الحذاء المتحضر
الحذاء المتحضر!
أ.د. حلمي محمد القاعود
عقب
هزيمة 1967م السوداء اشتهر الشاعر نزار قباني بمجموعة من القصائد لسياسية التي كان
يهجو فيها الأنظمة والشعوب العربية جميعا ، وكان من بين قصائده واحدة همزية خصصها
لهجاء مثقفي السلطة أيامئذ – وكانوا أكثر حياء من خلفائهم في أيامنا – وجاء فيها
بيت اشتهر بين الأدباء يقول فيه :
وإذا المفكر أصبح بوقا يستوي الفكر عنده والحذاء
وقد
التقط صديقي الأديب الكبير وديع فلسطين ، فكرة البيت ، وكتب سلسلة ممتدة من
المقالات الطويلة في مجلة الأديب اللبنانية ، استغرق نشرها شهورا طويلة في أوائل
السبعينيات ، وشارك في تناول الفكرة عدد كبير من أدباء هذه الفترة في مشرق البلاد
العربية ومغربها ، وكان لأدب الأحذية والنعال ركن واسع في أدبنا الحديث .
عادت الفكرة مرة أخرى في الرابع عشر من ديسمبر 2008م ، حين أطلق الصحفي العراقي "
منتظر الزيدي " حذاءه بفردتيه على الرئيس الأميركي " جورج بوش " ،وهو يعقد مؤتمرا
مع الصحافة ، ويتفاخر بصلافة أنه نقل العراق إلى الديمقراطية والحرية ، وأن الحرب
لما تزل قائمة ولم تنته بعد ! تراكمت صور الإجرام الوحشي الدموي الاستعماري
المرتبطة باسم جورج بوش وعملائه في ذهن الصحفي العراقي ، فخرج عن أطواره الطبيعية ،
ووجد أن الرد المناسب على الجرم المتعجرف هو القذف بالحذاء مهما كان الثمن !
وكانت بداية الثمن أن جلاوزة الاستخبارات الأميركية والعراقية وضعوا أس منتظر
والشاشة تعرض ما يفعلون – على الأرض وضربوه بمنتهي القسوة حتى نزف دمه على أرض
القاعة ، ثم سيق إلى المجهول حيث استمر تعذيبه لدرجة دفعت أحد القضاة الذين جلبهم
النظام الحاكم العميل ؛ لإعلان أن جسد الصحفي به آثار تعذيب واضحة .
الحدث كان موضوعا للتلفزة والصحف والإذاعة على امتداد العالم كله ، وليس العالم
العربي وحده . وخرجت مظاهرات عراقية ومصرية تشيد بالصحفي وتندد بالغزاة ، ونسي
الناس في مصر همومهم اليومية بدءا من البحث عن الرغيف حتى هزيمة الأهلي في اليابان
، وانتعشت أفئدتهم ، وانبسطت وجوههم ، وأشرقت عيونهم بالفرحة والبهجة ، لأن صحفيا
مغمورا استطاع أن يعبر بالطريقة الملائمة عن مشاعرهم الدفينة وأشواقهم العاجزة ،
فرد على الرئيس المتعجرف بما يليق به .
كانت أغلبية الشعوب العربية وكتابها ومحرريها وإعلامييها ، مع الصحفي العراقي ،
يؤيدونه ،ويدافعون عن سلوكه ، ويطالبون بتحريره من قبضة الغزاة وعملائهم في بغداد ،
وأعلن المحامون بالمئات في شتى البقاع العربية تطوعهم للدفاع عنه وكتابة مذكرات
المرافعة ومواجهة الاتهام .
وكان الأميركان أنفسهم سعداء بما جرى لرئيسهم الفاشل ، الذي ورطهم في حروب عقيم ،
لا ثمرة لها إلا تخريب الاقتصاد الأميركي ، وانهيار البنوك والشركات الكبرى ،وطرد
أكثر من نصف مليون أميركي ن وظائفهم . وقد تناولوا موضوع الحذاء بالتندر والسخرية
والضحك ، فثقافتهم تسمح بمثل هذا النوع من الاحتجاج ، وذلك دون أن يلتفتوا إلى ما
جرى للعراقيين ومن قبلهم الأفغان والصوماليين من مذابح وانتهاكات وسرقة ثرواتهم
وتراثهم لغالي ، وتخريب بلدانهم وإفقادهم الأمن والطمأنينة وأبسط الخدمات اليومية .
مئات بل آلاف المقالات والآراء عبرت عن وقوف إلى جانب لصحفي العراقي تعبيرا عن وحدة
تجمع بين شعوب الأمة من أقصاها إلى أدناها ، وهي وحدة ظن البعض أنها ماتت مع
تفجيرهم للصراعات العرقية والطائفية والمذهبية على امتداد العالم العربي ؛ بل
والعالم الإسلامي !
