ملف المرأة (2)

ملف المرأة

إعداد : هيثم الأشقر

 (2)  

خلط بين الشهادة والإشهاد

أما الشبهة الثانية والزائفة التى تثار حول موقف الإسلام من شهادة المرأة، فيقول مثيروها: إن الإسلام قد جعل المرأة نصف إنسان، وذلك عندما جعل شهادتها نصف شهادة الرجل، مستدلين على ذلك بآية سورة البقرة:

{يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذى عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئًا فإن كان الذى عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرًا أو كبيرًا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم} (البقرة: 282).

ومصدر الشبهة التى حسب مثيروها أن الإسلام قد انتقص من أهلية المرأة، بجعل شهادتها على النصف من شهادة الرجل {فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان} هو الخلط بين «الشهادة» وبين «الإشهاد» الذى تتحدث عنه هذه الآية الكريمة.. فالشهادة التى يعتمد عليها القضاء فى اكتشاف العدل المؤسس على البينة، واستخلاصه من ثنايا دعاوى الخصوم، لا تأخذ من الذكورة أو الأنوثة معيارًا لصدقها أو كذبها، ومن ثم قبولها أو رفضها، وإنما معيارها تحقق اطمئنان القاضى لصدق الشهادة، بصرف النظر عن جنس الشاهد، ذكرًا كان أو أنثى، وبصرف النظر عن عدد الشهود، فللقاضى إذا اطمأن ضميره إلى ظهور البينة أن يعتمد شهادة رجلين، أو امرأتين، أو رجل وامرأة، أو رجل وامرأتين، أو امرأة ورجلين، أو رجل واحد، أو امرأة واحدة، ولا أثر للذكورة أو الأنوثة فى الشهادة التى يحكم القضاء بناء على ما تقدمه له البينات».

أما آية سورة البقرة التى قالت: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى}، فإنها تتحدث عن أمر آخر غير «الشهادة» أمام القضاء.. تتحدث عن «الإشهاد» الذى يقوم به صاحب الدين، للاستيثاق من الحفاظ على دينه، وليس عن «الشهادة» التى يعتمد عليها القاضى فى حكمه بين المتنازعين، فهذه الآية موجهة لصاحب الحق الدَّيْن، وليس إلى القاضى الحاكم فى النزاع، بل إن هذه الآية لا تتوجه إلى كل صاحب - حق أو دَيْن - ولا تشترط ما اشترطت من مستويات الإشهاد وعدد الشهود فى كل حالات الدَّين، وإنما توجهت بالنصح والإرشاد - فقط النصح والإرشاد - إلى دائن خاص، وفى حالات خاصة من الديون، لها ملابسات خاصة نصت عليها الآية.

المرأة كالرجل في العدالة

واعتبار المرأتين فى الاستيثاق كالرجل الواحد ليس لضعف عقلها، الذى يتبع نقص إنسانيتها ويكون أثرًا له، وإنما هو لأن المرأة - كما قال الشيخ عبده -: «ليس من شأنها الاشتغال بالمعاملات المالية ونحوها من المعارضات، ومن هنا تكون ذاكرتها فيها ضعيفة، ولا تكون كذلك فى الأمور المنزلية التى هى شغلها، فإنها فيها أقوى ذاكرة من الرجل، ومن طبع البشر عامة أن يقوى تذكرهم للأمور التى تهمهم ويمارسونها، ويكثر اشتغالهم بها.

هذا وقد نص الفقهاء على أن من القضايا ما تقبل فيه شهادة المرأة وحدها، وهى القضايا التى لم تجر العادة باطلاع الرجال على موضوعاتها، كالولادة والبكارة، وعيوب النساء والقضايا الباطنية، وعلى أن منها ما تقبل فيه شهادة الرجل وحده، وهى القضايا التى تثير موضوعاتها عاطفة المرأة ولا تقوى على تحملها، على أنهم قد رأوا قبول شهادتها فى الدماء إذا تعينت طريقًا لثبوت الحق واطمئنان القاضى إليها، وعلى أن منها ما تقبل شهادتهما معًا.

وأخيرًا - وليس آخرًا - فإن ابن القيم يستدل بالآية القرآنية {وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا} (البقرة: 143) على أن المرأة كالرجل فى هذه الشهادة على بلاغ الشريعة ورواية السنة النبوية.. فالمرأة كالرجل فى «رواية الحديث، التى هى شهادة على رسول الله (صلى الله عليه وسلم)».

وإذا كان ذلك مما أجمعت عليه الأمة، ومارسته راويات الحديث النبوى جيلاً بعد جيل والرواية شهادة «فكيف تقبل الشهادة من المرأة على رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ولا تقبل على واحد من الناس؟ إن المرأة العدل (بنص عبارة ابن القيم) كالرجل فى الصدق والأمانة والديانة» (الطرق الحكمية فى السياسة الشرعية، صـ 244، 236).

ذلكم هو منطق شريعة الإسلام - وكلها منطق - وهذا هو عدلها بين النساء والرجال وكلها عدل، وكما يقول ابن القيم: «وما أثبت الله ورسوله قط حكمًا من الأحكام يُقطع ببطلان سببه حسًا أو عقلاً، فحاشا أحكامه سبحانه من ذلك، فإنه لا أحسن حكمًا منه (سبحانه وتعالى) ولا أعدل، ولا يحكم حكمًا يقول العقل: ليته حكم بخلافه، بل أحكامه كلها مما يشهد العقل والفطرة بحسنها، ووقوعها على أتم الوجوه وأحسنها، وأنه لا يصلح موضعها سواها».

مدح وليس ذمًا

أما شبهة نقصان العقل والدين «فيحرر» المفكر الإسلامى د. محمد عمارة المسلمات منها خاصة أنها تُستغل أسوأ استغلال فى التنكيل بهن وهضم حقوقهن يقول د. عمارة: إن المصدر الحقيقى لهذه الشبهة هو العادات والتقاليد الموروثة، والتى تنظر إلى المرأة نظرة دونية، وهى عادات وتقاليد جاهلية حرر الإسلام المرأة منها، ولكنها عادت إلى الحياة الاجتماعية، فى عصور التراجع الحضارى مستندة كذلك إلى رصيد التمييز ضد المرأة الذى كانت عليه مجتمعات غير إسلامية، دخلت فى إطار الأمة الإسلامية والدولة الإسلامية، دون أن تتخلص تمامًا من هذه المواريث.

