على مائدة الضبّان

جمان محمد عكل

[email protected]

هنالك من يقول إنّ المقاطعة للبضائع الأمريكية واليهودية كانت كذبة كبيرة، وهناك من يقول إنّ المقاطعة بشكل عام غير مجدية، وهناك من يقول إنّ فكرة المقاطعة -بسبب الرسوم المسيئة- بذاتها خاطئة؛ من مثل ذلك حملة (لا للمقاطعة) التي تتبنّى هذه الفكرة، ولديهم أسلوب في الطرح والعرض.

أنا أيضاً لديّ وجهة نظري التي أؤمن بها، وأنا أعرضها لمن أحبّ أن يناقشها وأن يستفيد منها.

أقول باعتبار أن قضية الأموال صارت قضية سائبة مائعة في هذه الفترة، فالمقاطعة على الصعيد المادّي قد لا تقنع كثيرا من الناس، خصوصاً بوجود كثير من البسطاء أمثالي الذين لا يعرفون العلامات والأسماء التجارية للشركات التي يرغبون في مقاطعتها.

أيضا أعرف أن كثيرا ممن يتابع أخبار فتح وحماس، سيقفل التلفاز والأخبار عنهما نهائيا. أنا فعلتُ ذلك، ليس لأنّ فلسطين لا تهمّني.. بل لأنه ما عاد يهمّني من يحكم أرض فلسطين باعتبار أن الحاكم الفعلي هم الصهاينة، وحقي كمسلمة في أرض المقدس محرومة من الصلاة فيها لن يغيّره لا قرارات حماس ولا قرارات أمريكا، بل قراراتي أنا.

الشيء الوحيد الذي قد يتأثر بقرار مقاطعتي للأخبار السياسية ولمنتجات شعوب الاحتقار -التي تحتقرنا- هو حال من هم داخل فلسطين، وأنا أرى أنهم يستحقون أفضل بكثير من هذا؛ حين آوي إلى فراش دافئ في منزل مدفأ على مدى أربع وعشرين ساعة، ودرجة الحرارة خارجه تقارب الصفر، وأعرف أنهم لا يستطيعون حتى ترف التفكير في الدفء. حين أجد ماء دافئا متوافرا دائما، وأمنا كافيا لأخرج من منزلي وحيدة وأستقل الحافلة أو أسير في الشارع لمجرّد التمشي والترويح، ومالا كافيا لأشتري ما أشتهي، لا أعتقد أنهم يستحقون أفضل من المقاطعة فحسب، بل ومتأكدة أنا أنّ ما سأحاسب عنه يوم القيامة، سأحاسب مرّتين، مرّة عن شكر النعمة، ومرّة عن أخي الذي بات جائعا عاريا ليس لأنّ سياسة العالم قرّرت ذلك، بل لأنّي أنا أو غيري نسينا ببساطة أن نتذكره وندعو له عند كلّ مائدة طعام، وكل صلاة، وكل دعاء لأحبّتنا.

نسينا أن ننفق له كما ننفق حتى لقبور موتانا!

وأنا لا أريد أن أقف بخزي أمام ربّي الذي أحبّني ومنحني نعمه بلا حساب، وتطول بي وقفة الحساب.. أفلا أحبّه أيضاً وأشكر النعمة كما يليق؟

أنا مقتنعة بهذا، وهذه قناعة شخصية لا أفرضها على أحد.

لكن مقاطعة الأخبار السياسية لا تعني مقاطعة الأخبار الإنسانية، لا أستطيع أن أمر بعناوين نشرة الجزيرة الإخبارية دون أن أقف عند هذا الخبر مثلا:

إصابة طفلة فلسطينية في الخليل وطعن فلسطيني في القدس

(أصيبت طفلة فلسطينية تبلغ من العمر عامين اليوم الأربعاء بجروح بعد أن رشقها مستوطنين يهود بالحجارة في مدينة الخليل، في حين أصيب شاب فلسطيني بجروح خطيرة عندما طعنه شبان يهود في القدس الغربية.

وفي القدس أصيب شاب فلسطيني بجروح خطيرة عندما طعنه شبان يهود بأداة حادة في القدس الغربية. وكان الشاب الفلسطني (31 عاما) وهو من سكان القدس الشرقية يهمّ بمغادرة عمله بعد منتصف الليل عندما استوقفه ثلاثة إسرائيليين واعتدوا عليه عندما عرفوا أنه عربي.

