كيف تفاعل كلام القرضاوي عن الشيعة وإيران
مشروع الوحدة الإسلامية: من الانتعاش إلى الذبول
الشيخ العلامة يوسف القرضاوي
فادي شامية
ظل مشروع الوحدة الإسلامية حاضراً في وجدان كل الذين عملوا للدعوة الإسلامية بصدق. النماذج الأولى للحركات الإسلامية حديثاً كانت متلاقية إلى حد كبير، فقد اعتُبر حزب »الدعوة« (الحركة الإسلامية الشيعية الأم)، النسخة الشيعية من حركة »الإخوان المسلمين»، (تأسست في العام 1928 على يد الإمام حسن البنا)، إذ كانت الأدبيات متشابهة، وتركز على الإسلام كمنهج شامل للحياة، متجاوزة المذهبيات التي تفرّق المسلمين، بل إن كثيرا من مؤسسي حزب الدعوة وأعضائه، كانوا منتمين فعلاً الى احزاب إسلامية سنية كـ«الحزب الإسلامي العراقي« و»حزب التحرير»؛ كالشيخ عارف البصري، والشيخ عبد الهادي السبيتي (كانا في »حزب التحرير»)، مما يدل على ضيق مساحة الخلاف آنذاك بين طرفي التيار الإسلامي السني والشيعي. علماً أن حزب الدعوة كان قد ضم إلى صفوفه أسماءً، أصبحت لها لاحقاً مكانة كبيرة في الوسط الديني الشيعي، كالعلامة محمد حسين فضل الله، والمشايخ: محمد مهدي شمس الدين، علي الكوراني، كاظم الحائري، محمد باقر الحكيم، مرتضى العسكري، محمد مهدي الآصفي، وغيرهم. وفي المقابل فقد قام »الإخوان المسلمون« السوريون بدعم الرموز الشيعية الحركية الأولى، وعلى رأسها نواّب صفوي، قائد »فدائيان إسلام» (الذي تأثر به الخميني كثيراً)، وتشاركوا معه في أول نسخة للعمل من أجل الوحدة وهي »المجلس الإسلامي العام«.
مع انتصار الثورة الإسلامية في إيران في العام 1979 استشعر المسلمون عموماً،
والإسلاميون على وجه الخصوص، أهمية هذا المشروع، إذ ظنوا أنهم باتوا جبهة واحدة
بوجه »الاستكبار العالمي«. في تلك الفترة عمّت المظاهرات المؤيدة للثورة الإسلامية
عدداً من العواصم العربية والإسلامية، وشهدت مصر، مهد الحركة الإسلامية الحديثة،
تأييداً كبيراً لقائد الثورة آية الله الخميني. وحظيت الثورة الإيرانية بتأييد
نظيرتها الفلسطينية، وقام ياسر عرفات بزيارة إيران، التي »اهتدته« سفارة الولايات
المتحدة الأميركية ليكون مقراً لمنظمة التحرير، وقد سادت مشاعر من الوحدة غير
مسبوقة حينها، لاسيما أن سنّة إيران (نحو ربع السكان وهم خليط من العرب والأكراد
والتركمان والبلوش) كانوا شركاء في انتصار الثورة.
لم يمض وقت طويل على هذه الحال حتى بدأ الفراق. وجد السنّة أن شعار »الإسلامية لا
المذهبية« الذي رفعته الثورة في الأيام الأولى لانتصارها لم يتطابق مع الواقع. وأن
الخميني يتبنى الطروحات المذهبية نفسها، مضافاً إليها روحاً »شعوبية« تحاول السيطرة
على العالم الإسلامي، عبر نشر التشيع واجتذاب الشيعة العرب إلى المرجعية في إيران.
ثم جاءت أحداث الحرم (1979)، التي قام بها جهيمان العتيبي ومحمد بن عبد الله
القحطاني، وبعض المؤيدين الذين اعتبروا القحطاني المهدي المنتظر، وازداد هجوم
الخميني على دول الخليج، وأعقب ذلك تحالفات استراتيجية قام بها الخميني مع عدد من
الدول أثارت الجدل، إلى أن وقعت الحرب العراقية ـ الإيرانية، وما صاحبها من صفقات
السلاح التي عقدتها الثورة الإسلامية في إيران مع »إسرائيل« والولايات المتحدة
الأميركية. وزاد الطين بلة تأييد الثورة الإسلامية في إيران بطش نظام البعث في
سوريا بـ«الإخوان المسلمين« رغم كل التعاطف الذي أبدوه مع الثورة الى حين انتصارها.
