الجنازة حارة

محمد عبد الشافي القوصي

[email protected]

بمجرد صدور الحكم القضائي -مؤخراً- بوقف مجلة (إبداع) التي يرأسها "عبد المعطي حجازي" تصايح (الحداثيون ودعاة الخروج) وأقاموا مناحة على حرية الإبداع وحرية الفِكر وحرية الكُفر!

  راحوا يتألمون ويتحسرون باستنكار: هل لدى الأزهر صلاحية مصادرة الكتب وتنفيذ المصادرة، هل تُصادَر الكتب في بلادنا بغير السلطة القضائية والتنفيذية؟

 وبعد قليل راحوا يصبّون لعناتهم على القضاء وأهله!

 ونحن نتساءل: لماذا كل هذا الصخب وذاك الضجيج الذي يفتعله "أولاد الأفاعي" وخراف الحداثيين الضالة، وبقايا الماركسيين، وإخوانهم في "الرضاعة"؟!

 أليس هذا حُكم القضاء .. الذي كثيراً ما تنادوا بأعلى أصواتهم قائلين: "نلجأ للقضاء"!

ولماذا هذا الهجوم التتري على الأزهر، واتهامه بالأصولية والاستبداد الديني والحكومة الدينية وغزوة بدر ...إلخ. 

 من قال إن الأزهر يحكم بالمصادرة فضلاً عن أن يصادِر؟!

إنما الذي يحدث أن جهة ما تطلب من الأزهر (مجمع البحوث الإسلامية) وجهة نظره في كتاب معين .. هل فيه ما يخالف الدين؟ والأزهر يقول رأيه ثم يترك الأمر للقانون والسلطات. وقد يرى الأزهر من واجبه أن يبادر هو فينبّه لمخالفة بعض الأفكار للإسلام حتى لا يضل بعض العامة من المثقفين ويقولون هذا من عند الله .. مادام الأزهر لم يعترض!

ولكن الأزهر لا يملك قوة قانونية ولا سلطة تنفيذية تمكنه من المصادرة الفعلية، فهل المطلوب منع الأزهر من أن يقول رأيه؟

وإذا كان دعاة التبعية والتغريب –انطلاقاً من حرية التعبير والفكر– أعطوا لأنفسهم الحق في الحُكم على قيمة العمل الأدبية والفنية، فلماذا يستنكرون على الأزهر الحق في أن يقول بأن كتاب كذا فيه أخطاء فكرية بما يخالف وجهة النظر الإسلامية؟!

حقاً إن الإنسان ليطغى ..! 

لقد أقام (الحداثيون والعلمانيون) الدنيا ولم يقعدوها، باكين ومتباكين على (الإبداع) الذي سيتوقف، ويُحرَم الناس من نوره وهدايته!

يظهر أنهم يخشون أن تحدث كارثة في العالم إذا توقفت مجلة (إبداع) عن الصدور؟ وسوّل لهم الشيطان بأنه ربما لا تشرق الشمس على الدنيا مرة أخرى؟ ونفث في صدورهم فقال لهم: كيف يقضي الناس أيامهم ولياليهم بعد ذلك، دون أن تكون في أحضانهم هذه المجلة؟ وأوحى إليهم بأنها نهاية العصر الذهبي للصحافة الورقية ..؟!

*    *    *

الحق أقول: إن شر البلية ما يضحك!

فهذه المجلة الباهتة، لم يكترث بها إنس ولا جان طوال تاريخها .. وقد قيل: إن أحد أعدادها لم يوزع منه سوى أربعة نسخ!

لقد حولها الشاعر (عبد الذي يعطي) إلى وكرٍ للحداثيين، ومرتع للتغريبيين، وحانة للأدعياء والمتسكعين على أرصفة الأدب، والمتطفلين على فتات الآخرين! فاستغلقتْ على الفهم، بسبب حشوها بالألغاز والطلاسم واللوغاريتمات التي حيّرت سحرة فرعون وكهنة آمون!

فلم يحدث أن نشرت هذه المجلة مقالاً واحداً محترماً، أو قصيدة ذات قيمة جمالية .. لكي يترحم الناس عليها بعد رحيلها إلى الآخرة!

