اللوحة الدامية والذكريات الأليمة

فيصل الشيخ محمد

أمام المشهد الدامي الذي يجعل المآقي تتحجر في العيون، لا يسع الإنسان إلا أن يقف مشدوهاً أمام هذا المنظر، الذي تتفطر له القلوب، وترتجف له الأبدان، وتقشعر له الجلود.. عشرات الجثث المتناثرة الرؤوس والأيدي والأرجل وأشلاء الجسد المتقطع، وكأنها خرجت للتو من بين يدي جزار أعمى بلا عقل ولا ضمير.

أطفال ونساء وشيوخ هائمين على غير هدىً يبحثون بين كل هذا الكم الهائل من الأشلاء المتناثرة عن ابن أو أب أو أخ أو قريب أو عزيز أو صديق.. الصورة أكبر من الوصف وأجلّ من الإحاطة و إدراك العقول!!

إن هذا المشهد الدامي الذي رسمت لوحته المرعبة الأصابع الإسرائيلية الهمجية في غزة هاشم يوم السبت الأسود يعيدنا لتذكار اللوحة الدامية الأكبر التي رسمتها الأصابع الأسدية في مدينة حماة قبل سبع وعشرين سنة.. تلك اللوحة البشعة التي تفوق الوصف والخيال، وما شاهدناه على شاشات التلفاز، وما سمعناه من الإذاعات، وما قرأناه في الصحف والمجلات عما فعلته آلة الحرب الصهيونية الهمجية في غزة هاشم، هي دون ما فعلته آلة الإرهاب والحقد الأسدية في مدينة حماة في الثاني من شباط 1982.

الأصابع الصهيونية رسمت لوحتها في رابعة النهار، أمام عدسات الكمرات وأعين مراسلي محطات الفضاء والإذاعة والصحافة وكل وسائل الإعلام الحديثة التي تنقل الأخبار في لحظة حدوثها إلى العالم كله.. أما الأصابع الأسدية فقد رسمت لوحتها في أديم الليل بعيداً عن العيون والآذان والأفواه.

إني أتعاطف مع أهلنا في غزة هاشم، وأعيش آلامهم وأحزانهم ومصابهم.. ولا أملك إلا الدعاء لهم والمواساة لما ألم بهم وأصابهم، فأنا ككل الملايين من الشعوب العربية المسلوبة الإرادة والفعل، وحتى الجهر بالقول أو التعبير عن الغضب.

دماء أهلنا في غزة هاشم نكأت جراحنا وأعادتنا لتذكار الدماء التي أهرقتها الذئاب الأسدية في مدينة حماة، والتي فاقت بشاعة وفظاعة ما فعله الصهاينة يوم السبت الأسود.

وللذكرى نقول: لقد استباحت قطعان الذئاب الأسدية مدينة حماة لأكثر من عشرين يوماً تقذفها بالحمم من السماء والأرض، بعد أن أحكمت حصارها وسدت منافذها ومنعت الخروج أو الدخول منها أو إليها، براجمات الصواريخ بكل أنواعها وقنابل الطائرات بكل أوزانها ودانات المدافع بكل أحجامها.. وليتصور القارئ بشاعة الفعل وخساسة الفاعل.. وليتخيل البون الشاسع بين بشاعة اللوحة الدموية التي رسمتها الأصابع الأسدية في الثاني من شباط 1982، واللوحة الدموية التي رسمتها الأصابع الصهيونية يوم السبت الأسود 27 كانون الأول 2008 !!

ومع كل تقديرنا وعظيم حزننا لعدد الشهداء الذين سقطوا في غزة يوم السبت الأسود على أيدي الصهاينة، فهم لا يقاسون في أي حال من الأحوال بعدد من سقط على أيدي قطعان الذئاب الأسدية في مدينة حماة.. فقد أجهزت الذئاب الأسدية على ما يزيد على ثلاثين ألف إنسان بين رجل وامرأة وطفل، ومثلت بأجساد الكثيرين، وقطعت العديد من أيدي النساء لتستولي على حليهن وما في معاصمهن من مجوهرات.. وتركت مدينة حماة أبي الفداء خرائب وأطلال بعد أن كانت زهو حضارة تضرب جذورها في عمق التاريخ آلاف السنين.