والأكثر خطورة من هذه الأعراف والعادات والتقاليد، التى سادت أوساطها ملحوظة ومؤثرة فى حياتنا الاجتماعية، إبان مرحلة التراجع الحضارى، هى التفسيرات المغلوطة لبعض المرويات الإسلامية، بحثًا عن مرجعية إسلامية وغطاء شرعى لقيم التخلف والانحطاط التى سادت عالم المرأة فى ذلك التاريخ.. ولقد كان الحظ الأوفر فى هذا المقام للتفسير الخاطئ الذى ساد وانتشر لحديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الذى رواه البخارى ومسلم عن نقص النساء فى العقل والدين، وهو حديث رواه الصحابى الجليل أبو سعيد الخدرى (رضى الله عنه) فقال: «خرج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى أضحى أو فطر إلى المصلى، فمر على النساء، فقال:

- «يا معشر النساء، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن».

- قلت: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟

- قال: «أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل»؟

- قلن: بلى.

- قال: «فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصلّ ولم تصم؟».

- قلن: بلى.

- قال: «فذلك من نقصان دينها».

فهذا الحديث يخاطب حالة خاصة من النساء، ولا يشرع شريعة دائمة ولا عامة فى مطلق النساء.. فهو يتحدث عن «واقع» والحديث عن «الواقع» القابل للتغير والتطور شيء، والتشريع «للثوابت» عبــارات وقيمًا ومعاملات - شيء آخر.

فعندما يقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): «إنا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب» (رواه البخارى ومسلم والنسائى وأبو داود والإمام أحمد) فهو يصف «واقعًا»، ولا يشرع لتأييد الجهل بالكتابة والحساب؛ لأن القرآن الكريم قد بدأ بفريضة «القراءة» لكتاب الكون {اقرأ باسم ربك الذى خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذى علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم} ولأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) الذى وصف «واقع» الأمية الكتابية والحسابية، هو الذى غير هذا الواقع، بتحويل البدو الجهلاء الأميين إلى قراء وعلماء وفقهاء، وذلك امتثالاً لأمر ربه، فى القرآن الكريم، الذى علمنا أن من وظائف جعل الله (سبحانه وتعالى) القمر منازل أن نتعلم عدد السنين والحساب {هو الذى جعل الشمس ضياء والقمر نورًا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون} (يونس: 5) فوصف «الواقع» كما نقول الآن مثلاً: «نحن مجتمعات متخلفة» لا يعنى شرعنا هذا «الواقع» ولا تأييده، فضلاً عن تأبيده، بأى حال من الأحوال.

كما أن المقصود به إنما هى حالات خاصة لنساء لهن صفات خاصة، هى التى جعلت منهن أكثر أهل النار، لا لأنهن نساء، وإنما لأنهن - كما تنص وتعلل هذه الرواية - «يكفرن العشير».

فهذا الحديث - إذن - وصف لحالة بعينها، وخاص بهذه الحالة، وليس تشريعًا عامًا ودائمًا لجنس النساء، ويضيف د. عمارة أن تأمل مناسبة هذا الحديث يُرشح ألفاظه وأوصافه لأن يكون المقصود من ورائها المدح وليس الذم.. فالذين يعرفون خلق من صنعه الله على عينه، حتى جعله صاحب الخلق العظيم {وإنك لعلى خلق عظيم} (العلق: 4)، والذين يعرفون كيف جعل (صلى الله عليه وسلم) من «العيد» الذى قال فيه هذا الحديث «فرحة» أشرك فى الاستمتاع بها - مع الرجال - كل النساء، حتى الصغيرات، بل وحتى الحيض والنفساء! الذين يعرفون صاحب هذا الخلق العظيم، ويعرفون رفقه بالقوارير، ووصاياه بهن حتى وهو على فراش المرض يودع هذه الدنيا، لا يمكن أن يتصوروه (صلى الله عليه وسلم) أنه هو الرجل الذى يختار يوم الزينة والفرحة ليجابه كل النساء ومطلق جنس النساء بالذم والتقريع والحكم المؤبد عليهن بنقصان الأهلية، لنقصانهن فى العقل والدين!

وإذا كانت المناسبة - يوم العيد والزينة والفرحة - لا ترشح أن يكون الذم والغم والحزن والتبكيت هو المقصود.. فإن ألفاظ الحديث تشهد على أن المقصود إنما كان المديح، الذى يستخدم وصف «الواقع» الذى تشترك فى التحلى بصفاته غالبية النساء.. إن لم يكن كل النساء.

عبارة ( تقص العقل ) مدح للرقة

فنقص العقل - الذى أشارت إليه كلمات الحديث النبوى الشريف - هو وصف لواقع تتزين به المرأة السوية وتفخر به، ومدح للعاطفة الرقيقة التى تذهب بحزم ذوى العقول والألباب.. ويا بؤس وشقاء المرأة التى حرمت من شرف امتلاك هذا السلاح الذى فطر الله النساء على تقلده والتزين به، أما نقصان الدين فيقصد به سقوط فرائض الصلاة والصيام عن الحيض والنفساء.. وإفطار المرضع، عند الحاجة فى شهر رمضان... إلخ.

وإذا كان الله (سبحانه وتعالى) يحب أن تُؤتى رخصه كما يحب أن تُؤتى عزائمه، فإن التزام النساء بهذه «الرخص» الشرعية هو الواجب المطلوب والمحمود، وفيه لهن الأجر والثواب.. ولا يمكن أن يكون بالأمر المرذول والمذموم، ووصف واقعه - فى هذا الحديث النبوى - مثله كمثل وصف الحديث لغلبة العاطفة الرقيقة الفياضة على العقلانية الجامدة، عند النساء، هو وصف لواقع محمود.. ولا يمكن أن يكون ذمًا للنساء، ينتقص من أهلية المرأة ومساواتها للرجال، بأى حال من الأحوال.

وإذا كان العقل - فى الإسلام - هو مناط التكليف، فإن المساواة بين النساء والرجال فى التكليف والحساب والجزاء شاهدة على أن التفسيرات المغلوطة لهذا الحديث النبوى الشريف، هى تفسيرات ناقضة لمنطق الإسلام فى المساواة بين النساء والرجال فى التكليف، ولو كان لهذه التفسيرات المغلوطة نصيب من الصحة لنقصت تكاليف الإسلام للنساء عن تكليفاته للرجال .

