مصر: بين التفتيت والتفعيل
مصر: بين التفتيت والتفعيل
هشام منور
كاتب وباحث فلسطيني
[email protected]
مثلت مصر منذ فجر التاريخ واحدة من أعرق الحضارات الإنسانية بوصفها حاضنة للحضارة
الفرعونية الغابرة، وظلت مصر الفرعونية تمثل واحدة من كبرى القوى العظمى في المنطقة
والعالم متمددة بدافع من صراعاتها جنوباً حيث منابع النيل، وغرباً باتجاه دول
المغرب العربي، وشرقاً باتجاه بلاد الشام في صراعها مع الإمبراطورية الفارسية تارة،
والرومانية تارة أخرى.
ومع
دخول الإسلام إلى مصر على يد الفاتح الكبير عمرو بن العاص، وعلى الرغم من التهميش
الجزئي الذي عرفته في بداية دخول الإسلام إليها إبان الدولة الأموية وانتقال مصدر
صنع القرار إلى الجزيرة العربية بداية، وإلى دمشق بعد ذلك، إلا أن مصر بامتدادها
الجغرافي الواسع وثقلها البشري ظلت تمثل رمانة الميزان بالنسبة للحكومة المركزية
لعاصمة الأمويين في دمشق، ومثلت الخزان الاقتصادي والبشري للدولة الفتية إبان فترة
توسعها في الفتوحات.
لكن
مصر بحكم المقومات السياسية والاقتصادية والجغرافية والديمغرافية التي تحوزها لم
تلبث أن استعادت دورها القيادي مع نشوء الدولة الفاطمية وتمددها غرباً حتى أطراف
المحيط الأطلسي في بعض الفترات، متقاسمة بذلك النفوذ والسيادة على أرجاء العالم
الإسلامي مع كل من الخلافتين العباسية في بغداد، والأموية في الأندلس. ثم تحولت بعد
ذلك إلى واحدة من أهم قلاع الممانعة والصمود العربي والإسلامي في وجه كل من
الصليبيين والمغول إبان الحكم الأيوبي والمماليك، لتظل محافظة على مكانتها ورمزيتها
في قلب العالم العربي والإسلامي في العصر الحديث مع بروز التيارات القومية
واليسارية في فترة الخمسينات والستينات من القرن الماضي.
ولعل مما يسترعي الانتباه في هذا السياق استمرار حالة الاستقرار والتماسك السيادي
السياسي لمصر وعجز أعدائها عن تفتيتها وتقسيمها رغم كل المحاولات والمؤامرات
الساعية لذلك. فقد ظلت مصر متماسكة وعصية على التفتيت لأسباب كثيرة يعود بعضها إلى
الوحدة العضوية تاريخياً لشعبها بالمقارنة مع غيرها، وتشكيلها لحضارة واحدة عبر
التاريخ وتمتعها بموقع استراتيجي هام لا يسمح للمسيطر عليها بالتفريط بمقومات
وحدتها مهما كلف الثمن.
لكن
التكالب على مصر ومحورية دورها بوصفها رافعة للعمل العربي المشترك وترمومتر لقياس
مدى فاعليته أفضى إلى الكشف عن عدد من المشاريع الخبيثة لتفتيت الأراضي المصرية
وتشتيت سيادتها بين عدد من الكيانات القطرية والجهوية التي تعتمد الأساس العرقي أو
الطائفي لتبرير قيامها واستمرارها لاحقاً.
فالفيلسوف الفرنسي (روجيه جارودي) كتب وثيقة يكشف فيها عن أحد مخططات التفتيت نشرها
سابقاً. وتناول الدكتور حامد ربيع في كتابه: (قراءة في فكر علماء الاستراتيجية) عدة
وثائق تجمعت لديه كباحث عن مخطط صهيوني _ أمريكي لتفتيت مصر إلى أربعة كيانات مفككة
منفصلة، يمتد الكيان الأول (الكيان القبطي) من منطقة جنوب بني سويف حتى جنوب أسيوط،
وتمتد غرباً لتضم الفيوم وصولاً إلى الإسكندرية التي تضحي عاصمة (الدولة القبطية)،
وهكذا يتم فصل مصر عن الإسلام الإفريقي الأبيض وعن باقي أجزاء وادي النيل.
ويرتبط الجزء الجنوبي الممتد من صعيد مصر حتى شمال السودان باسم بلاد النوبة
بمنطقة الصحراء الكبرى، حيث تصبح (أسوان) عاصمة لدولة جديدة دولة تحمل اسم (دولة
البربر). أما الجزء المتبقي من مصر فسوف يطلق عليه تسمية (مصر الإسلامية)، وتصبغ
مصر بطابع طائفي وعرقي بعد أن تم تجرديها من عاصمتها التاريخية (الإسكندرية) في
الشمال، والصناعية (أسوان) في الجنوب. حينئذ، يمتد النفوذ الصهيوني عبر سيناء
ليستوعب شرق الدلتا بحيث تصبح حدود مصر الشرقية من جانب فرع رشيد، ومن جانب آخر
ترعة الإسماعيلية، محققاً بذلك الحلم الصهيوني بالوصول إلى نهر النيل مرة أخرى.
على
الرغم من حالة الوهن العام التي تعتري المنظومة الحضارية للأمة بتفرعاتها السياسية
والاقتصادية والاجتماعية، وما تعانيه من أزمات متلاحقة وصراعات متفجرة ومؤامرات
متكاثرة للنيل من حضارة هذه الأمة واستتباعها سياسياً واقتصادياً، إلا أن الدور
المحوري لمصر بوصفها أكبر الدول العربية من حيث السكان وحاضنة للعمل العربي المشترك
بات يستأثر بالكثير من تبعات مدافعة الهجمات الشرسة التي تستهدف صمودها ووحدتها
وسيادتها بغية القضاء على ما تبقى من أفكار التضامن العربي ولو في حده الأدنى،
وتطويع ما بقي منها وتسخيره لخدمة مشاريع التوسع والهيمنة على خيرات الأمة
ومقدراتها.
ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه وبقوة على ذوي الشأن وأصحاب سلطة اتخاذ القرار بخصوص
تفعيل الدور العربي ومضامين العمل المشترك بين أبناء أمة تمتلك كافة مقومات النهوض
الحضاري والسياسي، وإيجاد الصيغة المعقولة والمقبولة بين الأنظمة العربية لإنجاز
طموحات جماهيرهم في ظل تفتت النظام الدولي الجديد ونظيره الثقافي (العولمة) في ظل
أزماته المالية والسياسية المتلاحقة، وتخلي الدول عن الالتحاق بركب العولمة
والاندماج بهذا النظام لصالح العودة إلى التجمعات الإقليمية والمناطقية التي تحفظ
للشعوب والأمم هويتها وتراثها وحضورها السياسي دون أن تلغي الدور التفاعلي لها مع
بقية دول العالم وشعوبها. وهو الأمر الذي يتحقق في أبهى صورة بين الدول العربية
وشعوبها.