في المقابل ترى وجهة نظر الشيعة المدافعين عن الجمهورية الإسلامية الإيرانية أنها
لم تكد تلتقط أنفاس النصر حتى بدأت الحرب عليها من الولايات المتحدة الأميركية
والأنظمة التي تسير في فلكها في المنطقة، ولاسيما المملكة العربية السعودية، ثم جاء
»توريط« إيران في حرب طويلة مع العراق وقف فيها السنّة العرب إلى جانب العراق
باعتباره »المدافع عن البوابة الشرقية للعالم العربي»، وأن التحريض المذهبي عليها
استمر حتى بعد انتهاء الحرب مع العراق، ما جعلها مضطرة للتعامل بهذه »البراغماتية«،
والتي تمثلت ذروتها إبان غزو أفغانستان(2001) والعراق (2003)، علماً »أن ما فعلته
إيران هو الاستفادة من النتائج فقط، أما الغزو فكان سيتم سواء عارضت إيران أم
وافقت«.
في نظرة مقارنة، عما كان عليه »مشروع الوحدة لإسلامية« قبل ثلاثين سنة وما بين
الواقع اليوم، يبدو الانحدار واضحاً، إذ بات أبرز الذين حملوا هذا المشروع وعملوا
من أجله، في مواقع متقابلة، وأحياناً متقاتلة بالسلاح (نموذج العراق).
ويوافق أحد رموز »مشروع الوحدة«، العاملين له إلى اليوم، وهو من المسلمين الشيعة، على واقع الانحدار الذي سلك فيه هذا المشروع، ولكنه يرد الأسباب إلى السياسة والدور الغربي، ويرى »أن الأمة لو اجتمعت على مشروع مواجهة ضد الغرب، فستختفي الخلافات المذهبية أو تنزل إلى أدنى مستوى«. في المقابل ثمة وجهة نظر سنية معاكسة ترى أن »التنابذ المذهبي أساس قائم، وهو الخلفية الحقيقية للصراعات، وأن للسياسة دوراً في تظهير حدة هذه الصراعات أو التخفيف منها«، ويتفق الطرفان ـ المعتبران في »مشروع الوحدة» في لبنان، واللذان رفضا ذكر اسميهما ـ على أن »مشروع الوحدة»، وبعد هذا الحصاد الطويل، »لم يكن إلا حلماً جميلاً لا سبيل الى تحقيقه، وأن قصارى الآمال اليوم لدى العاملين للوحدة أن لا يحدث اشتباك جراء هذا الخلاف العميق الجذور«، ذلك أن ما نشهده اليوم يؤسس لمستقبل مظلم، حتى على فرض انتصار »الإسلام الحركي«، إذ لا يبدو الإسلاميون السنة والشيعة قادرين على تنظيم خلافاتهم، فتراهم متقاتلين، حتى ولو جمعهم عدو واحد (مثال »الجهاديين السنة« و«الملالي الشيعة في إيران«؛ كلاهما يرفع شعار العداء للغرب، وهما أشد الخصام والاحتراب). كما يتفقان على أن معظم المؤسسات التي ظهرت من أجل الوحدة، كانت نماذج سيئة ولم تؤد الغرض (تجمع العلماء المسلمين في لبنان مثلاً).
وتتوافق هذه النظرة مع ما أقر به أخيراً كبار الذين نظّروا للوحدة الإسلامية، فالعلامة يوسف القرضاوي، قال أخيراً في معرض تبريره فشل الوحدة: »إن الإيرانيين مصممون على بلوغ غاية رسموا لها الخطط، ورصدوا لها الأموال، وأعدوا لها الرجال، وانشأوا لها المؤسسات، ولهذا كان لا بد أن أدق ناقوس الخطر«. أما العلامة محمد حسين فضل الله فقد اعتبر منذ مدة أن »الوحدة لم تكن حالة فكرية روحية عميقة، بل كانت حالة انفعالية عاطفية سريعة»، وأكثر من ذلك فقد اعتبر في مكاشافاته الأخيرة أن مؤتمرات التقريب والوحدة عبارة عن »لقاءات للتكاذب». بينما اعتبر الشيخ علي الكوراني (من علماء الشيعة الكبار) في كتابه »الوحدة الإسلامية من وجهة نظر آل البيت»، أن وحدة الأمة لم تتحق يوماً بعد وفاة رسول الله (ص)، وأن الخلافة الإسلامية في عهودها المختلفة قامت على أساس وحدة قهرية من فريق لآخر، وأن المشروع المنطقي الوحيد هو »الوحدة السياسية مع حفظ الحريات الإقليمية والمذهبية، بحيث يصبح العالم الإسلامي أقرب إلى الاتحاد الأروبي، مع بقاء الخصوصيات المذهبية والسياسية والعرقية«.
وكان نقاش في هذا الموضوع قد فتح في لبنان بعيداً عن الأضواء، بين عدد من رموز الحركة الإسلامية من السنة والشيعة،على خلفية سلسلة المواقف الأخيرة للعلامة الدكتور يوسف القرضاوي، والتي اتهم فيها إيران »بالعمل على نشر التشيع في المجتمعات السنية الخالصة، والسعي إلى توظيف الدين والمذهب لتحقيق أهداف التوسع ومد مناطق النفوذ، حيث تصبح الأقليات التي تأسَّست عبر السنين أذرعاً وقواعد إيرانية فاعلة لتوتير العلاقات بين العرب وإيران، وصالحة لخدمة استراتيجية التوسع القومي لإيران«. وقد أعقبت هذا الكلام حرب قاسية على الانترنت، هوجمت خلالها مئات المواقع المصنفة سنية أو شيعية، من كل فريق تجاه الآخر، وقد شملت الهجمات أيضاً موقع العربية نت، حيث ظهرت عليه عبارة: »تحذير هام؛ إن استمرت الاختراقات على المواقع الشيعية من بعد هذا، فلن يسلم أي موقع من مواقعكم وشبكاتكم»، وذلك رداً على عملية اختراق مواقع شيعية. كما كتبت وبثت مئات المقالات والتحليلات حول الموضوع، وصلت إلى »الغارديان» و»النيوزويك» وغيرهما.
