حزب السلطة والعدالة الاجتماعية

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

يبدو لي أنه لم يعد هناك من أثر للعدالة الاجتماعية في مصر إلا في حالتين أو مجالين الأول مكتب التنسيق والآخر بطاقة التموين ، وتسعي السلطة إلي محو هذا الأثر من خلال اختراع ما يسمي امتحان القدرات ليكون معبرا للفاشلين إلي كليات القمة ، ووضع القيود ورفع الأسعار بالنسبة للسلع الغذائية لنسف ما تبقي من عدالة في مجال ملء البطون بالحد الأدنى من مواد الإعاشة .

العدالة الاجتماعية في إسلامنا الحنيف واجب علي أولي الأمر ( = أي السلطة ) والأغنياء والقادرين ، ولو كانت قدرتهم متواضعة وقد أسس الإسلام للعدالة الاجتماعية من خلال آليات عديدة في مقدمتها الزكاة ، ثم الصدقات ثم الكفارات ، ثم تهيئة المجال بوساطة السلطة ليعمل الناس ويستثمروا الأموال ويمشوا في مناكب الأرض ويأكلوا من رزقه .

ومنهج الإسلام في العدالة الاجتماعية مغاير للمنهج الماركسي والمنهج الرأسمالي ، فالمال مال الله والناس مستخلفون فيه ؛ مهمتهم استثماره بالحلال وبما يرضي الله ويخدم جماعة المسلمين ( ومن يعيش معهم مسالمة وموادعة من غير المسلمين ) ولا مجال في المنهج الإسلامي للصراع الطبقي الدموي الذي تحبذه الماركسية بين الفقراء أو الكادحين من ناحية وبين الرأسمالية أو الإقطاع من ناحية أخري أيضا فالرأسمالية الاحتكارية المتوحشة لا بقاء لها في ظل الإسلام ، ومن ثم فإن الصراع والاحتكار مرفوضان وكلاهما ضد العدل وضد الإسلام جميعا .. ثم إن تحريم الربا في لمعاملات الإسلامية يقطع الطريق علي الاستغلال والانتهازية التي تعصف بالفقراء والضعفاء وتهوي بهم إلي درك العوز والحاجة والفاقة . وقد اعتمد الماركسيون والرأسماليون الأساس الربوي في تعاملاتهم ونظمهم المالية علي المستويين المحلي والدولي ، وهو ما أجج الصراع الاقتصادي وجعل عملية الإقراض طريقا لتدمير من يقترضون بسبب الفائدة المركبة التي تستهلك العائد والأصول أحيانا ؛ فضلا عن الجهود التي تتبدد وفي الوقت نفسه فإن المقرضين يكسبون بلا جهد ويستولون علي كل شيء .

وقد تعرض العالم لأزمات عديدة اقتصاديا ، انهارت فيها بنوك ومؤسسات وشركات وخسرت أطراف عديدة كل ما لديها بسبب الفائدة والاحتكار والصراع الطبقي ، ولم تكن الأزمة الأخيرة التي بدأت في أمريكا بإفلاس بعض البنوك الشهيرة إلا حلقة من حلقات التدهور الذي يصيب الاقتصاد العالمي ويضع الفقراء والضعفاء في حضيض البؤس والمسكنة . وللأسف فان حزب السلطة في بلادنا يتحدث كثيرا عن العدالة الاجتماعية والعمل من أجلها بينما الواقع يؤكد أن الفجوة الطبقية تزداد اتساعا بين الأغنياء والفقراء وأن الطبقة الوسطي لم يبق من آثارها إلا ظلال باهتة لا قيمة لها وهي الطبقة التي تعد عماد المجتمع وصانعة حركته ونشاطه الاقتصادي والسياسي والثقافي .