الإسلام عهد للمرأة صناعة الإنسان

وأخيرًا، فهل يعقل عاقل.. وهل يجوز فى أى منطق، أن يعهد الإسلام، وتعهد الفطرة الإلهية بأهم الصناعات الإنسانية والاجتماعية - صناعة الإنسان، ورعاية الأسرة، وصياغة مستقبل الأمة - إلى ناقصات العقل والدين، بهذا المعنى السلبى، الذى ظلم به غلاة الإسلاميين وغلاة العلمانيين الإسلام، ورسوله الكريم الذى حرر المرأة تحريره للرجل؟

نبوءة.. لا شريعة

وفيما يتعلق بشبهة تحريم ولاية المرأة يقول المفكر الإسلامي الكبير د. عمارة: إن «الولاية» - بكسر الواو وفتحها - هى «النصرة».. وكل من ولي أمر الآخر فهو وليه {الله ولي الذين آمنوا} (البقرة: 257)، {إن وليي الله} (الأعراف: 196)، {والله ولي المؤمنين} (آل عمران: 68)، {قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت} (الجمعة: 6)، {ما لكم من ولايتهم من شيء} (الأنفال: 72).

وإذا كانت «النُّصرة» هى معنى «الولاية» فلا مجال للخلاف على أن للمرأة نصرة وسلطانًا، أى ولاية، فى كثير من ميادين الحياة.

ذمة مالية خاصة

فالمسلمون مجمعون على أن الإسلام قد سبق كل الشرائع الوضعية والحضارات الإنسانية عندما أعطى للمرأة ذمة مالية خاصة، وولاية وسلطانًا على أموالها، ملكًا وتنمية واستثمارًا وإنفاقًا، مثلها فى ذلك مثل الرجل سواء بسواء.. والولاية المالية والاقتصادية من أفعال الولايات والسلطات فى المجتمعات الإنسانية، على مر تاريخ تلك المجتمعات.. وفى استثمار الأموال ولاية وسلطان يتجاوز الإطار الخاص إلى النطاق العام.

والمسلمون مجمعون على أن للمرأة ولاية على نفسها، تؤسس لها حرية وسلطانًا فى شؤون زواجها، عندما يتقدم إليها الراغبون فى الاقتران بها، وسلطانها فى هذا يعلو سلطان وليها الخاص، والولى العام لأمر أمة الإسلام.

والمسلمون مجمعون على أن للمرأة ولاية ورعاية وسلطانًا فى بيت زوجها، وفى تربية أبنائهما.. وهى ولاية نص على تميزها بها وفيها حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، الذى فصّل أنواع وميادين الولايات: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالأمير الذى على الناس راع عليهم وهو مسئول عنهم، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده، وهى مسئولة عنهم، ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته» (رواه البخارى ومسلم والإمام أحمد).

لكن قطاعًا من الفقهاء قد وقف بالولايات المباحة والمفتوحة ميادينها أمام المرأة عند «الولايات الخاصة»، واختاروا حجب المرأة عن «الولايات العامة»، التى تلى فيها أمر غيرها من الناس، خارج الأسرة وشؤونها.

ونحن نعتقد أن وقائع تطبيقات وممارسات مجتمع النبوة والخلافة الراشدة لمشاركات النساء فى العمل العام - بدءًا من الشورى فى الأمور العامة، والمشاركة فى تأسيس الدولة الإسلامية الأولى.. وحتى ولاية الحسبة والأسواق والتجارات، التى ولاها عمر بن الخطاب (رضى الله عنه) «للشفاء بنت عبد الله بن عبد شمس» (20هـ - 641م)، وانتهاء بالقتال فى ميادين الوغى، ومثل ذلك من الآيات القرآنية الدالة على أن الموالاة والتناصر بين الرجال والنساء فى العمل العام - سائر ميادين العمل العام - وهى التى تناولها القرآن الكريم تحت فريضة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم} (التوبة: 71).

كل هذا يكفي لدحض الفهم المغلوط للحديث النبوى الشريف: «ما أفلح قوم يلى أمرهم امرأة».. إذ هو الحديث الذى يستظل بظله كل الذين يُحرِّمون مشاركة المرأة فى الولايات العامة والعمل العام.

ولقد وردت لهذا الحديث روايات متعددة، منها: «لن يفلح قوم تملكهم امرأة»، و«لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة»، و«لن يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة» - رواها: البخارى والترمذى والنسائى والإمام أحمد.

وإذا كانت صحة الحديث - من حيث «الرواية» - هى حقيقة لا شبهة فيها.. فإن إغفال مناسبة ورود هذا الحديث يجعل «الدراية» بمعناه الحقيقى مخالفة للاستدلال به على تحريم ولاية المرأة للعمل العام.

ذلك أن ملابسات قول الرسول (صلى الله عليه وسلم)، لهذا الحديث تقول: إن نفرًا قد قدموا من بلاد فارس إلى المدينة المنورة، فسألهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم):

- «من يلي أمر فارس؟».

- قال أحدهم: امرأة.

- فقال (صلى الله عليه وسلم): «ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة».

فملابسات ورود الحديث تجعله نبوءة سياسية بزوال ملك فارس، وهى نبوءة نبوية قد تحققت بعد ذلك بسنوات أكثر منه تشريعًا عامًا يحرم ولاية المرأة للعمل السياسى العام.

فالشبهة إنما جاءت من خلط الولايات - الجزئية والخاصة - بالإمامة العظمى والولاية العامة - دار الإسلام وأمته - وهى الولاية التى اشترط جمهور الفقهاء «الذكورة» فيمن يليها، ولا حديث للفقه المعاصر عن ولاية المرأة لهذه الإمامة العظمى؛ لأن هذه الولاية قد غابت عن متناول الرجال، فضلاً عن النساء، منذ سقوط الخلافة العثمانية (1342هـ - 1924م) وحتى الآن!

وأمر آخر لابد من الإشارة إليه، ونحن نزيل هذه الشبهة عن ولاية المرأة للعمل العام، وهو تغير مفهوم الولاية العامة فى عصرنا الحديث، وذلك بانتقاله من «سلطان الفرد» إلى «سلطان المؤسسة»، التى يشترك فيها جمع من ذوى السلطان والاختصاص.