صحيح أن الأمة عاجزة ومكبلة ، وأصفادها ثقيلة ثقيلة ، ولكن عينها لا تخطئ اللحظة
التي تحلم بها ، وتتمناها وتنتظرها ؛ عندما تتحقق الأسباب وتتجمع . وكانت قذيفة "
منتظر الزيدي " ، لقطة من هذا الحلم المنتظر ،وتنفيسا عن أحزان مكبوتة لم يصنعها
الغزاة الهمج وحدهم ، بل بعض أبناء جلتنا المدعومين من قبلهم ، والمتحكمين في
مصائرنا وأقدارنا وطعامنا وشرابنا ، فسودوا حياتنا وأظلموها في كل المجالات حتى
صرنا بحق – كما تنبأ البشير النذير صلى الله عليه وسلم – قصعة الأمم !
على
الجانب الآخر كانت هناك أقلية تضم المارينز العرب ، وكتاب لا ظوغلي ، ورابي الشهرة
، والغاضبين من الواقع المخزي الذي تعيشه الأمة على يد حكامها وزعمائها وقادتها
وشعوبها ، ترفض هذا السلوك الصحفي العراقي ، وتشجبه ،وترى فيه خسارة وليس مكسبا .
وذهب بعضهم إلى أن هذا السلوك غير حضاري ، ولا يليق أن نعامل به ضيفا حل بساحتنا
ودارنا وربعنا ,, وقد ركز على الجانب الحضاري المارينز العرب الذين يعبدون أميركا
من دون الله ، وهؤلاء عادة يرفضون كل ما يمس الإله المعبود ، ويرفضون كل حركة تدل
على حيوية الأمة ومقاومتها وجهادها ، ولذا يحاربون الإسلام دائما ، ويعملون على
استئصاله والتبشير بسياسة الاستسلام ، وثقافة التبعية ، وهم ضد المقاومة الإسلامية
في فلسطين ولبنان والعراق وأفغانستان والصومال ، وهم ضد إيلام الغزاة بأدنى ألم
،ولهم في ذلك مسوغات هشة ومنطق سقيم وأسباب غير منطقية وغير حضارية أيضا .
ولا
أدري كيف يكون الحذاء متحضرا في حضارة رئيس همجي يستعيد همجية ريتشارد قلب الأسد
وأسلافه وخلفائه الذين قتلوا وذبحوا وروعوا ونهبوا في بلاد المسلمين ، بل في بلاد
أبناء ملتهم جنوب أوربة وجنوبها الشرقي وهم يزحفون إلى القدس العتيقة أيام الحروب
الصليبية ، في وحشية لا يقرها دين ولا خلق ولا عرف ولا قانون .
إن
الحذاء المتحضر ، يكون أكثر تحضرا في حضرة الهمج والقتلة واللصوص الأقوياء ، ولا
أعلم ماذا سيكون موقف المارينز العرب وأمثالهم ، حين يرون جنديا أميركيا همجيا يدخل
بيت أحدهم ، ويهتك عرض أهله وأقاربه ، ويصور جريمته ، ثم يهو بالصور مع رفاقه الهمج
! هل أسأل عن النخوة والكرامة والشرف ؟ أم إنها ذهبت مع " رزم " الدولارات ، و"حزم
" الامتيازات ؟
أعجبني الرئيس الشيوعي الفنزويلي " هوجو شافيز " ، وهو يتناول قصة الحذاء الصاروخي
على شاشة التلفزة . كان يضحك مرحا فرحا ، ويطلب من مقدمة البرنامج أن تعرض مشهد
القذيفة الحذائية ليراها جيدا. إن شافيز يرى أن بوش يستحق أن يضرب بكل أحذية العالم
على ما ارتكبه من جرائم وآثام ! ولكن بعض الشيوعيين المصريين لهم رأي آخر ، وإن
كانت أكثريتهم أعربت عن تأييدها للصحفي العراقي .
إن
حضارتنا تكرم الضيف المؤدب المهذب الذي يحمل رسالة سلام ومودة ، ولكن الضيف الذي
يتجاوز حدود الضيافة ، ويتباهى – وبجواره العملاء – بجرائمه وآثامه ، ويتحدى مشاعر
مضيفيه في قحة غير مسبوقة ، فغن توجيه الحذاء إليه يعد من أبسط الأعمال الحضارية
التي تبلغه رسالة موجزة فحواها ؛ أن الأمة ستقاوم ، ولن تتوقف عن المقاومة حتى
تتحقق لها الكرامة والعزة والنصر بإذن الله .
مهما يكن من أمر ، فقد أعاد الحذاء المتحضر ، فكرة الحديث عن أدب النعال إلى الوجود
مرة أخرى ، وانطلق الشعراء والكتاب ، ينظمون ويدبجون ، ويدخلون بنا عالما فسيحا من
الأدب ؛ يحمل مشاعر الأمة وآلامها وآمالها .