وذكر متحدث باسم الشرطة الإسرائيلية أن الشرطة تبحث عن عدد من المشتبه بهم الذين طعنوا الشاب الفلسطيني، ولم يؤكد المتحدث أن المهاجمين من اليهود ولكنه قال إن الشرطة تعتقد أن الهجوم ذو “دوافع عِرقية”.)

والآن.. بعد قراءة الخبر، يمكنني أن أتابع إفطاري، هذا الإفطار الذي يغذيني ويغذي جنيني الذي يتلقى انفعالاتي وأفكاري التي نشأت بعد هذا الخبر، وبالمناسبة، أنا أقرأ له مثل هذه الأخبار بصوت مرتفع.. عليه أن يتعلم القراءة منذ الآن، ليس قراءة الأحرف.. بل قراءة وجه العالم الحقيقي، هذا الوجه الذي نختبئ منه.

كتبوا في الخبر: (دوافع عِرقية)، يعني قمّة العنصرية، فلماذا لا نتعنصر نحن أيضا تجاه السفلة والأوغاد؟ لماذا يؤمن الإسرائيلي الذي لا تعتمد هويته على دين -فاليهودي غير الإسرائيلي- وإنما على مبدأ وقناعة مثله مثل النازي؛ بأن له الحق بأن يمارس عنصريته تجاه أيّ حيوان في العالم (حيوان كما في اللغة العربية بمعنى كائن حي)، ولا نؤمن نحن بذلك؟. لماذا يكره العالم كله النازية مثلا ولا يوجِدُ دوافع أو أسبابا ليكره الصهيونية؟

القضية قضية هوية، الإسرائيلي يعرف جيّدا من هو وما الذي عليه أن يفعله، ويحبّ ذاته لأجل ذلك.

ونحن لا نعرف من نحن، ولا نريد أن نعرف ما علينا أن نفعل، والأدهى أننا نكره ذواتنا ونعاملها كأقسى ما يكون.

أليس من القسوة أن يكون المرء إمّعة؛ تابعا لا متبوعا وهو القادر على القيادة؟ ألا يظلم نفسه؟

أليس من القسوة أن يحشر نفسه الكبيرة، هامته التي قرّر الإله في سمائه العليا أنها ستكون أعلى هامة إن هي حملت همّ هذا الدين على عاتقها، أن يحشر هذا كله.. في جحر ضبّ؟

رشقوها بالحجارة.. طفلة عمرها عامين أصيبت رشقا بالحجارة بدافع العنصرية والاحتقار، والشاب طعن عندما عرفوا أنه عربي، لا يهمّ إن كان مسلما أو مسيحيا، فهو بالنسبة لهم من فئة دونيّة، أفلا يحق لي بعد أن أحتقر السفلة وأعبّر عن ذلك بكلّ طريقة متاحة أمامي وتناسبني ولا تكلفني عناءً سوى عناء التفكير والإيمان؟

أنا لا أريد أن أكون نسخة من أحد فالنسخ كثيرة ومتوفرة، وكل واحد حرّ بنفسه، ولا أحبّ الضبّان ولا دخول جحورهم، وليت القوم الذي يدخلون وراءهم يطاردونهم ليأكلوا لحمهم، بل ليأكلوا على موائدهم..

وصِدقا، إني لا أدري ما يكون شعور امرئ ولا طريقة تفكيره، ولا تكوين نفسيته.. ليأكل على مائدة ضبّ!

____

* عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم “لَتَتّبِعُنّ سَنَنَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ. شِبْراً بِشِبْرٍ، وَذِرَاعاً بِذِرَاعٍ. حَتّىَ لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبَ لاَتّبَعْتُمُوهُمْ” قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللّهِ آلْيَهُودُ وَالنّصَارَىَ؟ قَالَ “فَمَنْ؟”.-رواه البخاري-.

* الضبّ في أمثال العرب: “أبله من ضب”، “أحير من ضب”، “أضل من ضب”: لأن الضبّ في طبعه الحيرة والنسيان وعدم الهداية. قالوا: لذلك يحفر بيته في موضع مرتفع لئلا يضل عنه إذا خرج ابتغاء الطعام ورجع.