القوامة مسئولية وعطاء

أما آخر الشبهات التى يفندها د. عمارة فهى «القوامة» كما يفهمها العلمانيون والغلاة معًا - قهرًا وتسلطًا واستعلاء، ففى المدينة المنورة نزلت آيات «القوامة» قوامة الرجال على النساء، وفى ظل المفهوم الصحيح لهذه القوامة تحررت المرأة المسلمة من تقاليد الجاهلية الأولى، وشاركت الرجال فى العمل العام، مختلف ميادين العمل العام ، فكان مفهوم القوامة الصحيح حاضرًا طوال عصر ذلك التحرير، ولم يكن عائقًا بين المرأة وبين هذا التحرير.

ولحكمة إلهية قرن القرآن الكريم - فى آيات القوامة - بين مساواة النساء للرجال وبين درجة القوامة التى للرجال على النساء، بل وقدم هذه المساواة فى تلك الدرجة، عاطفًا الثانية على الأولى بـ «واو» العطف، دلالة على المعية والاقتران، أى أن المساواة والقوامة صنوان مقترنان، يرتبط كل منهما بالآخر، وليسا نقيضين، حتى لا يتوهم واهم أن القوامة نقيض ينتقص من المساواة.

لحكمة إلهية جاء ذلك فى القرآن الكريم، عندما قال الله (سبحانه وتعالى) فى سياق الحديث عن شؤون الأسرة وأحكامها: {ولهن مثل الذى عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم} (البقرة: 228).

ولقد فقه حبر الأمة، عبد الله بن عباس (3 ق هـ - 68هـ - 619 - 687م) الذى دعا له الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ربه أن يفقهه فى الدين - فهم الحكمة الإلهية فى اقتران المساواة بالقوامة، فقال فى تفسيره لقول الله (سبحانه وتعالى): {ولهن مثل الذى عليهن بالمعروف} تلك العبارة الإنسانية، والحكمة الجامعة: «إننى لأتزين لامرأتى، كما تتزين لى، لهذه الآية».

وفهم المسلمون - قبل عصر التراجع الحضارى، الذى أعاد بعضًا من التقاليد الجاهلية الراكدة إلى حياة المرأة المسلمة مرة أخرى - أن درجة القوامة هى رعاية ربان الأسرة - الرجل - لسفينتها، وأن هذه الرعاية هى مسئولية وعطاء.. وليست ديكتاتورية ولا استبدادًا ينقص أو ينتقص من المساواة التى قرنها القرآن الكريم بهذه القوامة، بل وقدمها عليها.

ولم يكن هذا الفهم الإسلامى لهذه القوامة مجرد تفسيرات أو استنتاجات، وإنما كان فقهًا محكومًا بمنطق القواعد القرآنية الحاكمة لمجتمع الأسرة، وعلاقة الزوج بزوجه.. فكل شؤون الأسرة تدار، وكل قراراتها تتخذ بالشورى، أى بمشاركة كل أعضاء الأسرة فى صنع واتخاذ هذه القرارات؛ لأن هؤلاء الأعضاء مؤمنون بالإسلام، والشورى صفة أصيلة من صفات المؤمنين والمؤمنات {والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون. والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون. والذين إذا أصابهم البغى هم ينتصرون} (الشورى: 37 - 39).

هكذا فهم المسلمون معنى القوامة.. فهى مسئولية وتكاليف للرجل، مصاحبة لمساواة النساء بالرجال.. وبعبارة الإمام محمد عبده: «إنها تفرض على المرأة شيئًا وعلى الرجل أشياء».

وهكذا فهمت القُوامة فى عهد التنزيل.. فكانت قيادة للرجل فى الأسرة، اقتضتها مؤهلاته ومسئولياته فى البذل والعطاء.. وهى قيادة محكومة بالمساواة والتناصر والتكافل بين الزوج وزوجه فى الحقوق والواجبات، ومحكومة بالشورى التى يسهم بها الجميع ويشاركون فى تدبير شؤون الأسرة.. هذه الأسرة التى قامت على «الميثاق الغليظ» ميثاق الفطرة، والتى تأسست على المودة والرحمة، حتى غدت المرأة فيها السكن والسكينة لزوجها، أفضى بعضهم إلى بعض، هن لباس لكم وأنتم لباس لهن، فهي بعض الرجل والرجل بعض منها {بعضكم من بعض} (آل عمران: 195)، {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن فى ذلك لآيات لقوم يتفكرون} (الروم: 21)، {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن} (البقرة: 187)، {وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا} (النساء: 21).

هكذا كانت القوامة - فى الفكر والتطبيق - فى عصر صدر الإسلام، لكن الذى حدث بعد القرون الأولى، وبعد الفتوحات التى أدخلت إلى المجتمع الإسلامى شعوبًا لم يهذب الإسلام عاداتها الجاهلية، فى النظر إلى المرأة والعلاقة بها، قد أصاب النموذج الإسلامى بتراجعات وتشوهات أشاعت تلك العادات والتقاليد الجاهلية فى المجتمعات الإسلامية من جديد.

عقد تمليك أم ميثاق غليظ

فقد وجدنا - فى عصور التقليد والجمود الفقهى - تعريف بعض «الفقهاء» لعقد النكاح، فإذا به: «عقد تمليك بضع الزوجة» وهو انقلاب على المعانى القرآنية السامية لمصطلحات «الميثاق الغليظ» و«المودة.. والرحمة.. والسكن السكينة.. وإفضاء كل طرف إلى الطرف الآخر، حتى أصبح كل منهما لباسًا له».

هكذا حدث الانقلاب، فى عصور التراجع الحضارى لمسيرة أمة الإسلام.

ولذلك، كان من مقتضيات البعث الحضارى، الحديث والمعاصر، لنموذج الإسلام فى تحرير المرأة وإنصافها، إعادة المفاهيم الإسلامية الصحيحة لمعنى قوامة الرجال على النساء.. وهى المهمة التى نهضت بها الاجتهادات الإسلامية الحديثة والمعاصرة لأعلام علماء مدرسة الإحياء والتجديد.

