الحزب المستحيل .. وفقه الاصطياد 14
الحزب المستحيل .. وفقه الاصطياد
(14)
أ.د. حلمي محمد القاعود
عند كتابة هذه السطور كان التلفزيون يعلن أن شرطة العدو الصهيوني في القدس المحتلة أوصت بإحالة رئيس الوزراء " إيهود أولمرت " إلى القضاء بتهمتي الفساد والرشوة . كان المذكور قد تعرّض لسبع جلسات استجواب من الشرطة في تحقيقات استمرت شهوراً ، تقبلها مثله مثل أي واحد من الغزاة الذين يشاركونه احتلال فلسطين وإذلال العرب والمسلمين . وحين عرف أن مصيره هو الذهاب إلى المحكمة ، استبق الأمور وأعلن استقالته من رئاسة الحزب الحاكم ، أو عدم الترشح لرئاسته في انتخابات تجرى بعد أسابيع أي إنه سيترك الحكم امتثالاً لقرار الاتهام ، قبل أن يفصل القضاء ببراءته أو إدانته !
على الجانب الآخر ، في بلادنا العربية فالأمر مختلف ، حيث يستحيل تقديم حاكم أو مسئول ، ولو كان بدرجة وزير إلى التحقيق فضلا عن المحاكمة .. قد يتم ذلك بعد تنحية الحاكم عنوة أو إقالة المسئول قهراً ، وفى هذه الحال فإن النتيجة معروفة سلفاً ، لأن المحاكمة ليست عادلة ، ويعلم الناس جميعاً أنها : تصفية حسابات ، وتأديب وتهذيب قبل ذلك ، وانتقام القوى من الضعيف لأسباب مجهولة للشعب ! ثم إن مهمة الشرطة في بلادنا العربية السعيدة مختلفة تماماً عن مهمة الشرطة الصهيونية ، فهي ليست لحماية المجتمع بقدر ماهى لحماية النظام وترويع المجتمع .
عندما سمعت خبر التوصية بإحالة السفاح أولمرت ، كنت أراجع الفصل الأول من الباب الثاني، " الدولة والنظام السياسي " ، من برنامج الحزب المقترح للإخوان المسلمين ، فاكتشفت أن البرنامج نسى أن يضع تصوراً لنظام الدولة وصورتها ، بل إنه أقر النظام أو الهيكل القائم ، وانطلق منه ، وأسس عليه ، وهذا النظام أو الهيكل القائم لا يتناسب مع طبيعة شعبنا ، ولا يجدي في وجوده محاسبة مسئول ، أو تحقيق استقلال السلطات الثلاث ، وتعاونها ، أو بناء تشريعات مثمرة ومفيدة للشعب .
لقد قام نظام الدولة في مصر على نمط نظام الدولة الفرنسية ، مع فروق هائلة ، إنه نظام رئاسي لمدة ست سنوات ، ورئيس وزراء يرأس مجلس الوزراء . الفارق أن الرئيس ورئيس الوزراء في فرنسا يأتيان بالانتخاب الحرّ المباشر ، ورئيس الوزراء يمثل الحزب الحاصل على أغلبية الأصوات في انتخابات دورية شفافة ويحق لرئيس الجمهورية الفرنسية أن يرشح نفسه لمدة واحدة أخرى لا تتكرر إلا بعد مجيء رئيس بعده . أما عندنا فالأمر مختلف . الرئيس يأتي في انتخابات لا يشرف عليها القضاء إلا بصورة خارجية ، ويتم تزويرها علناً ، ويعين الرئيس رئيس الوزراء والوزراء ويقيلهم دون إبداء أسباب .. ولا يملك رئيس الوزراء صلاحيات حقيقية ، فالصلاحيات الرئيسية في يد رئيس الجمهورية ، لدرجة أن صارت عبارة : " بناء على توجيهات السيد الرئيس " لازمة يرددها رئيس الوزراء والوزراء دون أن يجدوا فيها ما يزرى بمهامهم ودورهم الأساسي . إنهم موظفون وكفى !
ثم إن نظام المجالس النيابية والمحلية يمثل نقطة ضعف خطيرة ، تحول دون المشاركة الحقيقية للشعب في تسيير حركة الدولة ، واتخاذ القرارات الصائبة المفيدة لجموع الناس ، فهذه المجالس تأتى نتيجة انتخابات صورية وفقا لآليات قاصرة ، تلعب فيها الجهات الأمنية الدور الأكبر في تقديم أعوان الحاكم إلى هذه المجالس ، وخاصة بعد إلغاء الإشراف القضائي المباشر على صناديق الانتخابات .. صحيح أن القضاء في الديمقراطيات العريقة لا يشرف على الصناديق ، لأن التوافق الاجتماعي في هذه الديمقراطيات استقر على تداول السلطة ، والرضا بنتائج الانتخابات أيا كانت ، فضلاً عن كون الأجهزة الأمنية هناك قومية لا تنحاز إلى هذا الحزب أو ذاك أو هذه الجهة أو تلك.
