الحزب المستحيل ... وفقه الاصطياد (17)

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

يقدم حزب الإخوان المسلمين نفسه إلى الناس تقديماً جيداً ، يعبّر عن غايته العامة من قيامه ؛ في صيغة شاملة ولغة واضحة ؛ تضمنتها مقدمة الباب الأول التي جاءت في حوالي ثماني سطور ، كافية ومستغنية عما جاء بعدها في ثلاثة فصول أثارت لغطاً كبيراً ، وأتاحت لفقهاء الاصطياد فرصة التصايح والتقافز والصراخ ، ومخاطبة العالم بأن الحزب يدعو إلى قيام دولة دينية ، وذلك بالتركيز على ما اقترحه البرنامج ، من وجود هيئة استشارية لعلماء المسلمين ، يرجع إليها في القضايا الدستورية والقانونية لمعرفة مدى مطابقتها أو اتفاقها مع الشريعة الإسلامية ، المصدر الرئيسي للتشريع .

أسجل هنا المقدمة بكاملها ليرى القارئ مدى توفيق البرنامج المقترح في تصوره للدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية ، وإن كانت هناك بعض الملاحظات عليها . تقول المقدمة :

[ نتقدم ببرنامجنا هذا لتحقيق نهضة شاملة في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية طبقاً للشرعية الدستورية ، واحتراماً لكافة الأعراف والمواثيق والمعاهدات الدولية ، وكافة الاتفاقات التي تدعو إلى التعاون بين الشعوب ، وتحقيق العدل والمساواة ، والسعي إلى خير البشرية ، وذلك بحشد كل طاقات وخبرات الوطن ، دونما إقصاء ، لأي فئة أو فصيل في نظام يقوم على حماية البيئة ، ويتناغم مع الطبيعة ، ويحدّ من النزعة الاستهلاكية واستنزاف الموارد ، وينتهج التعامل الرشيد مع الثروات الوطنية والمصادر الطبيعية ، مرتكزاً على الشريعة الإسلامية – بتاريخها وتطبيقاتها – التي تمثل واحدة من أهم المدارس في الفقه السياسي والدستوري ، والتي تدرس في مختلف أنحاء العالم . وهى تمثل اختيارنا للمنهج الإسلامي كنظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعاً ، وأنه كل لا يتجزأ ، وهذا ما ندعو إليه المسلم وغير المسلم ] ص 9 .

تحقيق نهضة شاملة هو النقطة الأساسية في البرنامج المقترح لحزب الإخوان المسلمين ، وهذه النهضة الشاملة ، أو هذا الحلم بالنهضة الشاملة ، مشترك قومي لا يختلف عليه أحد من فرقاء الوطن ، باستثناء الفريق الفاسد ، أو الفريق المستبد الذي يخشى على مصالحه الخاصة ومنافعه الذاتية حيث يترك الوضع على ما هو عليه حرصاً على المنافع والمصالح ، ولو أدى الأمر إلى إبقاء مصر في مؤخرة الأمم جميعاً .

النهضة الشاملة طبقاً للشرعية الدستورية ، واحتراماً للأعراف والمواثيق ... الشرعية الدستورية القائمة تدور حولها وجهات نظر ، لأنها لم تتحقق وفقاً لاختيارات الشعب الخالصة ، وقد سبقت الإشارة إلى ضرورة وجود عقد اجتماعي يتوافق عليه فرقاء الوطن بهدوء وسلاسة واحترام كامل لحرية المواطن وكرامته وإنسانيته وحقه في المشاركة الوطنية والعمل الاجتماعي وبالتالي فإن إقصاء فريق أو آخر ، يُمثل خيانة للشرعية الدستورية ، وارتكاسا في حمأة الاستبداد والفساد معاً !  وهو سمة النظام القائم الذي يتدثر بعباءة الدستورية الشرعية دون أن يفقه مضمونها ، أو هو يفقهه ويتجاهله ، ويؤثر التلويح بالعصا الغليظة ليسير الناس وراءه مثل القطيع بلا حقوق ، ولا عدل ، ولا كرامة !

إن غايات البرنامج في تحقيق النهضة الشاملة ، من خلال تصوّره لحماية البيئة والموارد والتعامل الرشيد مع الثروات والمصادر الطبيعية ارتكازاً على الشريعة بمعطياتها وتراثها المتنوع ، يمثل أمراً طبيعياً في مجتمع مسلم ، يفترض أنه يدين بالعقيدة الإسلامية ويؤمن بحضارتها وثقافتها ، ويسعى إلى التطوّر وفقاً لقيمها وأخلاقها ..