بل ونضيف - والكلام للدكتور عمارة - للذين يرون فى القوامة استبدادًا بالمرأة وقهرًا لها - سواء منهم غلاة الإسلاميين، الذين ينظرون للمرأة نظرة دونية، ويعطلون ملكاتها وطاقاتها بالتقاليد - أو غلاة العلمانيين، الذين حسبوا ويحسبون أن هذا الفهم المغلوط هو صحيح الإسلام وحقيقته، فيطلبون تحرير المرأة بالنموذج الغربى، بل وتحريرها من الإسلام! نقول لهؤلاء جميعًا:

إن الرعاية «القوامة» هى فى حقيقتها «تقسيم للعمل» تحدد الخبرةُ والكفاءةُ ميادين الاختصاص فيه «فالكل راع ومسئول - وليس فقط الرجال هم الرعاة والمسئولون - وكل صاحب أو صاحبة خبرة وكفاءة هو راع وقوام أو راعية وقوامة على ميدان من الميادين وتخصص من التخصصات، وإن تميزت رعاية الرجال وقوامتهم فى الأسر والبيوت والعائلات وفقًا للخبرة والإمكانات التى يتميزون بها فى ميادين الكد والحماية، فإن لرعاية المرأة تميزًا فى إدارة مملكة الأسرة وفى تربية الأبناء والبنات.. حتى لنلمح ذلك فى حديث الرسول (صلى الله عليه وسلم) - الذى سبق إيراده - عندما جعل الرجل راعيًا ومسئولاً على «أهل بيته» بينما جعل المرأة راعية ومسئولة عن «بيت بعلها وولده»!

فهى «القوامة» توزيع للعمل، تحدد الخبرة والكفاءة ميادينه، وليست قهرًا ولا قسرًا ولا تملكًا ولا عبودية، بحال من الأحوال.

هكذا وضحت قضية القوامة.. وسقطت المعانى الزائفة والمغلوطة لآخر الشبهات التى يتعلق بها الغلاة غلاة الإسلاميين.. وغلاة العلمانيين.

كيف ندين النموذج الغربى؟

وبعد أن يتحرى د. عمارة الطرح الإسلامى الصحيح فى تفنيده للشبهات الخمسة يؤكد أنه سواء نظرنا إلى قضية المرأة وإنصافها وتحريرها، فى إطار النظرة العامة التى نظر الإسلام بها إلى المرأة - نظرة الإنصاف والمساواة للرجل فى الخلق فى نفس واحدة.. وفى الإنسانية وفى التكريم، أو نظرنا إليها من خلال تطبيقات مجتمع النبوة، الذى مارست فيه المرأة فقه هذا التحرير الإسلامى لملكاتها وطاقاتها - على النحو الذى شاركت فيه الرجال بإقامة الدين، وبناء الدولة، والمجتمع، والحضارة، أو من خلال «الفكر الفقهى» الإسلامى، الذى اختلف أئمته حول بعض القضايا الفرعية - التى اتخذت فى عصر التراجع الحضارى، ومن قبل تيارات الجمود والتقليد منطلقات لشبهات ضد أهلية المرأة وإنصافها، فنفذنا إلى فقه النصوص التى تصورها البعض شبهات وعقبات على طريق تحرير المرأة، فإننا سنجد الآفاق واسعة وفسيحة وممتدة أمام إنهاض المرأة بالإسلام، وليس بتجاوز الإسلام، كما يريد المتغربون من غلاة العلمانيين.

وإذا كانت بعض المجتمعات والبيئات الإسلامية، تسود وتتحكم فيها عادات وتقاليد وأعراف تحجب المرأة عن المشاركة فيما هى أهل له وقادرة عليه من ميادين العمل العام.. فإن المنهاج الإسلامى يدعو إلى تطوير هذه العادات والتقاليد والأعراف نحو النموذج الإسلامى لتحرير المرأة وإنصافها، فى تدرج لا يقفز على الواقع ولا يتجاهله ، فتجاهل الواقع والقفز على عاداته وتجاهل تقاليده وأعرافه، هو جهل لا يليق بالمصلحين، كما يدعو هذا المنهاج الإسلامى إلى رفض، بل وإدانة إلباس هذه العادات والتقاليد والأعراف لبوسًا إسلاميًا، يجملها، ومن ثم يكرسها، بالزور والبهتان.

وكذلك الحال مع البيئات والمجتمعات الإسلامية التى اقتحمها النموذج الغربى «لتحرير» المرأة، ذلك الذى أرادها «ندا» للرجل، وتجاهل تميز «الأنوثة» عن «الذكورة» فى تقسيم العمل الاجتماعى بين النساء والرجال، كما تجاهل منظومة القيم الإسلامية وضوابط الشريعة فى الزى والسلوك والأخلاق، على النحو الذى أهان المرأة واستباح حرماتها، وأهدر - مع حقوقها كأنثى - حقوق الله (سبحانه وتعالى).

إن هذا النموذج الغربى فى «تحرير» المرأة، لابد من إدانته، وطى صفحات فكره وممارساته فى واقعنا الإسلامى - بالنقد الموضوعى، وبتقديم البديل الإسلامى.. لا بالمصادرة التعسفية، ولابد كذلك من تطوير هذا الواقع الاجتماعى فى اتجاه التقبل للنموذج الإسلامى.

فللإسلام نموذجه المتميز فى تحرير المرأة، ولهذا النموذج طلائعه فى تاريخ هذا التحرير.

وإذا كانت الأسرة هى اللبنة الأولى فى بناء الأمة، فإن المرأة فيها هى الراعية وصانعة المستقبل، بصياغة وصناعة الإنسان، وتربية وإعداد عدة الغد وتنمية أعظم رأس مال فى الوجود!

ومع عظم وعظمة هذه المهمة.. فإن آفاق عمل المرأة لا تقف عند نطاق الأسرة، فلقد فتح التحرير الإسلامى أمام عملها آفاق الاشتراك فى العمل الاجتماعى العام - مُوكلة.. ووكيلة.. ناخبة.. ومنتخبة - لتشارك فى شورى صناعة القرارات التى ترشد مسيرة الأسرة والأمة.. نهوضًا - مع الرجل - بأداء فريضة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، التى فرضها الله (سبحانه وتعالى) على الجميع، والتى تندرج تحتها وتتفرع منها سائر ميادين العمل العام.. على أن يخضع ذلك كله لتوفر الأهلية والقدرة - وهو شرط عام فيمن ينهض بأى تكليف شرعى، رجلاً كان أو امرأة - وألا يخل هذا الاشتراك فى العمل العام بحق وواجب المرأة لأسرتها، ومملكتها الأولى، وإطار قوامتها الأساسية، أو بضابط من الضوابط الشرعية التى جاء بها الإسلام.

المرأة المسلمة والعولمة ... أي مكان لنا

مؤتمر دافوس النسائي جزء من مشروع لأمركة العالم الإسلامي .

