خطاب العلماء بين الاستنفار "والاستحمار"

خطاب العلماء بين الاستنفار "والاستحمار"

د. ماهر الجعبري-الخليل-فلسطين

[email protected]

تشرئب أعناق الأمة بحثا عن العز بن عبد السلام –بائع الملوك- في ظل هذا العدوان اللئيم على العباد والبلاد في غزة، وتبحث في الفضائيات عن العلماء الذين يقفون مواقف الرجال الرجال. فهل تجد ؟

لا يشك صاحب حس سليم أننا نعيش حالة استعباد تستشري في الحكام، فهذه أنظمة عربية تقف تتفرّج على مشاهد القتل بينما تختلف على تفاصيل المسرح الذي ستتابع من خلالها المشهد: هل يكون تلفازا فرديا أم من خلال شاشات القمة العربية ؟ أما عدا عن أبعاد تلك المشاهدة والمتابعة فلا يرجى منها شيء، إلا مزيدا من التآمر على الضحية حتى يتم إسكاتها فلا يقض صراخها مضاجع الحكام.

إذن هذه أنظمة مسلوبة الإرادة وينطبق عليها الوصف بأنها "مماليك" لمن يتصرف بأمرها. والمملوك لا يصح أن يحكم لأنه يباع ويشترى ولا يملك إرادته. وكان العز بن عبد السلام قد قام ببيع "المماليك" حتى يحررهم فيستعيدوا الإرادة، ومن ثم كانوا رجال دولة حاربوا المحتل، فسطروا نماذج خالدة في الوعي التاريخي للأمة.

وهذه المماليك، اليوم، المسمّاة ملوكا ورؤساء، لا تملك إرادتها، وهي تدرك ذلك. ولذلك فهي بحاجة لأمثال العز بن عبد السلام ليبيعها، ولكنها لن تجد من يشتريها إلا أصحاب عملة الدولار، لأنها ليست من معادن الرجال الذين يتحملون مسؤوليات التحرير، ولن تصلح أن تكون رجال دولة بعد أن فسد فيها الحس والوعي، وصارت منحازة للعدو تبرر مجازره وتلوم الضحية في غزة على أنها لم تصغ لنداء الاستخذاء الذي أطلقته الأنظمة.

إذن تشرئب أعناق الأمة للبحث عن العلماء من خانة الرجال لا من خانة أشباه الرجال. فتبحث في موطن العز بن عبد السلام، فإذ بصرخة تصدر عن جبهة علماء الأزهر يوم أمس (29/12/2008)، مدوية تتوجه لذلك الضابط المصري الذي قُتل وهو يدافع عن حرمة حدود سايكس بيكو: "لقد آلمنا أن يذهب مثلُكَ في طاعة غير الله بعد أن رفعت سلاحك في وجه شقيقك الفلسطيني الذي آوى إليك فرارا مما يلقى من عدوك وعدوه، على رجاء أن يجد منك ما كان يلقاه من أمثالك الغياري على شرف العروبة وعز الإسلام فإذا بك تشهر السلاح في وجهه فتقتله وأنت له ظالم طاعة لأوامر جائرة، وتعليمات فاجرة،  فرخص دمُك ... قتلت أخاك على حقه فذهب شهيدا ... ثم قُتِلْتَ أنت في غايةٍ رخيصة، هي الدفاع عن حدود وضع خطوطها الكافرون، الذين قسَّموا أرضنا بما عرف بالمجرمين سايكس بيكو، لينفردوا بنا واحدا بعد الآخر، وأرضنا في دين الله واحدة، فإذا بك تسقط فيما سقط فيه ساسة الحزب الذين حادوا الله ورسوله، فاستجاروا بأعدائهم من أوليائهم وإخوانهم، فذهبت حياتك في غير شرف، وقُتِلت قَتْلَ الصائل".

ويدرك العلماء وجهة الخطاب فيقولون: "وعليه: فإننا نُحذِّر كّلَّ جنديٍّ وضابط من جنود مصر أن يخسروا شرفهم الفريد بأن يندفعوا في إطاعة الأوامر الصادرة إليهم بغير أن يعرضوها على دينهم وقلوبهم ... والمسلمون أمة واحدة، يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم". وكان البيان يزداد حسنا لو تضمن التصريح لا التلميح باستنهاض كل جندي وضابط للجهاد من أجل اجتثاث كيان الاحتلال.   

إنه خطاب كفاحي يصب في خانة الاستنفار، ولذلك حق لأصحابه أن يحملوا وسام العلماء على هذا البيان. وبكل تأكيد هذه النماذج من العلماء، إذا صمدت على مواقفها، مؤهلة لتكرار عملية بيع الملوك، واستعادة الإرادة المسلوبة.

وفي المقابل تجد أكداسا مكدسة من العلماء الذين يسترزقون من علمهم، ومن التغني بمفاخر السلطان، وتبرير أعماله التخاذلية بأحكام مؤوّلة من القرآن. وهؤلاء لا شك أجراء قبل أن يكونوا علماء. ولذلك خاطبهم البيان المذكور: "وإلى الموظفين من بعض الشيوخ الذين لا يزالون يلزمون جانب الصمت، ويخرصون خرص القبور، فرضوا لعمائمهم أن تكون على أصنام، إنَّ سِمَنَ الكيس ونُبْلَ الذِّكرِ لا يجتمعان."

تعج الفضائيات بعلماء أتقنت فنّ الغزل السياسي وأصول اللعبة الإعلامية، وهي تدرك مستوى الخطاب المسموح به في ظل هذا العدوان، فلا تتجاوز سقف المطالبة بوقف هذا العدوان، وفك الحصار، وجمع التبرعات، لأن أي إضافة، ولو بسيطة باستبدال صد العدوان بدل وقفه، تعني توجيه الخطاب إلى الجيوش وهذا خطاب حرام في لغة الحكام. وإن استخدام تعبير الجهاد فيه خروج على قواعد الشرعة الدولية وتأهيل للإدراج في لائحة الإرهاب.

هل هنالك طفل درس سيرة صلاح الدين الأيوبي، أو شاهد فيلم عمر المختار،  لا يدرك الرد الطبيعي على الاحتلال، ولا يفهم المطلوب في هذا الموقف؟

فالحدث لا يحتاج "معرفة" العلماء بل "مواقف" العلماء.

إن توجيه الخطاب للناس المقهورة من أجل التبرعات هو خطاب استحمار لا استنفار؟

وإن توجيه الخطاب إلى مجلس الأمن الذي شرّع الاحتلال هو خطاب استحمار لا استنفار؟

وإن توجيه الأنظار إلى نتائج قمة المتفرجين على مآسي الأمة أو صانعيها هو خطاب استحمار لا استنفار.

ولا حاجة للأمة بمعرفة لا تتجسد حية في رجال، وخصوصا في ظل قواعد بيانات رقمية تزخر بالمعرفة، وقد أغنت عن علماء يكون دورها مجرّد حفظ بطون الكتب.

فأين علماء المواقف ومواقف العلماء ؟