرة الغربية الليبرالية الديمقراطية وتوقف عندها . ويرى أن البشرية  ستمضي تحت  مظلة الخبرة الغربية   ممثلة بالولايات المتحدة الأمريكية  بما تمتلك من تقدم علمي وتقني  وقوة عسكرية   وموارد طبيعية وبشرية وباختصار تمتلك  العلم والقوة .

ويدين الدكتور عماد الدين خليل هذا الادعاء من حيث أنه أعطى التبرير الفلسفي  لأمريكا  لتخوض حروبها العدوانية وتسعى الى الهيمنة على العالم  بدعوى الحرية والديمقراطية  وحقوق الإنسان . ونقرأ بين كلمات الدكتور عماد الدين  ثلاثة نقاط رئيسية  فيما يتعلق بهذا المنظور الاستعلائي :

النقطة الأولى أن فوكوياما  عاد وعدل نظريته حيث رأى  أن من حق بعض الشعوب الأخرى  أن تصل الى النموذج الليبرالي الذي يتناسب مع خبرتها التاريخية لكنه يصر على ان التاريخ قد توقف في المحطة الغربية الامريكية . وعلق بأن هذا التعديل لم يطل هذا المنظور وحسب بل  طرا على المنظور الماركسي تعديلات ومسميات اكثر فكانت هناك الماركسية اللينينية و الماوية والقومية ( لجوزيف بروز تيتو ) و ماركسية تروتسكي المعروفة بالثورة الدائمة . وهذه المسميات التي جاءوا بها :" إن هي إلا أسماء  سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ، إن يتبعون إلا الظن  وما تهوى الانفس  ولقد جاءهم من ربهم الهدى " ( النجم 23 )

النقطة الثانية أن   المنظور الفلسفي  لحركة التاريخ استُخدم  مرات عديدة  كتبرير  للقتل والتدمير والاستعمار والاغتصاب  والاقتلاع والتهجير وحروب الإبادة الجماعية . فقد استندت النازية الى مقولات الفيلسوف الألماني نيتشه عن الإنسان المتفوق و عن حقه في ان يقتلع السوسنات البيضاء من طريقه . واستند الحكم البلشفي  الى التبرير الفلسفي الماركسي  في ان من حق  البروليتاريا ان تسحق أعداءها البرجوازيين والرجعيين، وان تقمع جميع الطبقات ، وتسيطر هي على كل شيء  .ومن هنا جاءت عمليات القتل الواسعة في روسيا في بدايات الثورة البلشفية   وعمليات  التهجير والإبادة في الجمهوريات الإسلامية .

النقطة الثالثة هي أن الخبرة الغربية  مسطحة  وتقوم على التمتع الأقصى  بالماديات " والذين كفروا  يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام " ( محمد 12) وذلك أنهم يؤمنون بأنه  " ان هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين" (المؤمنون 37) ، وتفتقر الى ما يعطي الحياة طلاوتها ولذتها الحقيقية أي  الدين والأخلاق . وفي هذا حق ؛ فما يحدث  في فلسطين  وموقف الغرب منه  و الكيل الأمريكي بمكيالين كل ذلك  يكشف  عمق الأزمة الأخلاقية التي  تعيشها  الحضارة الغربية  ،وافتقارها الى الأخلاق والمثل  السامية  التي يشتمل عليها الإسلام  وهو الهدى من الله ( ولقد جاءهم من ربهم الهدى )  .

إن عرض الدكتور  عماد الدين خليل للمنظورين  السابقين  وكشفه عن  العيوب و الفتوق الكبيرة في ثوبيهما المهترئين  والإفلاس الفكري الذي  عانا منه أوصل الى نتيجة  مفادها ان التاريخ  لا يتوقف . حركة التاريخ دائبة  ،وتسير وفق  سنن وقوانين لا تتغير ولا تتبدل  وضعها الله العزيز الحكيم . وعبر هذه القنطرة  انتقل المحاضر  الى المنظور  القرآني ليجعل النتيجة الآنفة الذكر تقر في الأذهان . فيستنبط من القرآن الكريم مثلثين  من قوانين وسنن  الحركة التاريخية،  ويؤطر ذلك كله بإطاره الثابت في القرآن والسنة  وهو وجود جدلية ثنائية  تحكم آلية عمل  هذين المثلثين .

المثلث الأول يتكون من  1- سنة التداول 2- سنة التدافع 3- سنة  التغاير

المثلث الثاني يتكون : 1- الأجل المحتوم 2- الهلاك المحتوم 3- إرادة الله الغالبة

تقضي سنة  التداول  بألا تستأثر قوة أو حضارة او إمبراطورية  او قطب واحد  بحكم الأرض . هناك انتقال  وتداول بين القوى والحضارات . تختفي قوى وتظهر قوى مكانها . يقول الله عز وجل :" وتلك الأيام نداولها بين الناس "( آل عمران 140) . وهذا يعني  أن الهيمنة الأمريكية  وقطبيتها الأحادية لن تدوم . لقد تسلمت زمام الأمور من بريطانيا  وستسلمها الى غيرها . هذا هو لب الأمر . وبالطبع لم يفت الدكتور عماد أن  يعرج  على قصية الزمن ليجيب على السؤال :متى ؟ وهو ما سنعرض  له في قراءتنا  هذه عند الحديث عن ذلك الجزء  من الآية التي تأسست عليها المحاضرة الذي يقول  " والله سريع الحساب " .