الأستاذ إدريس الكنبوري * قد قدم لنا في هذا الملف مداخلة رائعة حول كيفية إستغلال الأعداء للمرأة والقضايا الحساسة في مجتمعنا الإسلامي للإنقضاض علينا وسلخنا عن ديننا فقال :

يمر العالم العربي والإسلامي في الوقت الراهن بتجربة أقل كلمة يمكن وصفها به هي"المحنة"، ذلك أن عمق التحولات من حوله كبيرة ومتتالية وهائلة، والرؤية إلى هذه التحولات الكبرى مشوشة إن لم تكن غائبة، والمسافة إلى الرد عليها فارغة، والأمر في الأخير بيد الله سبحانه.

لقد طرحت علينا حقبة ما بعد تفجيرات الولايات المتحدة الأمريكية في 11 سبتمبر 2001 ـ ونحن مضطرون للتأريخ بهذه المحطة لأن العالم يفعل فينا ولا  نفعل في العالم ـ  تحديات من ذلك الصنف الذي لا تجابهه الأمم إلا في المحطات الانتقالية التي تفصل بين عهدين، وألقت على  كواهلنا أحمالا ثقيلة، ولكنها ألقت علينا أيضا ـ وهذا هو المهم ـ أسئلة عدة تتعلق بفعل الإرادة وسلاح المواجهة لضمان البقاء واستمداد العافية.

 إن أكبر ما حدث بعد تفجيرات 11 سبتمبر إلى اليوم هو أن الإسلام والمسلمين قد تصدروا مسرح الأحداث وساحة الخطاب السياسي والثقافي والفكري في الغرب والعالم، وأصبح العالم الإسلامي يشار إليه بالبنان كأرض مرشحة للمواجهة المستقبلية الحضارية، ورقعة غير محروثة بما فيه الكفاية بالنسبة للغرب والولايات المتحدة بوجه خاص، لذا فإن أمر تطويعه أو تدجينه صار يقع على رأس أجندة صانعي القرار الأمريكي والغربي.

ويبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية قد رجعت إلى التراث الأوروبي الاستعماري القديم لنفض التراب عليه وبعثه لكي يواكب مستجدات حقبة ما بعد 11/9، وذلك بكلمة واحدة يعني أن"المسألة الشرقية" قد عادت مجددا وإن تحت عناوين مختلفة وفي ظروف غير الظروف التي مهدت لظهور تلك القضية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أي أن الشرق المسلم ـ مكانا ورسالة وبشرا ـ هو ما بات اليوم يشغل الولايات المتحدة الراغبة في اجتثات الخصوصيات الحضارية والثقافية للمسلمين بغية التحكم في رسم مستقبلهم، في علاقة معها تريدها هي علاقة غلب وهيمنة.

التعليم والأسرة ومدخل الصراع

من هنا يلحظ الذين تابعوا أحداث ما بعد تلك الحقبة المؤشر عليها أعلى، أن الخطاب الأمريكي ـ الغربي بدأ في التركيز على البنيات الثقافية والدينية في العالم الإسلامي، وبرز في كل تلك اللوحة المتعددة الألوان أمران أساسيان: الأمر الأول التعليم الديني ، والأمر الثاني قضية الأسرة، ذلك أن الولايات المتحدة ـ مفيدة من الدرس الذي توفره لها التجربة الأوروبية الاستعمارية ـ تدرك بأن الأسس التعليمية والتربوية وبناء الأسرة في العالم الإسلامي هما أساس الطاقة الحيوية للحضارة الإسلامية، وأن لا تطويع ناجحا للمسلمين وفقا للخيارات الأمريكية التي بلورتها العولمة الأحادية إلا بإدخال التغيير والتعديل على هذا البناء الذي يمثل أداة مستمرة للتجديد الحضاري للأمة الإسلامية في دائرة التداول الحضاري القرآني أو الدورة الحضارية الخلدونية.

لا يعني هذا أن تفجيرات 11 سبتمبر هي التي أحدثت كل هذا التغيير في الاستراتيجية الأمريكية ناحية العالم الإسلامي، بقدر ما إنها ساهمت في الدفع بها أكثر وتزييت آلتها العدوانية.

فمنذ بداية التسعينيات من القرن الماضي وسقوط المعسكر الإشتراكي بدأ التنظير لمرحلة ما بعد القطبية الثنائية الدولية، وظهر الإسلام باعتباره"الخطر الأخضر" القادم بعد الخطر الشيوعي"الأحمر"، وبعد أن ساد الحديث خلال القطبية الثنائية السابقة عن مواجهة بين الكتلة الاشتراكية والكتلة الرأسمالية ـ على أساس تقسيم اقتصادي وسياسي ـ، ساد في مرحلة ما بعد الحرب الباردة خطاب المواجهة بين القيم المسيحية ـ اليهودية وبين الإسلام، على أساس تقسيم عقدي ديني وحضاري لا اقتصادي أو سياسي. مثل هذه الرؤية الحضارية الانقسامية هي التي كانت وراء نظرية"نهاية التاريخ" لفرانسيس فوكوياما ثم نظرية"صدام الحضارات"لصامويل هانتنغتون، لكن العجيب أن تأتي تنظيرات اليمين المسيحي المحافظ المتصهين في الولايات المتحدة امتصاصا لمحتوى هاتين النظريتين اللتين ارتكزتا على قضية واحدة: كيف يمكن القضاء على القوة المحتملة للعالم الإسلامي استباقا للزمن ودرءا لمخاطر المستقبل؟، وإن مفهوم الاستباق هذا يذكرني بنظرية"الضربة الاستباقية"  العسكرية الأمريكية في حقبة ما بعد التفجيرات، الأولى حضارية، والثانية عسكرية، وكلتاهما نتاج للخوف من الإسلام والمسلمين.

