تراث ممتد من القهر والعبودية !

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

هل يمكن أن نضع الإطاحة بوزير الري المصري الدكتور محمود أبو زيد تحت هذا العنوان ؟

أتصور أن الإجابة بالإيجاب . فالوزير فوجئ بإقالته ، وعرف الخبر بعد معرفة سائقه ، ونُزع كشك الحراسة قبل وصوله إلى منزله، وهو ما يؤكد على أن الشعب المصري يعيش القهر والعبودية منذ الأزل إلى أمد لا يعلمه غير الله .

لا أعرف وزير الري ، ولا علاقة لي به ، ولكني أعلم مما تنشره الصحف ، ويقوله الناس : أنه عالم جليل ، خبرته نادرة في تخصصه ، وهو واحد من العلماء المعدودين على مستوى العالم ، ويشرف مصر والعرب في العواصم الدولية الكبرى ، ولم يقل أحد عنه سوءاَ ، ولم تشر إليه صحيفة بما يشين في سلوكه أو عمله أو علاقاته ، وهو رب أسرة جيد ، علّم أولاده ورباهم تربية حسنة ، وكانت كفاءته في عمله ، وقدرته الدبلوماسية محل إشادة ممن يعنيهم أمر المياه في مصر وخارجها .

لماذا تمت الإطاحة به إذاَ؟ واحتشدت الدنيا لتتحدث عن تغيير وزاري ، وهو ليس كذلك ، يرتبط بالرجل الشريف النظيف ؟ لقد أرادوا التغطية على الموقف باختراع وزارة ( ميني وزارة !)مكافأة للسيدة التي أبلت بلاء غير حسن في أمور هامشية مثل الختان والنقاب وما أشبه سعيا لإلغاء الشريعة الإسلامية ، وتمكين المرأة التي تلد سفاحا من نسبة المولود إليها، والتضييق على المسلمين في الزواج والطلاق ، وتقيد أمرهما أكثر مما تقيدهما الأزمة الاقتصادية ، وتخريب العلاقة بين الرجل والمرأة المسلميْن عموما ( لأنها لا تستطيع أن تقترب من غير المسلمين !) ، ثم إنها تريد تغريب المجتمع وثقافته الإسلامية ، لأنها متيمة بالغرب وأهله وثقافته المنافية للشريعة ، وبسيف القانون الذي تصنعه أغلبية مزورة تريد أن تفرض تشريعات مخالفة لمنهج الدين !

الشعب حتى اليوم لا يعرف الحقيقة التي جعلت " محمود أبو زيد -  وحده –طريد الحكومة المصرية التي يتحدث الناس عن فشل أكثر وزرائها فشلا ذريعا .. ثم إن الإصرار غير العادي على الإطاحة لم ينتظر حتى يعود رئيس الدولة من قمة الرياض ، بل تم تأخير سفره – كما قالت بعض الأنباء - حتى يؤدي الوزير الجديد اليمين الدستورية !

قالوا إن ظروف الوزير الصحية كانت من وراء طرده ، بينما الوزير بدا في صحة ( زى البمب ) . وقال آخرون إن موقفه من مسألة توشكي وانتقاده للحكومة بسبب فشل المشروع كان دافعا لتغييره . وذهب فريق ثالث إلى القول : إن الوزير المطرود لم يرد على مسئول إثيوبي هاجم مصر في مؤتمر للمياه انعقد مؤخرا في شرق إفريقية ،ونُقل الموقف إلى المسئولين الأعلى مما حتم تأديب الوزير وفصله من الوزارة . ونقل فريق رابع تصريحا للوزير وهو يغادر منصبه يقول فيه : إن الوقت غير مناسب للكلام .. .. إلى غير ذلك من تخرصات لم تقنع أحدا من الناس في مصر ولا العالم العربي..

فهل يليق أن يتم طرد الوزير بهذه الطريقة ؟  

عندما يصرف صاحب مصنع عاملا أو مجموعة عمال ‘ فإنه يلتقي بهم ويشرح لهم الأسباب ، ويشكرهم على ما قدموه ، ويطلب منهم المعذرة لعدم استمرارهم بسبب الأزمة الاقتصادية أو المصاعب التي تعترض مصنعه ، وقد يكافئهم للترضية  . فما بالك بعالم كبير في مرتبة وزير له حضوره على مستوى العالم بأسره ؛ يتم طرده بطريقة يصعب وصفها ؟

نحن نعلم أن المصلحة العليا للبلاد تقتضي اتخاذ قرارات سريعة ومفاجئة ، ولكن الناس  لا بد أن تعرف الأسباب وتعلم الضرورات التي حتمت اتخاذ القرار . في الحروب وحدها لا يسأل الناس عن القرارات ، وإن كان من حقهم بعدها أن يجدوا تفسيرا لكل قرار !

مؤكد أن الإنسان المصري بلا قيمة ، وأنه يعيش حياة العبيد من زمن بعيد ، وحين تنظر أمامك تجد التنكيل بصور شتي لا يتوقف بصفوة الوطن من العلماء والخبراء ، بينما الملوثون والانتهازيون والمنافقون وأشباههم يحظون بالرعاية والعناية والاهتمام ومحاولات تبييض وجوههم التي عليها غبرة ..

