التراث والحَداثَة في أخبار العثامين الثلاثة

التراث والحَداثَة

في أخبار العثامين الثلاثة

مصباح الغفري

وثالثٌ هو مِن خبثٍ ومن خَتَلٍ    شرُّ الأثافيّ ، لا قِدْرٌ ولا نارُ!

 (الجواهري)

حدثنا أبو يسار الدمشقي قال :

جاءني أبو الفتح الإسكندري يسعى ، كمن لسَعَتهُ أفعى ، وألقى عصاه وأقعى . و صديقي أبو الفتح من أهلُ الكُدية أبطال المقامات ، وصحبتنا تعود إلى سنوات . 

يصطاد أموال اللئام  والكرام ، بمعسول الكلام . هو في النهار نهّاب ، وفي الليل وَهّاب ، وإلى ربّكَ الرُجعى والمآب . وأبو الفتح من أهل الظرْفِ والكياسَة ،  لا يتدَخلُ في السياسة .

قلت  : جئت أهلاً ، وَوَطِئتَ سَهلاً ، ونزلت رَحْبا . أراكَ في خطْبٍ وبيل ، ألا زلت كعهدي بك من أصحاب الجرانيل ، تنصُرُ الأباطيلَ بالأقاويل ؟ تمارسُ الابتزاز ، من أصحاب الدشاديش  وزيت الكاز؟

قال : ذَهَبَت أيام اليُسْر ، وهذه أيام الطّفر والعُسْر ، فهل عندَكَ مكانٌ للسر ؟

قلت أنت تعرف أبا يسار ، بئرٌ بلا قرار ، فحدثني أيها المهذار ، هل خسرْتَ أموالَكَ في القمار ؟

قال ، أنا لا أتحدث عن خسارة المال ، فليسَ لديّ قرش واحدٌ حلال ! هلُمّ بنا نتناولُ العشاء ، وسأحدثك بآخر الأنباء .

وبعد أن استقرّ بنا المقام ، وتناولنا الشرابَ والطعام . انحَلّت عقدة لسانه ، وحَدّثني وهو يشيرُ بيده وبَنانِه ، قال :

 مُشكلتي بدأت بفكرة ، فقد دعاني صَديق إلى عشاء وسَكْرَة . وأثناء تناول الطعام ، قال لي وعلى وجهه علامة استفهام :

  أنت يا أبا الفتح  نصّابٌ صَغير ، فلماذا لا تتحَوّل إلى نصّابٍ كبير ؟ وخارطة الطريق أمامَكَ ، وأنا قائدُكَ وإمامك . هذا موسم تغيير الوزارة ، فمن لديه ما لديك من جدارة ، وخبرة وشَطارة ؟ وبَدَلَ أن تذهَبَ أنت إلى الضحيّة ، سيتهافت عليك الناس بكرَة وعشية !

ورشف أبو الفتح رشفة ، وقال بتمتمة ورجفة :

  أنفقت ما جمعته من المال ، خلال عشرين عاماً من النصب والاحتيال ، أعلل النفس بالآمال . لكن حساب القرايا ، لم ينطبق على حساب السرايا . فالصفات المطلوبة لهذا المنصب الخطير ، لا يَصْلُحُ لها نصّابٌ صَغير ! وأنت تعلم أنني على مذهب عثمان الخياط شيخ لصوص بغداد ، ودون وصولي إلى الوزارة خرط القتاد .

وتابع أبو زيد وهو يقول :

ـ خطَبَ عثمان الخياط في أصحابه يوماً فقال :

" اضْمَنوا لي ثلاثاً أضمَنْ لكم السلامة : لا تسرقوا الجيران ، واتقوا الحُرَم ، ولا تكونوا أكثر من شريك مُناصف "

فنحن لصوص من صغار الكَسَبَة ، والمطلوب للمنصب من يحني الظهر والرُكبة ، ومن  يأكل الكتف والرقبة . قالوا لي : إذا أردت أن تملك العقارات والأطيان ، فدَع مذهب صاحبك الخياط عثمان . سِرْ على مذهب عثمان المقاولات ، يأتيك الرزق بالملايين والمليارات . ولو اقتديت بعثمان السياحة ، لجاءتك الوزارة على الكف والراحة .  فهو مُرَشح لتشكيل الوزارة ، مباشَرة أو من وراء الستارة  .

أطلق أبو الفتح زفرة ، وقال بحسرة :

مواصفات الوزير الأول في أيام الشفط واللهط ، لا تجتمع في كريمٍ قط !

هكذا أنفقت المال بسخاء ، في دعوات الغداء والعشاء ، للعقداء والعمداء . وقدمت الهدايا من بيير كاردان ، لأصحاب الشان ، من حاشية عثمان . فأواه ثم أواه ، ويا عَظمَ مصيبتاه . هم أكلوا اللحم والكباب ، وارتدوا فاخر الثياب ، وأنا عدت من الغنيمة بالقبقاب . لكنني سأعمل في محل للجزارة ، فهذا أفضل من الوزارة . وأنشد :

لا تلُمني مولاي في سـوء حالـي    عندمـا قـد رأيتنـي قصّابـا

كيف لا أرتضي الجزارة ما عِشت    قديمـاً ، وأتــرُك الآدابــا

وبها صارت الكـلابُ ترَجّانـي    وبالشعـر، كنـت أرجو الكلابا