تدويل المرأة ومدخل الحداثة

 بدأ "تدويل" قضية المرأة في التسعينات من القرن الماضي بشكل واضح، وقد ارتبط ذلك التدويل في تلك الفترة بمجمل التحولات العالمية التي قادت إلى الفرز العالمي على أساس الحضارات والقيم الدينية كما أوضحت أعلاه. وقد مثلت القمم العالمية التي عقدت حول المرأة في القاهرة وبكين وجنيف والقمة الاجتماعية في جوهانسبورغ تحولا نوعيا في طرح قضية المرأة في العالم العربي والإسلامي، بطريقة بدت معها طروحات قاسم أمين ولطفي السيد التي كنا ننتقدها في الماضي أكثر اعتدالا بل أقول"حشمة". العامل الرئيسي خلف هذا التحول النوعي هو أن طرح القضية هنا تزامن مع منعطفين: الأول هو عودة الإسلام إلى الواجهة كأبرز تحد للحضارة الغربية إن لم يكن التحدي الوحيد، والثاني هو سياق العولمة الذي بدأ في التبلور انطلاقا من مستهل التسعينات وتنامى مع ولاية بيل كلينتون في الولايات المتحدة الأمريكية، فلأول مرة تم تدويل قضية المرأة عالميا لتصبح مثلها مثل قضية الأوزون أو قضايا البيئة مثلا، والنظر إلى الخصوصيات الحضارية والدينية والثقافية للأمم والشعوب باعتبارها غير ذات موضوع، ونشر مفهوم"القيم العالمية" أو"الكونية"، مع أن هذه ليست سوى الترجمة الحرفية للقيم اليهودية ـ المسيحية العلمانية.

وقد شكلت قمة بكين حول المرأة في العام 1995 بداية التوتر بين الخصوصيات.  في تلك القمة برز مفهوم جديد وغريب هو"الجندر" وجرى الترويج له على نطاق  عالمي واسع، وتبنت القمة توصيات تدعو الدول المشاركة إلى تضمينها في  دساتيرها وقوانينها الداخلية، وإعداد تقارير مفصلة عن أوضاع المرأة فيها ورفعها   إلى الأمم المتحدة، وبدأ الحديث لاحقا في البلدان العربية والإسلامية عن قوانين  الأسرة والزواج وارتفعت المناداة يتغييرها وفقا للمعاهدات والإتفاقيات الدولية، وتعددت  المنظمات النسائية وأصبحت لها منابر عالية. ولا بد أن نلاحظ هنا مقدار التغيير لنفهم   أن الأمر يتعلق بموجة ثانية للاستعمار الأجنبي تحت ستار مختلف عن ستار الاستعمار  الأوروبي الكلاسيكي، ذلك أن قوانين الأسرة في العالم العربي والإسلامي هي القوانين  الوحيدة التي لم يمسسها المستعمر القديم أو تابعه الداخلي بعده، فكان المطلوب هو الإجهاز على آخر ما تبقى من كينونة المجتمعات المسلمة بهدف تغريبها كلية وسلخها عن جلدها. وبينما كان الخطاب الاستعماري السابق يغلق أهدافه بغلاف التحضر أو العصرنة، جرى تغليف الهدف الجديد بغلاف الحداثة التي هي لب العلمنة، وهذه هي الوجه  الثاني لعملة العولمة.

عولمة المرأة ومدخل الأمركة

 لقد أصبح هاجس العولمة الأمريكية اليوم بعد تفجيرات نيويورك وواشنطن هو تطويع المجتمعات العربية المسلمة بحيث تصبح أرضا قابلة لاستيعاب وامتصاص القيم الوافدة،  فقد جرى تمطيط مفهوم"الإرهاب" ليأخذ المنطوق الذي تريده الولايات المتحدة الأمريكية،  وأصبحت الحرب ضد قيم الأسرة وخصوصية المرأة جزءا من الحرب ضد"الإرهاب".

فعلى هذه الخلفية يمكن تفهم الربط الميكانيكي في العقل الأمريكي بين الإرهاب وبين الأسرة والتربية في العالم الإسلامي، ونجد أن كلمة المرأة والقيم الحضارية تكررت بشكل كبير في خطب الرئيس الأمريكي الحالي جورج بوش بعد التفجيرات وفي خطب كونوليزا رايس مستشارته للأمن القومي، بل إن الرئيس الأمريكي أتى على ذكر الحجاب في إحدى خطبه في العام الماضي حول الاستراتيجية الأمريكية الجديدة ضد الإرهاب العالمي، وتكرر الحديث عن القيم العائلية في خطاب الشراكة الأمريكية ـ الشرق أوسطية الذي قدمه وزير الخارجية الأمريكي كولن باول في ديسمبر من العام الماضي. 

هذه الإشارات جرى اعتمادها بشكل رسمي في مؤتمر القمة العالمية حول المرأة الذي عقد في مدينة مراكش المغربية في شهر يوليو الماضي وحضرته وفود أمريكية  كبيرة للترويج لخطاب الأمركة الجديد، والملفت أن المؤتمر أطلق عليه"مؤتمر دافوس  للنساء"، لينظر إليه باعتباره تتمة وتكملة لمؤتمر دافوس الاقتصادي الذي عقد في الأردن قبله بأقل من شهر. لماذا هذا الربط بين المؤتمرين؟

 كان مؤتمر دافوس بغاية دفع مشروع الشراكة الأمريكية ـ العربية خطوة أوسع للأمام، والمعروف أن هذا المشروع منظومة شاملة من الغزو الثقافي والاختراق الاقتصادي والتوحيد القيمي، بينما كان مؤتمر دافوس النسائي بغاية تنفيذ الشق المتعلق في المشروع  بالمرأة والأسرة، فالمشروع هو مشروع متكامل لأمركة العالم الإسلامي.

 هنا، في هذا السياق، يمكن وضع المعارك التي تنشب اليوم في العالم العربي والإسلامي بشأن قوانين الأسرة والزواج، والضغوط العالية التي تتعرض لها الدول العربية والإسلامية من أجل تنفيذ حلقات الاستراتيجية الأمريكية. والسؤال هو: أين مكاننا مما يحدث حولنا  لنا؟ وما ذا ينتظرنا؟ وما يراد بنا؟. إنها أسئلة للتفكير.

عقبات وتحديات في طريق المرأة المسلمة

المرأة نصف المجتمع ورئته المعطلة - كما يقولون - معطلة عن تخريج جيل مؤمن مستنير، معطلة عن المشاركة فى إنهاض الأمة اجتماعيًا وسياسيًا.

والمرأة المسلمة أكثر تعرضًا لافتراس جاهليتين: جاهلية القرن الرابع عشر الهجرى، أى جاهلية الغلو، والتشدد، والتقليد الأعمى لما وجد عليه الآباء، وجاهلية القرن العشرين الميلادى، أى جاهلية العرى والإباحية للغرب، وكلتا الجاهليتين خروج عن شرع الله.

ولكى تُحرر المرأة من كلتا الجاهلتين لابد من تحرير الرجل، ولن يتحرر الفريقان إلا باتباع هدى الله المبين.

