تهريج ودماء

تهريج ودماء

فيصل الشيخ محمد

في الوقت الذي كانت غزة تنزف وتقطّع أوصالها كانت السلطة الفلسطينية وأجهزة أمنها تنشط بشكل غير مسبوق بلجم فلسطينيي الضفة الغربية ومنعهم من التعبير عن غضبهم واستنكارهم لما يحصل لأهلهم في غزة.. ولم تتورع هذه الأجهزة عن استعمال القوة في منع مقاتلي الفصائل الفلسطينية عن فعل أي شيء للتخفيف من وطأة العدوان الصهيوني عل غزة وأهلها.. بل راحت هذه الأجهزة أبعد من ذلك، فساقت المئات من الشباب إلى سجونها وأقبية معتقلاتها متناغمة في ذلك مع ما تفعله سلطات الاحتلال الصهيوني من اعتقال الناشطين من أبناء الضفة الغربية، الذي لم يتوقف طيلة أيام العدوان وقبله وبعده.. دون أن تنبس السلطة بكلمة تنديد واحدة تجاه ما تقوم به سلطات الاحتلال.

ولم تتوقف السلطة عند هذا الحد بل راح رموزها يجوبون البلدان شرقاً وغرباً مسفّهين فعل حماس وما جرته على غزة والفلسطينيين من دماء وتدمير..مرددين ما يقوله الصهاينة، من أن حماس هي من خرقت التهدئة بفعل صواريخها العبثية.. في الوقت الذي كان قادة الصهاينة يعلنون بكل صراحة ووضوح أن عملية العدوان على غزة كان مخطط لها منذ أكثر من سنة لوجستياً وعسكرياً ونفسياً وإعلامياً.

وبعد أن هزم الصهاينة وأخفقوا في تحقيق أهدافهم وأعلنوا من طرف واحد وقف العدوان والانسحاب السريع من المناطق التي دخلوها في غزة.. لم تسعد هذه النتيجة أهل السلطة في رام الله وهم الذين كانوا يبشرون أهل غزة بعودتهم القريبة، بعد أن يجهز الصهاينة على المقاومة فيها ويستأصلون حماس التي تمثل ضمير الأمة ووجدانها وكرامتها ورأس حربتها في مواجهة العدو الصهيوني.

ومن هنا فإن السلطة لم تكن بحاجة إلى غطاء لتقوم بفبركة مسرحيتها التهريجية في القاهرة يوم الأحد الماضي، رداً على ما صرح به السيد خالد مشعل، من أن حماس وفصائل المقاومة سوف تسعى لإيجاد مرجعية فلسطينية تضم كل الأطياف السياسية والمقاومة والمستقلة الفلسطينية.. ولم يقل مشعل بأن حماس ستقوم بانقلاب على منظمة التحرير – كما صور ذلك أهل السلطة – بل قصد تصحيح وإعادة هيكلة المنظمة بموجب اتفاق القاهرة عام 2005 الذي تعمدت السلطة عدم تنفيذه، وقد سارع محمد نزال إلى توضيح ذلك ، كما أن السيد فاروق القدومي، أحد أهم شخصيات فتح التاريخية، أكد على ذلك المعنى.

عباس في مؤتمره الصحفي في القاهرة رفع سقف شروطه وطلباته حتى يحاور حماس وفصائل المقاومة الأخرى وأنهى كلمته في المؤتمر التهريجي بقوله: (عليهم، ويقصد حماس، أن يعترفوا بلا لبس ولا غموض ولا إبهام بأن المنظمة هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، وعند ذلك يكون الحوار).

ونسي عباس وهو يرفع سقف شروطه أن منظمة التحرير الفلسطينية حظيت باحترام العرب والمسلمين والعالم والاعتراف بها ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني لأنها كانت ترتكز على مبدأ المقاومة للصهاينة، وكانت الجماهير تلتف من حولها وتمدها وتدعمها كونها رفعت البندقية لتحرير القدس، وكانت مؤسساتها محل احترام وتأييد من الشعب الفلسطيني، لأنها جسدت أحلامها في التحرير والعودة.

عباس في مؤتمره الصحفي التهريجي في القاهرة يريد أن يسحب البساط، الذي خضبته حماس والمقاومة الفلسطينية بدمائها من خلال صمودها الأسطوري بوجه آلة الحرب الجهنمية المدمرة الإسرائيلية، من تحتها وينقذ الصهاينة من هذا المستنقع الذي اندفعوا إليه بحماقة ما بعدها حماقة.. صحيح أنهم ذبحوا مئات الأطفال والنساء والشيوخ والشباب ودمروا آلاف الأبنية والمنازل ودور العبادة والتعليم والمؤسسات والطرق، إلا أنهم خسروا ما بنوه خلال ستين عاماً، فهذه الآلاف المؤلفة في كل شوارع عواصم الدنيا ومدنها تخرج منددة بالجرائم الصهيونية ضد الإنسانية، وها هي تحاول عبثاً حماية قادتها المجرمين من سوقهم إلى قفص العدالة الذي يلاحقهم في كل مكان في العالم، وقامت مؤسسات المجتمع المدني والإنسانية والقانونية وحقوق الإنسان في العالم كله في رفع دعاوى بحق هؤلاء القتلة إلا محمود عباس الذي رفض تقديم مثل هذه الدعوى بحق مجرمي تل أبيب وهو الأولى شرعاً وقانوناً في تقديمها.

إن تصريحات عباس في المؤتمر التهريجي الذي عقده في القاهرة يتناقض كلياً مع دعاويه السابقة عن الحوار وأهميته بالنسبة للفلسطينيين والقضية الفلسطينية، وكأنه في مؤتمره التهريجي هذا يريد أن يقطع كل الحبال ويصب الزيت على النار والملح على الجراح التي لم تندمل بعد.