غزة في أعياد الميلاد
غزة في أعياد الميلاد:
هدايا إسرائيلية بأياد عربية!
محمود المبارك
يأبى الكرم الإسرائيلي الأصيل على أصحابه إلا أن يتحف الشعب الفلسطيني بهدايا من نوع صهيوني خاص، كتب على كل منها "صنع في إسرائيل"! وقد تم إيصال هذه الهدايا يوم السبت حرصاً منهم على سرعة الإنجاز، على رغم ما في ذلك من مخالفة للتعليمات التوراتية!
وإذا كانت "الهدايا على مقدار مهديها" كما يقال، فإن هدايا إسرائيل تتناسب مع التاريخ الوحشي الصهيوني العريق، صاحب مجازر دير ياسين وصبرا وشاتيلا وقانا الأولى والثانية وجنين ومجازر حرب لبنان 2006، وغيرها مما يصعب حصره.
وخلافاً للهدايا الإسرائيلية السابقة، فإن هدايا مناسبة أعياد الميلاد 2008، جاءت مغلّفة بأياد عربية وفلسطينية، أعرب بعضهم عن بهجته بها وسكت بعض آخر، وإن كان هناك صف عربي أصيل يدمي حرقة على ما يرى ويسمع!
ففي الوقت الذي تشن فيه إسرائيل عدوانها الوحشي الهمجي البربري ضد الأطفال والنساء والمدنيين في غزة، يسارع مسؤولون فلسطينيون منذ الساعات الأولى للعدوان الصهيوني بالإدلاء بتصريحات لا تليق بمستوى مسؤول يحمل أدنى درجات الانتماء الوطني تجاه قضيته، ولو كانت مثل هذه التصريحات صدرت من مسؤول غربي تتعرض بلاده لهجوم لأقيل من ساعته، أو ربما أحيل للمحاكمة بتهمة الخيانة!
من ذلك التصريح الذي أدلى به أحد مستشاري الرئيس الفلسطيني، يوم السبت من تحميل "حماس" مسؤولية القصف الإسرائيلي بأسلوب تهكّمي لم يخل من تَشَفٍّ واضح، حين طالب قيادات "حماس" بإحراق الأخضر واليابس في إسرائيل! ومثل ذلك أيضاً، تصريحات الأمين العام للرئاسة الفلسطينية - المتزامنة مع التصريحات الأولى في التوقيت - حين دعا سكان غزة إلى الصبر، مشيراً إلى "قرب سقوط اللاشرعية في غزة"، في إشارة واضحة إلى "حماس"، ومبشراً بعودة "الشرعية الفلسطينية إلى غزة"!
هذه التصريحات ليست مشكوكة النسبة إلى أصحابها، ولكنها صدرت من أصحابها عبر فضائيات عالمية الشهرة، وعلى الهواء مباشرة، إذ سمعها الداني والقاصي، في الوقت الذي كانت فيه الغارات الإسرائيلية تستهدف المدارس والمساجد والمستشفيات وحتى سيارات الإسعاف، في أبلغ تعريف ل "جرائم حرب" بحسب المفهوم القانوني الدولي الصرف، وإن استمر العالم الغربي في تجاهلها وإنكارها!
وغني عن القول إن من أبجديات فهم الديبلوماسية الحديثة أن مستشار أي رئيس حين يدلي بتصريح رسمي، فإنه لا يمثل نفسه وإنما يمثل الرئيس الذي وضعه في منصبه. وإذا صرح مسؤول معيّن بخلاف ما يريده منه رئيسه فلا بد أن يقدم استقالته أو أن يقال.
هذه التصريحات تعيد إلى الأذهان تصريحات أخرى مشابهة في شهر آذار (مارس) الماضي، حين قدّم بعض المسؤولين في السلطة الفلسطينية تبريراً لتصريح نائب وزير الدفاع الإسرائيلي، الذي هدّد ب "حرق غزة"، كونه "زلّة لسان"، في حين اتهم مسؤول آخر "حماس" بإيوائها أعضاء من تنظيم القاعدة، في الوقت ذاته الذي كانت فيه الطائرات الصهيونية "تحرق" غزة بالقنابل!
هؤلاء "الفاشيون الجدد" - كما أطلقت عليهم في المقال المنشور في هذه الصفحة بتاريخ 3/3/2008 - لا يمكن أن يمثلوا الشعب الفلسطيني، وإذا تلكّأت السلطة الفلسطينية في إقالتهم، فإنها بذلك تعبّر عن مشاركتهم في الرأي!
