إنني أفتش عن العدالة
إنني أفتش عن العدالة
فظهري يجلد مرتين!!
فيصل الشيخ محمد
يحكى أن الفيلسوف الإغريقي الساخر يوجين شوهد مرة في أحد أسواق أثينا حاملاً فانوساً في وضح النهار، فلما سئل عن السبب أجاب: (إنني أفتش عن رجل)!!
نعم لقد كان الفيلسوف يوجين محقاً في حمله لفانوسه وهو يسير في أحد أسواق أثينا المكتظة بالمتسوقين من الرجال، لأنه كان يفتش عن رجل بعينه افتقده في عالم اختلط فيه الحابل بالنابل وتساوت فيه كل المخلوقات، ولم يعد هناك الرجل المميز بعقله وإدراكه وقراءته للحقائق بعقل مفتوح وقلب واع وضمير حي وإنسانية مرهفة ومتيقظة.
وأنا هنا أريد أن أستعير فانوس الفيلسوف يوجين وأفتش عن العدالة المفقودة التي باتت بقبضة القتلة والإرهابيين والسفاحين والمستبدين والفاسدين والأفاكين والعنصريين.
مذكرة القبض التي أصدرها أوكامبو المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بحق الرئيس السوداني عمر البشير، بتهم ارتكاب جرائم حرب في دار فور، بينما القتلة الحقيقيون ومجرمو الحرب الحقيقيون في تل أبيب لم تجف أيديهم بعد من الدماء التي سفكوها من أجساد الفلسطينيين في قطاع غزة.
أدعياء العدالة المفقودة لم يكتفوا بإصدار مذكرة القبض بحق البشير، بل راحوا يتقاطرون زرافات ووحداناً إلى الكيان الصهيوني لطمأنة القتلة والسفاحين أنهم في منأى من أن تطالهم يد محكمة جرائم الحرب في لاهاي، ولم يكتف هؤلاء بطمأنة المجرمين بل شدوا على أيدهم وأيدوهم في كل ما فعلوه من فظائع وفواحش ومنكرات في قطاع غزة، ولم يكتف هؤلاء بهذا بل راحوا يوجهون أصابع الاتهام إلى الضحية (حركة حماس) لما تطلقه من صواريخ تؤرق جفون الحالمين في نومهم في المغتصبات التي أقاموها على الأرض الفلسطينية المحتلة، بصواريخ عبثية – كما ينعتونها – وينكرون على حماس وعلى المقاومة الفلسطينية فعلها ويصفونها بأنها منظمات إرهابية يجب استئصالها.. وما تفعله المقاومة الفلسطينية وحماس هو حق شرعي كفلته لها كل الشرائع السماوية والوضعية وشرعة حقوق الإنسان وحقها في مقاومة الاحتلال.. وهذا ما فعلته الولايات المتحدة ضد بريطانيا، وما فعلته فرنسا ضد النازيين، وما فعلته فيتنام ضد الولايات المتحدة، وما فعلته أندونيسيا ضد هولندا، وما فعلته جنوب أفريقا مع الأقلية البيضاء، وما فعلته كوريا ضد فرنسا، وما فعلته إيرلندا ضد بريطانيا، وما فعلته إيطاليا ضد النمسا.. وأن ما تفعله المقاومة الفلسطينية وحماس ليس بدعة، بل عادة كل الشعوب المستعمرة!!
وهذه الدول التي ناهضت المحتل وقاومت المستعمر في يوم من الأيام، هي نفسها تحتج اليوم على من يفعل فعلها بالأمس (حلال عليها وحرام على غيرها)، بل وتوغل في الاستنكار والاستهجان وتروح أبعد من ذلك.. فهي تشد الرحال إلى الكيان الصهيوني وتقف أمام حائط المبكى المزعوم وعلى رأسها القبعة السوداء وتتمتم ترانيم الشعوذة المبهمة، إمعاناً في تحديها لمشاعر العرب والمسلمين، واحتقارها للعدالة المفقودة التي باتت حبيسة النظام العالمي الجديد الأحادي القطب، الذي وحده من يقرر لون وشكل ومضمون ومذاق وطعم العدالة ووجهتها، وبحق من تطبق ومن تطال!!
أنا هنا لا أريد الدفاع عن البشير كونه رئيساً عربياً.. فهو والكثيرين من الحكام العرب لا يستحقون الدفاع عنهم فأيديهم ملوثة بدماء شعوبهم، ولكنني أدافع عن العدالة المفقودة وأفتش عنها، وهي التي باتت بقبضة من أشرت إليهم في مقدمة مقالي هذا، فإن من استباح الأوطان ودمر البلدان، هم من يمسكون بالعدالة من خناقها، وهم من لم تسلم منهم ومن فواحشهم وآثامهم وجرائمهم وفظائعهم دولة منذ العام 1945، يوم ألقت الولايات المتحدة الأمريكية قنبلتها الذرية الأولى على هورشيما وقتلت عشرات الآلاف من اليابانيين رغم أن الحرب العالمية الثانية قد وصلت إلى نهايتها!!
وهنا أريد أن أستشهد بما قاله الرئيس الأمريكي هاري ترومان لمستشاريه ومعاونيه الذين حاولوا ثنيه عن قصف هيروشيما ونيكازاكي بالقنابل النووية، لأن الحرب الثانية انتهت وحقق الحلفاء انتصارهم العسكري - لنتعرف على عقلية الصلف والغرور والظلم والجبروت التي تعشعش في صدور الإدارات الأمريكية المتعاقبة، وهي اليوم تعتبر نفسها الوصية على العالم وشؤونه - ورفض ترومان طلبهم قائلاً: (لا أريد معاقبة اليابان فقط بل أريد أن اجعلها درساً وعبرة لكل من يفكر بمعاداة الولايات المتحدة في يوم من الأيام)!!
وهذا ما تريده اليوم الولايات المتحدة من الحكام العرب.. تريد إرهابهم وتخويفهم، ولكل حاكم عربي قصة يمكن أن تكون المفتاح لأوكامبو ليصدر مذكرة قبض بحق أي منهم!!
الشعوب العربية كانت دائماً تتسامى فوق الجراح والعذابات والقهر والاستبداد والسجون والنفي والمعتقلات وتدافع عن حكامها، الذين يزدادون تماهياً في جلد شعوبهم كلما ازداد الغرب والصهاينة ضغطاً عليهم وأمعنوا في إذلالهم. فالشعوب العربية تعيش لتُجلد مرتين مرة على يد حكامها ومرة على يد أعدائها.. وآن لهؤلاء الحكام أن يحجموا عن مد أيديهم إلى أعداء الوطن والأمة.. وآن لهم أن يمدوا أيديهم إلى شعوبهم ويصلحوا ما بينهم، حتى لا تفقد هذه الشعوب البوصلة وتدير ظهرها لحكامها إذا ما أراد الأعداء إصدار مذكرات توقيف بحقهم!!