تحرير الجامعة .. أول الجودة

تحرير الجامعة .. أول الجودة!

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

كان خبراً صاعقاً للظلم وأعوانه بكل تأكيد . لم يكن مجرد حكم من أحكام القضاء الإداري يسمعه الناس كل يوم ، ويمرون عليه مروراً عابراً ، أو لا يتوقفون عنده إلا لماماً ، فقد كان الحكم الذي أصدرته محكمة القضاء الإداري في الأسبوع الأخير من نوفمبر 2008م ، مع تنفيذه بمسودته دون إعلان ، لإلغاء الحرس الجامعي ، وإخراجه من حرم الجامعة ؛ انتصاراً كريماً لحق الشعب المصري في تعليم حرّ مستقل يبنى مصر ويصنع مستقبلها ، ويحقق أحلامها التي ضلت الطريق إلى التحقيق طوال نصف قرن أو يزيد .

قضت الدائرة الأولى / أفراد بمحكمة القضاء الإداري بمجلس الدولة في 25/11/2008م بإخلاء جامعة القاهرة من الحرس الجامعي ونقله إلى خارج أسوارها ، وقضت بإلغاء القرار السلبي لرئيس الجامعة بعدم إنشاء وحدة للأمن تتبع مباشرة رئيس الجامعة ، وقررت المحكمة تنفيذ الحكم بموجب مسودته بدون إعلان .

هذا هو القرار الذي أصدرته محكمة القضاء الإداري بعد أن أقام الدكتور عبدا لجليل مصطفى الأستاذ بطب القصر العبنى ، دعوى قضائية ضد رئيس جامعة القاهرة ووزير الداخلية ورئيس الوزراء ، مطالباً بإغلاق مكاتب الحرس الجامعي التابعة لوزارة الداخلية ، وعدم السماح لأي من رجال الشرطة بالوجود داخل أسوار الجامعة سواء بالزى الرسمي أو المدني . وجاء الحكم إقراراً للدستور الذي ينصّ على حرية الرأي والتعبير وتوفير الحماية للبحث العلمي والإبداع الأدبي والفني وحق المشاركة في الانتخابات . كما جاء متوافقاً مع نصوص وروح قانون تنظيم الجامعات 49 لسنة 1972 وتعديلاته التي تنصّ على كفالة الدولة لمبدأ استقلال الجامعات ، وتخصيص وحدة للأمن بلباس مدني مميز في الجامعات  تتبع رئيس الجامعة مباشرة ، وينحصر دورها في حماية منشآت الجامعة وأمنها دون تدخل في الحريات الأكاديمية والفكرية .

هذا الحكم التاريخي كما وصفه المعنيون بأمر الجامعة وتقدم الوطن يصحح جانباً من جوانب الخلل في الواقع العلمي الذي تعيشه مصر ، حيث عاش العلماء والمفكرون داخل الجامعة منذ انقلاب 1952م أسوأ فترات حياتهم العلمية والفكرية ، فقد بدأ ضباط الانقلاب عهدهم بفصل أكثر من خمسين أستاذاً من بينهم أعلام في تخصصاتهم . وتوالى تقييد الجامعة ، وتحويلها إلى مؤسسة خانعة تعيش تحت رحمة الأمن العلني والأمن السرّى ، ويعيث فيها جواسيس النظام من التنظيمات السرّية (منظمة الشباب  والتنظيم الطليعي و حورس ) فساداً بكتابة التقارير الظالمة لإيذاء الأساتذة والطلاب والعاملين بالجامعة ، وحرمان أصحاب الكفاءات العالية من حقوقهم في الترقي والمناصب الإدارية ، أو تقديمهم طُعماً سائغاً للمحاكمات أو الفصل التعسفي ..

كان الاحتلال البوليسي للجامعة والتدخل في أدق شئونها ، من أخطر الأسباب التي أدت إلى تدهور التعليم وقتل الأجيال معنوياً وإتاحة الفرصة للمتسلقين والأفاقين والباحثين عن المنافع كي يصعدوا إلى سدة المناصب الإدارية ويشوشوا على الشرفاء في هذه المناصب ، مع إطفاء شعلة الحرية العلمية والفكرية لحساب إرضاء السلطة البوليسية بأي ثمن ، وأضحى أمين الشرطة أهم من عميد الكلية ، ونقيب الحرس أخطر من رئيس الجامعة ، وصار " الزى الكاكى " عضوا دائماً في مجالس الكليات والجامعات بصورة مباشرة أو غير مباشرة  ، وإن لم يسجل في المحاضر الرسمية ، وأضحى تعيين رئيس القسم أو الوكيل أو العميد أو النائب أو الرئيس مرهوناً برضا كاتب تقرير الشرطة ، سواء كان بدرجة أمين أو برتبة أعلى .. ولذا لم يكن عجيباً أن تنشر الصحف ذات يوم ، بعد أن شهد من شهد من الأساتذة ، أن رئيس جامعة إقليمية كان يهبط السلم في إدارة الجامعة التي يرأسها ، وكان هناك ضابط من الحرس برتبة نقيب يصعد السلم في الوقت ذاته ، فسأله الرئيس : أصعد أم أهبط ؟ يقصد هل يريده الضابط فيصعد معه إلى مكتبه أم ينزل إلى مهمته التي يقصدها ؟