كنت أتمنى أن يتحدث برنامج الحزب المقترح للإخوان المسلمين عن ضرورة قيام نظام برلماني دستوري ، يكون الرئيس فيه رمزاً دستورياً يحكم لمدة أربع سنوات يمكن أن تكرر مرة واحدة فقط ، ومجلس نواب حقيقي ، وتكون السلطة الفعلية في يد رئيس الحكومة المنتخب ووزراؤه في انتخابات حرة نزيهة تتنافس فيها الأحزاب الحقيقية التي ينشئها الشعب وليس لجنة شئون الأحزاب في مجلس الشورى ، أو بمعنى أدق الحزب الوطني الديمقراطي (!). ويمكن محاسبة رئيس الوزراء والوزراء وهم في السلطة بقانون واضح صريح .
الانتخابات الحقيقية الحرة النزيهة لا تتحقق إلا إذا تحوّلت الأجهزة الأمنية ، وخاصة الشرطة إلى أجهزة قومية محايدة ، لا تعمل لحساب الحاكم القائم أو الحكومة القائمة ، وتعلم أن تنفيذ الدستور والقانون هو مهمتها الأساسية بغض النظر عمن يحكم أو يعارض ، في سياق يجعل المواطنين سواسية لا تمييز بينهم ، فلا هذا ابن البطة البيضاء ، ولا ذاك ابن البطة العرجاء ..
لقد بدا لي أن برنامج الحزب المستحيل ، يصوغ نظام الدولة ردّ فعل للحملات المسعورة التي شنّها مثقفو السلطة ضد الإسلام من خلال قناع الإخوان المسلمين والجماعات الإسلامية ، حيث اتهموهم برفض الآخر ، وتمييزهم بين الناس ، وأنهم يطمحون إلى بناء دولة دينية يقودها من يسمونهم رجال الدين وهم يقصدون علماء الدين لأن الإسلام لا يوجد فيه رجال الدين بالمعنى الكهنوتي .
ولعل هذا كان وراء إلحاح البرنامج على مصطلح " المواطنة " بمعنى المساواة ، وهو مصطلح صيغ خصيصاً لتغيير هوية الدولة الإسلامية ، وتم تغيير الدستور من أجل محاصرة المادة الثانية من الدستور بذكر المواطنة في المادة الأولى ، بل ألحوا عليها في أكثر من مادة ، وكأن الإسلام ضد المواطنة وضد المساواة وضد العدل بين بني البشر أيا كانت معتقداتهم وأعراقهم ومذاهبهم .. لأول مرة أرى دستوراً في العالم يتغير من أجل أقلية علمانية وطائفية محدودة ، على حساب الأغلبية الساحقة فيما يشبه الاعتذار عن دين هذه الأغلبية وثقافتها وعروبتها .
ثم إن الإلحاح على مدنية الدولة يصب في الاتجاه ذاته المعادى لإسلامية الدولة ، علماً أن الإسلام هو أول من أقام دولة مدنية في العالم ، لا تحكمها قبضة الجلاد ولا السيّاف ولا الكهنوت ، وكان على البرنامج أن يؤكد أنه ضد الدولة البوليسية وضد الدولة الفاشية بكل مسمياتها ، انطلاقاً من حق الناس في الكرامة والمشاركة والحرية ..
إن دولة المواطنة ودولة المدنية ودولة الحرية ، هي دولة الإسلام بامتياز، وكنت أتمنى أن يؤكد على أن الوكيل عن الأمة الذي ينفذ إرادتها هو المؤسسات التشريعية والقضائية والتنفيذية ، وما المسئول عن هذه المؤسسات إلا منفذ لما تتوصل إليه هذه المؤسسات . فمثلاً قرار الحرب لا يتخذه رئيس الدولة أو رئيس الوزراء بنفسه ، ومن ثم ؛ فإنه لا يساءل عن استيفاء الجانب الشرعي في قيام الحرب ، فالذي يعنيه قرار الحرب الآن ، مسئولية جماعية تفرضها طبيعة الحرب وظروف العصر ، لأنها ليست بالبساطة التي كانت تشتعل فيها الحروب قبل العصر الحديث . إن التعقيدات السياسية والتسليحية والاقتصادية والدولية واللوجيستية وقوة العدوّ ، تفرض على ما يسمى " مجلس الأمن القومي " أو مؤسسة القيادة الإستراتيجية للدولة أن تتخذ قرار الحرب وفقا لمعادلات صعبة في مقدمتها مصلحة الدولة وقدرتها على خوض القتال في ظل المبدأ الشرعي المعروف : الدفاع عن النفس أو تحرير الأرض أو صدّ الخطر المحتمل ، أيا كان نوع هذا الخطر .
حاشية :
1 – قرر رئيس الوزراء دفع خمسة آلاف جنيه تعويضا لأسرة كل شهيد تحت صخور الدويقة .. يبدو أن الرجل لا يعلم أن ثمن العجل الشمباري عشرة آلاف ، أي إن الشهيد يساوي نصف عجل ..متى يرحل الرجل الذي يصف مصر بالعلمانية ؟ يبدو أنه لم يسمع أنها بوليسية فاشية منذ نصف قرن أو يزيد ! رحم الله شهداء الدويقة !
2 – تجار المسلسلات لم يكتفوا بما فعلوه في العام الماضي لتلويث صورة رجل الأعمال الحقيقي ( عثمان أحمد عثمان) وسرقة مذكراته عيني عينك.. فصنعوا جزءا ثانيا هذا العام باسم الدالي لتشويه ما تبقى منه ، في إطار خرافي غير منطقي . العتاب لنور الشريف الذي يذكر له الناس عمر بن عيد العزيز وهارون لرشيد وعبد الغفور البرعي...