وبين الجاهليتين توجد بعض العلل والأمراض التى حالت دون قيام المرأة المسلمة بدورها كاملاً داخل أسرتها، وفى إطار مجتمعها.

وتفند ( د. سعاد صالح ) - أستاذة الفقه بجامعة الأزهر - بعض العلل فتقول: إن المسلمين انحرفوا عن تعاليم دينهم فى معاملة النساء، وشاعت بينهم روايات مظلمة، وأحاديث موضوعة، أو قريبة من الوضع انتهت بالمرأة المسلمة إلى الجهل الطامس، وإلى العزلة والاستعباد، فأعادتها إلى ما يقرب من الجاهلية الأولى، حتى أصبح تعليم المرأة معصية، وذهابها إلى المسجد محظورًا، ومشاركتها فى شئون المجتمع وانشغالها بحاضره ومستقبله شيئًا منكرًا عليها.

وكانت العلة الثانية: أن المسلمين استندوا فى تعويق مسيرة المرأة إلى متشابهات من النصوص، تاركين المحكمات البينات، ففريق من الناس لا يكفون عن الاحتجاج بالآيات الواردة فى شأن نساء النبى (صلى الله عليه وسلم) وقوله تعالى: {وإذا سألتموهن متاعًا فسألوهن من وراء حجاب}.

ومن ثم فقد استغل أصحاب هذا الفريق بعض الأحاديث الصحيحة فى هضم حق المرأة.

وتشير ( د. سعاد صالح ) إلى اجتهادات خاطئة صدرت من بعض علماء السلف - وجل من لا يخطئ - وقد عظم شأن تلك الاجتهادات، وتضخمت نتائجها لثبات توارثها قرونًا متطاولة، بفضل الجمود والتقليد.

وأيًا كانت الأخطاء والانحرافات، فمن رحمة الله بالمسلمين أن يظل بينهم قوم عدول قائمون بأمر الله، وفى ذلك يقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها».

وعن غياب دور المرأة الإيجابى فى المجتمع تقول الأستاذة ( بيخال أبو بكر ) إن المتأمل فى واقع المرأة فى مجتمعات الشرق، أو العالم الإسلامى يجد أن المعاناة، والقهر، والظلم، والأمية، والجهل هى سمات واقع حياتها، بالإضافة إلى كونها إنسانًا تضطهد مع الرجل فى الكوارث السياسية كالحروب الأهلية الخارجية، وكبت الحريات، وتضطهد مرة أخرى كأنثى، وخصوصًا فى المجال الاجتماعى، وذلك بعدم معرفة دورها الحقيقى والتكاملى للرجل.

وتعدد الأستاذة بيخال أسباب غياب دور المرأة الإيجابى فتقول:

1 - تراجع المسلمين عن القيام بمسئولياتهم فى المجالات السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، والحضارية.

2 - عدم الاهتمام الكافى بالمسائل التى تخص المرأة فى الفقه، أى عدم تفعيل النعى، حيث سعى الخطاب الإسلامى إلى الاجتهاد فى قضايا ملحة كالاقتصاد والسياسية، ولكنه فى مجال قضايا المرأة اكتفى برفع النعى شعارًا دون بذل الجهد فى تفعيله وترجمته إلى واقع معاش.

3 - التهاون فى إعداد آليات لتفعيل دور المرأة لتلاؤم العصر، فخطاب الإسلاميين لم يتخذ من الخبرة النبوية مصدرًا لتوليد تجارب جديدة تسير على نهجها، وتبلور دلالاتها فى نماذج جديدة.

4 - إهمال الجانب القانونى، فالتركيز على الكثير من الحقوق الشرعية يتم فى إطار العرف والعقل دون الاهتمام بالصياغة فى شكل قانونى ملزم، وتقديم المشروعات فى هذا الصدد مثلما هو الحال فى المسائل الجنائية والمدنية.

5 - ضعف المراجعة والنقد الذاتى.

6 - غياب القيادات النسائية الإسلامية.

7 - هيمنة الرجل: فهذه الإشكالية هى نتيجة منطقية لغياب المرأة عن مراكز القرار فى الحركات الإسلامية، وهذه الإشكالية يمكن أن تتحول إلى معوق من معوقات تطور المرأة ذاتيًا وتقديمه حركيًا واجتماعيًا.

8 - حصر اهتمامات المرأة بقضايا المرأة وعزلها عن عالم الرجال مما ساهم فى إضعاف أهليتها.

9 - الإهمال من جانب المرأة، حيث يقع جزء من المسئولية على عاتق المرأة نفسها، فعدم الوعى بحقيقة دورها فى الحياة، وعدم انتهاز الفرص لتفعيل طاقاتها فى المجالات المختلفة، وعدم تنظيم وقتها للواجبات المختلفة، وإهمال التثقيف والتوعية الذاتية من قبلها هذه كلها تؤدي إلى تكريس دورها الهام فى الحياة.

10 - خلاف الإسلاميين حول الرؤية الإسلامية الصحيحة المتوازنة لأهمية دور المرأة، وانشغالهم بالجدال والنقاش حول هذا الموضوع.

11 - الإعلام بوسائله المسموعة والمقروءة والمرئية قد تجاهل دور المرأة المسلمة فى بناء الأمة، والتركيز على الجوانب المظهرية والشئون المنزلية.

وتتفق الأستاذة جيهان الحلفاوى - داعية إسلامية - مع الرأى السابق فى أن انعزال المرأة المسلمة، وتغيبها عن الدور المنوط بها فى مجتمعها سواء بتقصير منها، أو بتركها الساحة فارغة من المسلمة الفاهمة الواعية بقضاياها وقضايا وطنها، وأمتها، فهى بذلك تتحمل جزءا من المسئولية فى نظرة الآخرين إلى الإسلامى على أنه يقزم المرأة، ويقصر دورها على البيت فقط.

وكذلك للزوج دور مهم فى حياة المرأة، فإما أن يدفعها لخدمة دينها ووطنها، وإما أن يكون عائقًا أمامها وعقبة فى القيام بواجباتها فضلاً عن أن انشغال المرأة بالأمور الأسرية، وما أعمقها فى هذه الأيام من كسب للعيش، ومراقبة للأولاد، والتدريس لهم، هذا يجعلها لا تفكر فى أى عمل آخر أو فى العمل العام.

* خدمة مركز الإعلام العربي .

انتهى