لكن الذي حدث العكس تماماً .. فلم يألوا القائمون عليها جهداً في مناوأة الإسلام وشعائره، والنيل من العلماء والمصلحين، والتحريض ضد المبادئ النبيلة والقيم العليا، مثلما فعل سلفهم الطالح الذين قالوا لمخالفيهم: "لنخرجنكم من قريتنا أوْ لتعودنّ في ملتنا"!

  العجيب أن هذه المجلة الحداثية تصدرها وزارة الثقافة المصرية، التي تنفق عليها من أموال الشعب المصري الكادح الصبور .. ثم يتساءل بعض "الطيبين" أين تذهب أموال الدولة وثرواتها؟!

أليس من الأجدى أن تنفق هذه الأموال لكنس الشوارع، ورصف الطرق، وشق الترع والمصارف .. بدلاً من تبديدها على هذه المجلات المخنثة؛ التي تنشر قبيح الكلام وحامض الفكر الذي يسمونه "الشعر الحر"؟!

*    *    *

 من أسف أن يكون الحل من وجهة نظر -دعاة الحداثة وأدعياء التنوير- هو إعفاء الإسلام من الوجود، وتغييبه إلى الأبد، والترويج للشيوعية والعلمانية وكناسة المذاهب والفلسفات الوافدة!

فالعقيدة الإسلامية –تبدو وحدها– في نظر دعاة التنوير، العقبة الكئود التي تحول دون النهضة والتقدم. أمّا العقائد والشرائع الأخرى مثل: اليهودية، والنصرانية، والبوذية والهندوسية، فهي تبدو في منظورهم نموذج التقدم والتحضر مهما ارتكب أتباعها من خطايا وجرائم!

إننا لا نجد لدى التنويريين أية إشارة مثلاً إلى من أقاموا وطناً دينياً على أنقاض وطن مسلم اسمه فلسطين، أو من أبادوا شعباً مسلماً أعزل اسمه البوسنة، باسم "التطهير الديني"، ولم نسمع لهم همساً أثناء محرقة غزة وأخواتها! 

إنهم مشغولون -ليل نهار- بالعمل نحو فصل الدين عن الدولة وإقامة الدولة المدنية تحت راية العلمانية، والحديث المتواصل عن الدولة الدينية في مقابل الدولة المدنية، وعقد الندوات والمؤتمرات عما يسمونه مضار مزج الدين بالدنيا، والمطالبة باستبدال سلطة ما يسمونه "المؤسسة الدينية" التي تحولت في نظرهم إلى صورة أخرى من محاكم التفتيش!

وقد وصل الأمر بالمستنيرين والحداثيين العرب إلى الإلحاح على الهيئات الرسمية في بعض البلاد العربية، لإعادة طبع كتب بالية تتعارض مع الإسلام صراحة، وتنكر وجود الله والأنبياء والكتب السماوية، فمثلاً .. وفي الحادثة الأخيرة لمجلة (إبداع) رأيناهم يلطمون الخدود، ويشقون الجيوب، وفعلوا مثل اليهود الذين يعتبرون مجرد نقدهم يشكّل جريمة عداء للسامية! هم أيضاً اعتبروا نقد أي رواية أو كتاب من الكتابات الشاذة، عدواناً على الحريات، وسلفية متحجرة، ومهلبية، و...

فإذا أُلقِم أحدهم حجراً، هددنا كالعانس بالفرار أو الانتحار! لأن منطقهم أن الخفافيش وحدها لها حق القول، فإذا تقدم فاعل خير بشمعة، صاحوا: هذا عدوان على حرية الظلام والإظلام، إنهم يحِنّون لإرهاب الستينيات يوم كانت حرية الرأي هي أن يهزأوا بالأُمة ودينها وتاريخها، أمّا أن ينقدهم قلم فهو إرهاب ورجعية! كالذي حدث أثناء أزمة رواية "وليمة لأعشاب البحر" حتى أصدر أحدهم كتاباً على الفور أسماه (ضد التعصب) ينافح عما جاء في الرواية من سوء أدب، ويتهم العلماء والأدباء الذين خالفوا وجهة نظره بقصور الفهم وضيق الأفق، إلى غير ذلك مما دأبوا عليه من خلط الأوراق!

إيه يا خفافيش الأدب .. أغثيتم نفوسنا، أغثى الله نفوسكم .. لا هوادة بعد اليوم، السوط في أيدينا، وجلودكم ما خُلِقت إلا لهذا السوط .. وسنفرغ لكم أيها الثقلان!