ومن ثمّ ، فإن تعليل هذا الارتكاز أو ذاك الاختيار للشريعة الإسلامية ، وحصره في جماعة أو حزب الإخوان المسلمين ، يبدو نوعاً من الاعتذار عن الإسلام لا مسوّغ له ..

إن القول بأن الشريعة الإسلامية تمثل واحدة من أهم المدارس في الفقه السياسي والدستوري ، يتم تدريسها في مختلف أنحاء العالم ، من أجل أن ترضى الأقلية السياسية والثقافية والطائفية ، أمر لا داعي له ، ولا موجب ، مثلما هو القول بأن الشريعة تمثل " اختيارنا للمنهج الإسلامي " نظاماً شاملاً يتناول مظاهر الحياة جميعاً ..

إن اختيار الشريعة الإسلامية هو اختيار الأمة ، واختيار الأغلبية الساحقة التي تؤمن بالإسلام عقيدة ، والأقلية التي تعيشه ثقافة وحضارة . وكنت أتمنى أن ينص البرنامج في هذه النقطة بالذات على أن اختيار الشريعة أو المنهج الإسلامي اختيار الأمة كلها ينزل عليه البرنامج ويرتضيه حرصاً على مصالح الناس جميعاً ، وتحقيق العدل والمساواة والكرامة الإنسانية بينهم .

صحيح أن النخب السياسية والثقافية والطائفية ، استطاعت عبر هيمنتها الاستبدادية أن تشيع جوّاً من الغموض والضبابية والشك حول صلاحية الإسلام ، لإعمار الحياة وإسعاد البشر ، وقادت البلاد إلى درك التخلف والفساد والديون الباهظة ، فضلاً عن الاستبداد الغشوم الذي أورث التمييز والبؤس والتعاسة ، ولكن هذه النخب في كل الأحوال تمثل أقلية محدودة ، لا قيمة لها أمام الإرادة الشعبية الغلاّبة ، واختيارها الفطري والإنساني للإسلام .

لقد ربطت النخب الفاسدة بين الإسلام والعنف والظلم والدم والوحشية ، مثلما فعلت وتفعل الثقافة الغربية الاستعمارية التي ينتمون إليها واقعياً ، أو ينتمون إلى الجانب المظلم والسلبي منها ، بمعنى أدق ، ثم حرصوا على الإلحاح على استزراع نظريات ومذاهب غربية غايتها الأولى سحق الإسلام وشطبه من الوجود ، وعلى سبيل المثال فكثيرا ما تحدثوا عن العلمانية بوصفها المنقذ من الضلال ، وزعموا أنها تفصل بين الدين والسياسة حتى لا يختلط المقدس بالمدنس ، وتناسوا أن السياسة بمعناها الإسلامي هي "علم تدبير المنزل " وفقا لتعريف ابن سينا ، أي إقامة البنيان الحضاري الظافر للأمة ،  وليست مجرد الصراعات على المناصب والمغانم كما نرى لدي الأنظمة المستبدة ، ثم أية علمانية هذه التي يريدون توظيفها في مجتمعنا الإسلامي ؟ هل هي العلمانية التي تحوّل سياسيا يقول : " إن شاء الله " إلى المحكمة ؟ أو تضع رئيس وزراء مسلم في موقف حرج بعد أن نسي وسمى عيد الفطر المبارك بعيد رمضان ، ولم يسمه عيد الحلوى وفقا لتسمية العلمانيين ، فاتهموه بأنه يقسم المجتمع بهذه التسمية بين علمانيين وإسلاميين ؟ السياسي المقصود هو رجب الطيب أردوغان رئيس وزراء تركيا .. إنها علمانية حذف الإسلام وحده من خرائط الأديان والمعتقدات للأسف الشديد !

 هذا لا يدفع المسلمين ، فضلاً عن الإخوان المسلمين ، للاعتذار عن الإسلام والانتماء لشريعته وفقهه السياسي والدستوري بأنه يدرس في مختلف أنحاء العالم ، وأنه اختيار الحزب وليس الأمة ، وتحت أي ظرف من الظروف يجب الفخر بأن الأمة تتنمي إلى الإسلام عقيدة وشريعة دينا ودنيا ، سياسة واقتصادا ؛ فكرا وثقافة ، علما وعملا  .

النخب الفاسدة طارئة وزائلة ، أما الأمة فهي باقية ما بقى الإسلام يضيء حاضرها ، ويبنى غدها ، ويعيد مجدها .