لم يبق في بلادنا غير طبقتين الأولي وتمثل نحو 90 % وأفرادها مسحوقون يعانون من الغلاء والفقر وقسوة الضرائب التي لم تترك شيئا حتى البيوت التي يسكتونها ، والأخرى التي تشكل النسبة الباقية وتحظي بالامتيازات والحصانة والتدليل وقد استحوذت النخبة في هذه الطبقة علي القروض الضخمة من البنوك الوطنية واستولت بطريقة مريبة علي ألوف الأفدنة المملوكة للدولة وهيمنت علي المقاعد السياسية ، واحتكرت الصناعات الأساسية وسيطرت علي الصحافة والإعلام . والأخطر من كل ذلك أنها استباحت القانون والدستور بعد أن اطمأنت إلي حماية السلطة . لقد شكلت هذه النخبة حزب السلطة الذي ارتفع صوته بالباطل ليتحدث عن العدالة الاجتماعية المزعومة والشعب يتضور جوعا وبؤسا وقهرا. هي تملك كل شيء وتقرر ما تريد وتفعل ما تشاء والشعب لا يملك من أمره شيئا لا يشارك في السياسة ولا يقرر في الاقتصاد ولا يستفيد بثروات بلاده .

العدالة الاجتماعية كائن خرافي يشبه العنقاء حين يتحدث عنه حزب السلطة ؛ ويعمل في الوقت ذاته علي تكريس الظلم الاجتماعي وتدليل النخبة بما لا تستحق . إن السلطة مسئولة عن رعاياها جميعا وليس عن النخبة المدللة وحدها وهذه المسئولية تحتم علي السلطة أن تعدل بين مواطنيها في السراء والضراء ؛ ولكن الواقع يؤكد أن السلطة لا تعدل بل إنها تتخلي عن مسئوليتها تجاه الأغلبية ، وتركز جهودها من أجل النخبة المحظوظة تحت مسميات براقة عن الاستثمار والإنتاج والتصدير .. وحصاد هذه الجهود – للأسف - وضع اقتصادي مريض مثقل بالديون الخارجية والداخلية التي تتحملها الأغلبية وحدها ؛ وفي الوقت ذاته فإن السلطة لا تجد غضاضة في أن تعيش النخبة أو الأقلية المحظوظة في السراء وحدها ؛ تبني القصور الفارهة وتقيم الحفلات الصاخبة وتعيش حياة المترفين الذين  يفسقون في المدينة ولا أكاد اصدق إيجار أو ثمن بعض الشقق في المباني المترفة التي يسكنها المحظوظون ؛ وأنا أتأمل أحوال العلماء والباحثين الذين يعيشون الشهر كله سكنا ومطعما وملبسا وبحثا علميا بألف جنيه في الشهر أو يزيد قليلا .

نحن نتمنى للمترفين السعادة الكاملة شريطة أن تكون أموالهم حلالا وأن تكون بعيدة عن دعم السلطة وثروات السلطة . وفي الوقت ذاته نحلم أن يتوزع الخير الوطني علي جميع المواطنين ، والبسطاء في المقدمة .

إن مفاجأة الحزب الوطني بتوزيع أسهم بعض شركات القطاع العام علي المواطنين مجانا تحت مسمي " إدارة أصول أموال الدولة" لا يحقق العدل الاجتماعي ؛ ولكنه يصب في مصلحة النخبة التي أفرزها حزب السلطة..  فالمواطن الفقير المحتاج سيبيع الأسهم إلي من يشتريها ، والنخبة الحزبية الحكومية هي التي تستطيع الشراء ، ومعني ذلك أن السلطة تبيع لحزبها أو نخبته تحديدا مصانع القطاع العام وشركاته بثمن بخس دون أن تتعرض لمقولات حول طرق البيع وأساليبه المريبة ، وبعدئذ من يدري هل تحتفظ النخبة بما تشتريه أو تبيعه لأعداء البلاد من المتربصين بها وبثرواتها .

العدالة الاجتماعية تحتاج إلي تخطيط يستمع إلي آراء المخلصين في هذا الوطن ويبتعد عن أفكار النخبة المحظوظة التي استولت علي أموال البلاد بالقروض وعلي أراضيها بالهبات الحكومية السخية ؛ فلم تستثمر شيئا ذا بال ولم تصدّر شيئا ذا قيمة ، ولكنها تاجرت في الهواء ومدن الترفيه وشواطئ الغرام أما الإنتاج الحقيقي .. أما المصانع الحقيقية ..  أما التصدير الحقيقي فقد تركوه لقلة محدودة جدا من أصحاب الضمير أو الذين مازالوا يخافون الله .

العدالة الاجتماعية في كل الأحوال تقتضي ضرب الفساد وخاصة فساد النخبة الحزبية الحكومية بيد من حديد ، ثم الاستماع إلي أهل الاختصاص لتوزيع الأعباء والموارد علي جميع الناس .