لقد قتل صاحب العبارة أكثر من ألف مصري بائس قبل ثلاث سنوات ، فتم تهريبه من صالة كبار الزوار .وكانت تهمته أنه علم ولم يبلغ !!!وداخ الناس في المحاكم يستجدون حقوقهم ، والقاتل يمرح سعيدا في ربوع لندن ، وقصره الفخم هناك يستقبل الكبار والصغار ، وترسل إليه السلطة محاورا لتحسين صورته تلفزيونيا على حساب الغرقى والمعدمين ،وإظهاره بمظهر التقى النقي الورع الذي يرعي حقوق البلاد والعباد ، أما مجدي أحمد حسين الذي لم يقتل أحدا ؛ فإنه يحاكم بسرعة الصوت أمام محكمة عسكرية ؛ لأنه دخل غزة من فتحات السور الذي قصفته طائرات العدو منتهكة السيادة المصرية ، ويتم حبس الرجل المجاهد سنتين ، مع أن جريمته مفخرة لكل مصري ، وهي التضامن مع أشقائنا في غزة ، وقد كانوا أمانة في أعناقنا فضيعناها !

إن التراث الممتد من القهر والعبودية يؤكد على وصف القرآن الكريم للأسلاف الذين خلفهم خلْف أسوأ وأضل سبيلا حين قبلوا العبودية لغير الله : " إنهم كانوا قوما فاسقين " !، والفسق هو الخروج عن الفطرة التي تأبى الاستعباد والذل ، وعدم استخدام العقل للحصول على الحرية والكرامة ، ثم الرضا بما يفعله الفاسدون والاستسلام له !

قبل قرن وربع قرن تقريبا ؛ كتب جمال الدين الأفغاني يخاطب شعبنا التعيس :

" إنكم معاشر المصريين ، قد نشأتم في الاستعباد ، وربيتم في حجر الاستبداد ، وتوالت عليكم قرون منذ زمن الملوك الرعاة حتى اليوم . وأنتم تحملون عبء نير الفاتحين ،وتعنون لوطأة الغزاة الظالمين ، تسومكم حكوماتهم الحيف والجور ، وتنزل بكم الخسف والذل ، وأنتم صابرون ، بل راضون ، وتستنزف قوام حياتكم ، ومواد غذائكم التي تجمعت بما يتحلب من عرق جباهكم بالعصا والمقرعة والسوط ، وأنتم معرضون . فلو كان في عروقكم دم فيه كريات حيوية ، وفي رءوسكم أعصاب تتأثر فتثير النخوة والحمية لما رضيتم بهذا الذل ، وهذه المسكنة . تناوبتكم أيدي الرعاة ثم اليونان والرومان والفرس ، ثم العرب والأكراد والمماليك ، وكلهم يشق جلودكم بمبضع نهمه ، وأنتم كا لصخرة الملقاة في الفلاة لا حس لكم ولا صوت .

انظروا أهرام مصر وهياكل ممفيس ، وآثار طيبة ، ومشاهد سيوة ، وحصون دمياط ، فهي شاهدة بمنعة آبائكم وعزة أجدادكم . هبوا من غفلتكم ..! أصحوا من سكرتكم ..! عيشوا كباقي الأمم أحرارا سعداء .."

وواضح أن نداء الأفغاني لن يجد صدى كبيرا لدى المصريين الآن ، فهم مشغولون في طوابير الخبز  والمظالم والأحزان ، وليس لديهم وقت لمقاومة العصا والمقرعة والسوط ؛ فهم مُعْرضون عن ذلك ، لأن الغزاة النازيين اليهود في الوطن المحتل يقومون باستخدام العصا والمقرعة والسوط لإلهاب ظهورنا وشق جلودنا ، وفي الوقت نفسه يقولون لعصاباتهم نحن نغير الوزارة بالانتخابات ، ونسقطها بالانتخابات ، ونشكلها بالانتخابات ، وحين يرتكب وزير أو رئيس جريمة تتم محاكمته على رءوس الأشهاد ، بعد استجوابه في الشرطة مثل أي فرد آخر في وطن الاحتلال !

ينبغي ألا نأسى على وزير الري المقال ، وما جرى له ، فلن يكون الأخير ، كما لم يكن الأول ، لأن العصا والمقرعة والسوط ، تعمل في حقل شديد الاتساع ولا تجد مقاومة ! إنه تراث ممتد من القهر والعبودية !

  حاشية :

صبيان الكنيسة العقلاء في صحف التعري والسيراميك لا يستطيعون تناول القساوسة الذين يقومون بالسحر وفك الأعمال وما أشبه ، ولكنهم يتجرءون على علماء الإسلام فيصفونهم بكل ما هو سلبي ، ويعدون التحقيقات العريضة عن أخطائهم وخطاياهم من وجهة نظرهم ، وإني أتحداهم أن ينتجوا صورة للأنبا شنودة تشبه الصورة إياها التي صنعوها لشيخ الأزهر أو مرشد الإخوان !