يوم دخلت السلطة إلى حمام الأسطة
يوم
دخلت السُلطة إلى
حَمّام
الأسطة!
مصباح
الغفري
حدثنا أبو يسار الدمشقي
قال :
قرر واحد من أثرياء
التقدم والإشتراكية إحياء التراث، فافتتح
حماماً عاماً جهزه بأفخر المُعدات
والأثاث . وأطلق عليه اسم " حمام الأسطة
"، ودعا إلى حفلة الافتتاح رجال الحكومة
والسلطة .
ولما
كان لا بد في هذه المناسبة من الطعام، فقد
ذبحت الخراف والأغنام . وأديرت على
الحاضرين الكؤوس، فشع الفرح ودارت الرؤوس
. ولكي يَطلع المسؤولون على الحمام
العتيد، وما أدخل اليه من وسائل الحضارة
والتجديد . فقد خلع الجميع الثياب وتركوا
المناسف، ودخلوا الحمام عراة إلا من
الفوَط والمناشف . وأعطي لكل واحد قبقاب،
صنع من أجود أنواع الأخشاب .
وبما أنني كنت مدعواً
إلى هذه الوليمة، فقد لبيت الدعوة بكل همة
وعزيمة . لكنني وصلت متأخراً بعد تناول
الطعام، فدخلت مباشرة إلى الحمام . وشاهدت
أصحاب السيادة والمعالي عراة، وقد تكشفت
منهم السيقان وظهرت العورات !
فرأيت أن أنقل إلى القراء الكرام،
وصفاً دقيقاً لأصحاب الحل والربط في
الحمام، وإليكم مشاهداتي أيها السادة،
بدون نقصان ولا زيادة :
جلس دولة رئيس الوزراء،
على بلاط الحمام جلسة القرفصاء . له كرش
منتفخ عجيب، وساقان كأطفال الأنانيب . لو
شاهدته بهذا الشكل في الأحلام ، لَعَز
عليك الكرى والمنام . ولو وُزعت صورَته
عارياً على الحدود، لأصيب موسم السياحة
بالركود والجمود .
أما منظر قائد الجيش بلا
ثياب، فيوقظ في النفس الرغبة في النميمة
والاغتياب . ولو رآه أحد جنوده بهذا الجسم
المُشوه، لفرّ من الجيش دون أن يتحسر أو
يتأوه . ولو ظهر بكرشه في جبهة القتال،
لتوقف القتال والنزال . ولَولى العدُو
الأدبار، ولاذ جنوده من الرعب بالفرار .
لكن
أعجب هذه الأشكال، هو شكل مدير المخابرات
بلا جدال . إذ امتلأ جسمه باللحم، وتكومت
عليه بضعة أطنان من الشحم . تراه وهو جالس
على الأرض، وقد تساوى طوله بالعرض . بساقين
نحيلتين كعيدان القصب، وأثداء تدعو إلى
الإشمئناط والعجب . فتساءلت أهذا هو الذي
ينشر الرعب في قلوب الناس، ويحصي عليهم
الحركات والأنفاس ؟
وقضيت ساعة أو ساعات،
أتأمل في عجائب المخلوقات . وكدت أصاب
بالإغماء، وأنا أرى على الطبيعة
الجنرالات والعمداء . وفجأة لمحت في
الزاوية بعض شعراء النظام، يستنزلون من
المشهد الوحي والإلهام. وانفصل عنهم شاعر
مخابرات العسكر، يتمشى في الحمام ويتبختر
. وعندما جاءه الإلهام وأخذه الحال، تثنى
وسعل ومال، ثم ما لبث أن قال :
يا
مدير المخابرات في بلاد العروبة
أنت في الحسن والجمال أعجوبة!
فأشار إليه سيادته أن
توقف عن هذا الهذر، فعاد إلى الزاوية
ممتلئاً بالقهر .
وما هي إلا لحظة حتى
أتاني صوت لطيف، فالتفت فإذا هو صديقي أبو
شريف . وهو من احترف الدسَّ واغتياب الناس،
حتى سمي بالوسواس الخناس . قال لو رأى
الشعب حكامه عراة في الحمام، إذن لثار
وأسقط النظام. فظهور المسؤولين بهذه
الأشكال، كافٍ لإشعال الثورة وتأجيج
النضال . فهم إنما يلقون الرعب في قلوب
الناس، بالأوسمة والنياشين وأناقة اللباس
.
لكن مدير الأمن كان لنا
بالمرصاد، فاقترب وقال بم تأتمرون أيها
الأوغاد ؟ فتلعثمت وقلت رويدك يا سيادة
اللواء، فحديثنا كله هراء بهراء . ولم نخرج
عن موضوع الطقس، وكيف تغير بين اليوم
والأمس .
قال حذار من الحديث عن
السلطة، وإلا أصبحتم في ورطة .
فانسللت بسرعة من الحمام، وتواريت من
الخوف بضعة أيام .
وتلفت أبو يسار ست
الجهات، ثم أنشد للمتنبي هذه الأبيات :
أيملِكُ
المُلْكَ والأسياف ظامِئـة
والطيرُ جائعة ، لحمٌ على وَضـمِ؟
من
لو رآنيَ ماءً ، مات من ظمأ
ولو عَرَضتُ له في النوم ، لم يَنمِ
ميعادُ
كُل رقيق الشفرتين غداً
ومن عصى من ملوك العرب والعجمِ