" نعم " والإنعام و الأنعام !

" نعم "  والإنعام  و الأنعام !

مصباح الغفري

سأل أعرابي أحد الفقهاء :

من يُحاسبنا يوم القيامة ؟

أجاب الفقيه : الله .

صاح الأعرابي :

نجونا ورب الكعبة … إن الكريم لا يدقق في الحساب !

العربي كريم يجود حتى  بنفسه ، كما قال الشاعر :

ولو لم يَكُن في كفه غير نفسه     لجادَ بها ، فليتق الله سائلُه

وبما أن الشعب العربي شعب كريم كما تؤكد جميع الخطابات القومية وجميع البلاغات العسكرية التي تبدأ دائماً بهذه العبارة الخالدة :

أيها الشعب الكريم .

وحيث أن الكريم لا يدقق في فواتير الحساب ، مهما كان في هذه الفواتير من تزوير، والكريم لا يقول " لا " إلا في تشهده ، وبما أن الحاكم العربي أيضاً من هذا الشعب ، وبما أننا جميعاً  والحمد لله أحفاد حاتم الطائي و معن بن زائدة ،فنحن كرام بالوراثة ، ولذلك فإن الحاكم العربي لا يقول لسَدَنة النظام العالمي الجديد إلا كلمة نعم ، ويكافؤه الشعب على كرمه بكرم ، فما جزاء الإنعام ، إلا التحول إلى أنعام ، ومن علمني قول " نعم " كنت له عبداً رقيقاً ناعماً منعِّماً !

الكاتب العربي مثله مثل القاريء العربي ، كلاهما كريم ، الكاتب لا يقول لرئيس التحرير " لا " ، ورئيس التحرير لا يقول لصاحب الجريدة إلا كلمة " نعم " والقاريء لا يدقق في محاسبة الكتاب والصحفيين ورؤساء التحرير ، وهذه نعمة على رؤوسنا لا يراها غيرنا من كتاب بلاد الله الواسعة ، تخيلوا لو أن القراء العرب الكرام كانوا قراء لئاماً ، من صنف القاريء غير العربي الذي يدقق ويحاسب الكاتب كمحاسبة منكر و نكير ، ما الذي سيحدث عندئذ ؟  هل كان يبقى أي منا على قيد الحياة أو سليماً من الأذى ؟

على أن شعوب " نعم " التي تعيش بالإنعام كالأنعام ، ليست مجبرة على قول " نعم " في الاستفتاءات وتجديد البيعة للوالي ، إنها تفعل ذلك طوعاً لا كَرهاً ، وهي بكامل قواها العقلية المتبقية لديها ، وبكرم عربي أصيل توارثته كابراً عن كابر ، حتى أصبحت الدماء التي تجري في شرايينها كالمياه المقطرة صفاء ، وليس صحيحاً ما زعمه أبو عثمان عمرو بن بحر الملقب بالجاحظ ، في كتابه عن " العصا " ، فالعصا لمن عصى فقط ، أما من قال نعم في الاستفتاء ، فله حق معلوم كحق السائل والمحروم . فهل أتاك يا أخي العربي الكريم جداً حديث حقوق الأنعام عندما تثوب إلى رشدها وتتوب عن المطالبة بحقوقها توبة نصوحا ؟

إعلم ، غفر الله لك ما تأخر من ذنبك تجاه القيادات التاريخية الحكيمة ، أن العربي المُنعم عليه بأنظمة أولي النعم من حُكام " نعم " يتمتع بحقوق لاتعرفها الشعوب الجاحدة التي تغير حكامها كما تغير سراويلاتها ، فمن حق من قال نعم أن يُستضاف في منتجعات الدولة المنتشرة بين طنجة وحلبجة ، لمدة لاتزيد عن مدى الحياة مجاناً ، ولا يحق للدولة إخراجه من هذه المضافات إلا  بعد الوفاة مباشرة ، أو بعد التأكد من أنه لن يعيش أكثر من شهرين قمريين .

ومن حقوق العربي التي يتفرد بها والتي لم يرد ذكرها في اللائحة العالمية لحقوق الإنسان ، أن يصبح نائباً في البرلمان بمجرد انتسابه إلى حزب مولانا حفظه الله ونصره وأطال عمره ، أما إذا كان من ذوي " الخط الجميل " ويتقن كتابة التقارير ، فربما أصبح مديراً عاماً لمؤسسة إقتصادية تكفل له ولأطفاله الرزق من حيث يدري ومن حيث لايدري !

ومن حق قائل " نعم " الفوز في المناقصات والمزاودات ، والحصول على الكومسيونات إذا كان من ذوي الهيئات ، أما إذا كان من العمال والفلاحين أو من صغار الكسبة ، فقد منحه مولانا حق الرقص في الشوارع والساحات العامة إبتهاجاً بتجديد البيعة حتى الصباح ، كما منحه أيضاً حق الهتاف :

بالروح .. بالدم .. نفديك يا عظيم الأمة !

فإذا أردت يا أخي العربي أن تحيا سليماً من الأذى ، مزق من معجمك جميع الصفحات التي تتحدث عن المخالفة والخلاف ولا تنس أن تمسح بكلمة " لا " الأرض ، قبل أن تمسح الأجهزة بك الأرض ، وعلى الله الاتكال ، في الحل والترحال .