فردّ عليه الضابط في صلف واشمئزاز : اصعد أو انزل .. أنت حر !!

هكذا وصلت الأمور وتدنت حتى صار رئيس الجامعة يسترضى ضابطاً صغيراً في عمر أولاده ووضع تلامذته !

ولم يكن غريباً ، أن يعلق رئيس إحدى الجامعات على الحكم التاريخي بقوله : " إن الحكم ليس في صالح الجامعة " وأضاف متسائلاً : " من سيحمى منشآت الجامعة التي تكلفت المليارات في ظل عدم وجود الأمن ؟ " .

لقد زرت العديد من جامعات العالم ، فلم أر أثراً لشرطي أو حرس يرتدى الكاكى . حتى في أشد البلاد ديكتاتورية وشمولية ، يدخل الناس الجامعة ويخرجون دون أن يستوقفهم أحد ، لسبب بسيط : أن الجامعة دار علم ، ومن يذهب إليها يبحث عن المعرفة ، ثم إن الأمن الذي يحمى المنشآت العامة وأملاك الناس توفره الدولة بصفة شاملة وكاملة ، فلا يستطيع لص أو مخرب أن يقترب من أية منشأة عامة أو خاصة ، هكذا يفهمون الأمن في الديكتاتوريات والشموليات ، فما بالنا في أزهى عصور الديمقراطية لا نعى هذه الفكرة ؟

من الطبيعي جداً أن يدافع عن الحرس الجامعي ووجوده في الجامعة ، من رفعهم الأمن إلى مناصبهم دون غيرهم من زملائهم الأكفاء ، ليستمتعوا بالبدلات والإضافات التي تجعل دخل الواحد منهم عشرة أضعاف أقرانهم ، بل أكثر ، فضلاً عن الامتيازات المادية والمعنوية والسفر إلى أوروبا وأمريكا على حساب الدولة ، ولكن هذا الدفاع يسقط أمام حق الوطن في جامعة حرة مستقلة ، استقال رموزها في الماضي احتجاجاً على بعض التدخلات الحكومية ، وليس الاحتلال الأمني الدائم ..

إن الحرية والاستقلال والطمأنينة الفكرية ، أساس العمل لتحقيق ما يسمى " الجودة " التي صدعونا بها ، ومن المعيب أن تبادر وزارة التعليم العالي – وليس الداخلية – إلى استئناف الحكم التاريخي بإلغاء الحرس الجامعي ، وتفسير هذا الأمر يحتاج إلى صفحات ، ولكننا من منطلق حب هذا الوطن المظلوم نؤكد أن الزمن لا يرجع إلى الوراء ، وأن الفجر آت لا محالة ، وأن البقاء للأصلح ، وأن تحرير الجامعة سيتبعه تحرير " الأستاذ " الجامعي ، من الإذلال المادي الذي دشنه نظام " أزهى عصور الديمقراطية " ، ويومها سنجد جامعة نباهى بها الأمم بمشيئة الله .

-    ضابط شهم وشجاع وأمين رفض اثني عشر مليونا من الجنيهات ليشارك في جريمة سرقة آثار ، ولكنه بضميره الديني الإسلامي الوطني رفض الرشوة ، وجعل مركز نقادة في جنوب مصر يتصدر الأخبار رمزا للأمانة والطهارة  .. إنه ضابط شريف ، خالص التحية له ولأمثاله .

-    المتمردون الطائفيون في عين شمس ما إن علموا أن مسجدا جديدا يتم إنشاؤه حتي حولوا مصنعا قديما إلى كنيسة ، وطالبوا بإلغاء ميكرفون المسجد ، ورفعوا أصواتهم بالترانيم ،وقذفوا المصلين في المسجد بالطوب والحجارة ، وجروا شكل الناس تحديا واستخفافا ، وشعارهم كنيسة أمام كل مسجد ، وإلا فالنظام يضطهد النصارى .. معتمدين على تأييد  بعض اليساريين والمرتزقة والمرتدين .. ونسوا أن الثمن سيكون فادحا على المدى الطويل !