مواقف القرضاوي أثارت استياء كثيراً في الأوساط الشيعية، ورد بعضهم على القرضاوي بتفاوت في الأسلوب وحدّته، فمثلاً دعا وكيل المرجعيات الشيعية في الكويت محمد باقر المهري إلى »خلع عمامة القرضاوي الدينية ومنعه من الظهور إعلامياً لأنه يسيء إلى جميع السنة وعلمائهم الشرفاء ويفرق جماعة المسلمين ويخدم الصهاينة وأعداء الاسلام»، بينما جاء رد السيد محمد حسين فضل الله أقل حدة، بحيث اكتفى بتذكير القرضاوي بـ»الخطر الإسرائيلي»، وبسؤاله عن موقفه من »التبشير المسيحي».
بدوره شعر »حزب الله« بخطورة مواقف القرضاوي، الذي عاد وأكدها أكثر من مرة، لكن على الرغم من شعور قيادة »حزب الله« أن مواقف القرضاوي قد »تشعل فتناً وتؤجج صراعات في العالم الإسلامي كله« فضلاً عن أنها تضر بسمعة »حزب الله« لدى جمهور السنة العرب، لا سيما بعد استشهاد القرضاوي بما حصل في السابع من أيار في بيروت، إلا أن قيادة الحزب حظرت على مسؤوليها التداول الإعلامي بكلام القرضاوي، »منعاً للفتنة«، وفضّلت التواصل مع القرضاوي وقيادة »الإخوان المسلمين« لـ »لملمة الموضوع«، إلى أن كانت مناسبة انعقاد المؤتمر السنوي السادس لمؤسسة القدس الدولية في الدوحة برئاسة القرضاوي، والذي اختتم أعماله يوم الإثنين الماضي، مناسبة ليتحرك وفد »حزب الله« في المؤتمر برئاسة عضو مكتبه السياسي حسن حدرج، »لتهدئة خواطر الشيخ«. وقد اتسم الحوار الذي حضره الأمين العام لـ »الجماعة الإسلامية» في لبنان الشيخ فيصل مولوي، وزعيم حركة النهضة التونسية الشيخ راشد الغنوشي، بالصراحة، ولم يخل من العتاب المتبادل، وتهديد الشيخ القرضاوي بالانسحاب من مؤتمرات التقريب بين المذاهب »إذا لم تتراجع إيران عن مشروعها«، لكن النتائج كانت إيجابية على ما رشح من المجتمعين.
تزامن ذلك مع موقف إيراني إيجابي، نقله الى القرضاوي وفد إيراني رفيع، ضم مستشار المرشد الأعلى للثورة علي أكبر ولايتي، ووزير الداخلية السابق علي أكبر محتشمي، والمستشار الثقافي في الخارجية الإيرانية عباس خامة، والسفير الإيراني في الدوحة محمد طاهر. وقد نقل محتشمي عن المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية آية الله علي خامنئي، رفضه »التطاول على الصحابة وأمهات المؤمنين« وإعلان تبرؤ النظام في إيران من »التهجم الذي صدر بحق القرضاوي على وكالة الأنباء الإيرانية مهر«. وقد بدا واضحاً الحرص الإيراني على استيعاب كلام القرضاوي، لا سيما قبل جلسة استثنائية لمجلس أمناء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين في قطر، وتحولّها مناسبة للتضامن مع العلاّمة القرضاوي، بحضور ثلة من المرجعيات الدينية على مستوى العالم، من بينها: الشيخ فيصل مولوي (لبنان)، الشيخ محمد علي التسخيري (إيران)، الدكتور عصام البشير(السودان)، المفكر الدكتور محمد سليم العوا (مصر)، الشيخ عبدالله بن بيه(موريتانيا)، وآخرون.
لا شك أن »مشروع الوحدة الإسلامية« قد انتهى أو يكاد، هذا ما أقر به دعاته السابقون، ـ مع اختلافهم حول الأسباب ـ، وهذا ما تشهد به الوقائع، لكن أن يتبين بالتجربة أن الوحدة مجرد حلم، فإن ذلك لا يعني التصادم والتقاتل، لأن ذلك ليس من روح الإسلام في شيء، وتنظيم الخلاف واجب ديني بين المسلمين وغير المسلمين، وهو من باب أولى واجب بين المسلمين أنفسهم.