أما سنة التدافع  فهي الآلية التي تعمل وفقها سنة التداول . فبالتدافع يزيل الله  من الأرض  قوة او حضارة  بقوة أخرى . يقول الله عز وجل :" ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض " ( البقرة 251 ). وتهدف هذه الآلية الى  تخليص  الأرض من  الفساد  الذي قد ينجم عن هيمنة قطب واحد  على مقدرات العالم  . فالماء الراكد يأسن بعد فترة . ناهيك عن أن الأحادية القطبية  او استئثار قوة ما  بالهيمنة والتحكم  تعني شيوع الظلم ، و  تعمق القهر ، واستشراء الفساد ، و ينشأ عنها هرج كبير  وهذا ما لا تسمح به سنة الله .

وفي سنة التغاير  نجد أن الله عز وجل  جعل الاختلاف بين الناس سنة " ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة  ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم  "( هود 118-119) و لم يجعلهم  أمة واحدة  بل جعلهم مختلفين  ليتعارفوا ودليل هذه السنة من كتاب الله :"  ولو شاء الله لجعلهم   أمة واحدة " ( الشورى 8)و  " و جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا " ( 13 الحجرات).

وهنا يخلص الدكتور  عماد الدين خليل مطمئنا  الى النتيجة  بل الى الحقيقة أن هذا المثلث  اكثر انطباقا  على التاريخ.لكنه يعرف  أن المثلث الأول  يفتقر  في  ذاته الى منطق  يحكمه  وحاشا لسنن الله وحكمته أن يشوبها نقص او عيب  فلهذا  جاء المثلث  الثاني  فارشا الأساس المنطقي  العقلاني  لتتحرك على مساحته  السنن في المثلث الأول .

إن وجود أجل محتوم لكل أمة  من الأمم ،أو حضارة من الحضارات ،أو قوة من القوى  هو أساس  تسير بمقتضاه  السنن في المثلث  الأول . هل يكون هناك تداول  ما لم يكن هناك  أجل محدد ؟ وهل تدفع قوة  قوة أخرى  وتزيلها إذا لم ينته أجل  الثانية . وإذا ظل الاختلاف ولم يكن هناك من أجل محتوم فلن تجد تداولا ولا تدافعا ولا حركة . وينطبق القول  ذاته على  الهلاك المحتوم ؛ فالتداول والتدافع  والتغاير  لن يتم أي منها ما لم يكن الهلاك حتميا  غير قابل للنقض  او الاستئناف  ( وهو ما يشير إليه جزء الآية " لا معقب لحكمه " .

أما إرادة الله الغالبة فتعني أن أي  قوة أو حضارة  مهما بلغت  ومهما كان مقدار قوتها وسطوتها  وتفوقها التكنولوجي  فهي لا تساوي  شيئا  امام قوة الله  الجبارة . وإرادة الله  لا بد حاصلة و لا تقف في وجهها قوى البشر والجن مجتمعة ولو أضيفت إليها قوى أخرى . ( كانوا أشد منكم قوة واكثر مالا  وأولادا ) . و ( افهم الغالبون )

وهنا يحضر الى الذهن ذلك التهويل المقصود والمخطط له من حجم قوة الولايات المتحدة ،وعدم جدوى الوقوف في وجهها ،والدعوة الصريحة للاستسلام لها؛ فهي القدر الذي لا رد له، وهي القوة الماحقة الساحقة المدمرة .. الخ ما استعمل من عبارات  نذكرها جميعا . والقليل ظل على يقينه بالله وهو الذي ينبغي ان نقويه حتى تتحقق المعية الإلهية .

لكن ما سبق كله لم يخرج من قيد التنظير  و التقعيد  والاستنباط مما يجعل البناء الفكري لو ظل كذلك ناقصا . لكن الدكتور عماد الدين خليل مفكر إسلامي أصيل  . والمفكر الإسلامي الأصيل لا شطحات ذهنية عنده  ، ولا تحليق في عوالم  من الافتراضات  العقلية البحتة  التي لا تجد لها  سندا من الواقع  ويهتدي دائما  بمنارة القرآن  و السنة في ما يطرح من أفكار؛ فها هو  يدعم بناءه الفكري في استنباط  سنن الحركة التاريخية  بأمثلة حدثت  وعاصرها جيله حول قوى متجبرة  تسقط واحدة تلو الأخرى . لقد شاهد وأبناء جيله  سقوط بريطانيا العظمى _ الإمبراطورية التي لم تكن الشمس تغيب عنها . وتقلصت مساحتها وضعفت الى الحد الذي جعل الجيش الجمهوري الايرلندي يتجرا ويفجر قنبلة في مقر رئيسة الوزراء السابقة الشمطاء مارغريت ثاتشر وخرجت والمجتمعين معها  وقد علاهم السخام والغبار. وكذلك فرنسا  التي وصلت حدودها  الى كندا غربا  وبيان فو شرقا وهي الآن تعترض فلا يسمع صوتها . وإيطاليا  التي  تجبر فيها موسوليني  وهو يتمايل تيها وخيلاء  من شرفة قصره  وتحت قدميه عشرات الألوف من الطليان . فدهمته إرادة الله في سهول لومباردي  حين أغرت به رعاع إيطاليا  وهو يفر كالجرذ المذعور  و أعدم على مرأى من الجميع . وانهار الاتحاد السوفياتي  الذي كان  فتنة لكثير  من الناس ، ومعه انهار  الادعاء  الكاذب بأن الاشتراكية نهاية التاريخ . ست قوى عظمى طواها التاريخ في قرن واحد .