وبالمنطق نفسه، فإن الاتهام الذي أطلقه المتحدث باسم "حماس" فوزي برهوم، وأكده السيد خالد مشعل رئيس المكتب السياسي ل "حماس" من أن السلطات المصرية اتصلت بمسؤولين من "حماس" يوم السبت وأبلغتهم أن "الوضع سيكون هادئاً اليوم (السبت)، وأن المعابر ستفتح"، يثير العديد من الأسئلة، خصوصاً أن ذلك جاء بعد تهديد وزيرة الخارجية الإسرائيلية بهجوم إسرائيلي على غزة، أمام نظيرها المصري وفي استضافته، قبل شنّ الغارات بأربع وعشرين ساعة، فضلاً عما صرح به الوزير المصري بعد الهجوم الإسرائيلي من أنه يجب على "حماس"، أن تتحمل تبعات رفضها قبول التهدئة مع إسرائيل.
وتبعاً لذلك، فإن إقالة الحكومة المصرية بات مطلباً ملحاً اليوم، ولعل الوقت حان لكي يتخذ الرئيس مبارك، قراراً حاسماً يقضي بإقالة الحكومة المصرية الحالية، التي أثبتت فشلاً ذريعاً في سياساتها الخارجية والداخلية على حد سواء.
في الوقت ذاته، فإن تلكؤ دول عربية في الموافقة على عقد قمة عربية طارئة في هذه الظروف العصيبة، يزيد من الشكوك التي تدور حول تهمة تواطؤ وتآمر هذه الدول مع الحكومة الإسرائيلية!
وفي الوقت الذي بادر فيه خادم الحرمين الشريفين بمخاطبة الرئيس الأميركي، وطالبه بالضغط على إسرائيل لإيقاف حملتها العسكرية المسعورة، كان الأولى بالحكومات العربية أن تبادر بردود أفعال على المستوى العربي، تتناسب وحجم الفظائع التي تقوم بها إسرائيل.
من هذه المواقف ألا تقبل الدول العربية بمجرّد "بيان" من مجلس الأمن يطالب كلاً من إسرائيل و "حماس" بوقف عملياتهما العسكرية، لأن في ذلك مساواة غير عادلة بين المعتدي ومن له حق الدفاع عن النفس بموجب المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة.
كما أنه من المطلوب من الدول العربية، أن تقوم بتوثيق الجرائم الإسرائيلية، وأن تبدأ بتحرك على المستوى القضائي الدولي، من خلال تقديم طلب إلى المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين، لكي تزول تهمة التواطؤ والتآمر، خصوصاً أن ثلاث دول عربية أعضاء في المحكمة الجنائية الدولية!
وإذا كان صدام حسين حوكم وأعدم من أجل قتل 148 شخصاً، فإن من قتلوا في يوم واحد في غزة قد فاق 230 شخصاً، فهل تعي الدول العربية استخدام هذه الورقة القضائية الدولية؟
ولعل الأمر الذي يجب التنبّه إليه، هو أن أمن الدول العربية مرتبط بأمن الشعب الفلسطيني، وغني عن القول إن أي اعتداء على الشعب الفلسطيني ستكون له آثاره السلبية في الشارع العربي، الأمر الذي قد ينعكس في نهاية الأمر على أمن الحكومات العربية.
أما إذا كانت بعض الأنظمة العربية تعتقد أن إسرائيل ستقضي على "حماس" من خلال عدوانها الوحشي على غزة، فربما كان حرياً بها أن تتعلّم من دروس التاريخ الحديث، أن مقاومة الشعوب المسلوبة حقوقها لا تموت باستخدام القوة العسكرية وحدها، حتى لو تمكنت الآلة العسكرية من إبادة قادتها. الأمثلة على ذلك كثيرة، ولعل أقربها إلى الذاكرة وفي عصرنا الحديث "طالبان"، "القاعدة"، "المحاكم الصومالية"، "حزب الله"، "المقاومة الشيشانية"، التي لم تفنها وحشية القوة العسكرية التي استخدمت ضد كل منها، بل إن كلاً منها ازداد قوة بعد كل عملية ضده.
واقع الأمر أن "حماس" لن تزول كما يزعم المسؤولون الإسرائيليون، بل إنهم يعلمون ذلك، ولا أخفي إعجابي بأسلوب التهكّم الذي تناولت به صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية يوم الأحد ما سمّته "سيناريو الأحلام"، الذي تقدمه الحكومة الإسرائيلية، حين وصفت الصحيفة القصف الإسرائيلي بأنه سيقلب غزة رأساً على عقب، وسينزل آلاف الجنود الإسرائيليين إلى غزة ويغتالون جميع قادة "حماس"، ومن ثم يقومون بتحرير الجندي الإسرائيلي غلعاد شاليت وهو سليم معافى، ثم بعد ذلك يقدّمون للصحافة آلاف الصور لأسلحة متقدمة عثر عليها في مستودعات "حماس"!