ومن لطيف ما ذكر الدكتور عماد الدين خليل  أن أول مسمار دق في نعش  الاتحاد السوفياتي  كان مسمارا إسلاميا أفغانيا قبل أن يختلف الأفغان  وتذهب ريحهم . وأول مسمار دق  في نعش الإمبراطورية الفرنسية  كان إسلاميا جزائريا.

وتعقيبا على هذه اللطيفة  هل نبالغ  في التفاؤل إذا قلنا أن أول مسمار  سيدق-  بل لعله دق -في نعش الإمبراطورية الأمريكية  سيكون إسلاميا  بإذن الله ؟

ان النسق الفكري  الذي جمع بين النظري  و التطبيقي  ظل بلا إطار عند المحاضر حتى استكمله  بتأكيده على وجود جدلية ثنائية  تؤطر لعمل المثلثين . وقد سمى هذه الجدلية  " الفرش و اللّم " . ويعني الفرش  المد والتوسيع وتهيئة أسباب القوة والازدهار والغنى " كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا "( الإسراء 20) . لقد شهدت جميع الحضارات  مراحل ازدهار وقوة  وتوسع  وامتداد وهذه هي مرحلة  الفرش . ولكنها بالمقابل شهدت مرحلة تفكك وضمور وانحلال وتآكل حتى زالت وهلكت  وهذه هي مرحلة اللم (، أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها  أفهم الغالبون    "( الأنبياء 44)  . فقد كانت هناك حضارات الآشوريين والكلدانيين  و الصينين و الإنكا والفرس و الرومان ولم يبق منهم إلا أطلال تشهد على انهم مروا بين فرش ولم . الحضارة الغربية عاشت مرحلة الفرش ولا ندري كم تطول هذه المرحلة فكما يقول الدكتور عماد إن القرآن لا يهتم إطلاقا بعمر مرحلة الفرش فهي مهما طالت قصيرة ، وما يهتم به هو مرحلة اللم والإهلاك " لحظة نزول المقص الإلهي" على تلك الأمة التي جاء أجلها حيث لا تستقدم ولا تستأخر .

ولا تنطبق الجدلية الثنائية  على التاريخ فحسب ؛ ولكنها  تنطبق أيضا على الكون والطبيعة . فالكون بنص القرآن يتوسع ويتمدد ( مرحلة الفرش ) ولكن له أجل محتوم ونهاية لا بد آتية ( مرحلة اللم ) . يقول الله عز وجل " يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب  كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين " ( الانبياء 104) .

والسؤال الذي ظل مؤجلا حول( متى ) هو في الحقيقة سؤال بشر يستعجلون  الخلاص  من القهر والظلم  والقتل والتشريد .  لكن حساب الزمن عند الله غير ما يعد البشر " وإن يوما عند ربك كألف سنة ( الحج 47)  مما تعدون " و " تعرج الملائكة  والروح اليه في  يوم  كان مقداره خمسين ألف سنة" ( المعارج 4 ) و إنهم يرونه بعيدا *ونراه قريبا "(6) و(7) المعارج . فاحسب كم من يوم مما نعد يساوي دقيقة عند الله عز وجل . وعليه فإن الإهلاك قادم  "في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون *  بنصر الله  ينصر الله من يشاء وهو العزيز الحكيم  " ( سورة الروم 3-4).

ورغم أن  هذه المحاضرة تحدثت عن سنن الله في التاريخ وفي الطبيعة كذلك إلا ان هذا كان  الإطار المباشر أما المحتوى الأساسي الذي قصد منها فهو شحن المؤمنين بشحنة إيمانية قوية من اليقين على الله  حين تعيد الى الأذهان أن  سنة الله ماضية لا راد لها في  قوى الاحتلال الباغية المعتدية وفي كل قوة سواها. هذا من جهة أما من جهة أخرى فانه يريد من الجميع  يكونوا على وعي أن  الذرائع والدعاوى التي تقوم عليها هذه الهجمة العدوانية من  تحرير وديمقراطية وازدهار  ان هي إلا دعوى كاذبة  ولقد أجابت   المحاضرة  إجابة شافية على ذلك  .