وضوح السيد الرئيس
يتميز الرئيس الفلسطيني محمود عباس بوضوحه الشديد، فهو ينطلق من قناعات وأفكار ثابتة آمن بها، وراهن عليها وربط مصيره السياسي ومستقبل وطنه بها. إنه لا يجامل أحدا بشأنها، ولو أدى ذلك إلى تدنٍ في مستوى شعبيته، ولا يلقي بالا لما يعرف بالرأي العام واتجاهاته، إذا جاءت مخالفة أفكاره، وأقولها بوضوحٍ لا يقل عن وضوح الرئيس أن وضوحه هذا ما يعجبني فيه. ويغيظني من يعارض الرئيس أبو مازن، مطلقاً عليه أبشع النعوت، ويتهمه في وطنيته، مستعيناً بعبارات التخوين والتشكيك، ولا أظنه أسلوباً مناسباً وصحيحاً في المعارضة، لا من حيث الأخلاق الثورية، ولا من زاوية الحس الوطني، أو تقدير الموقف السياسي. وإذا كان من يطلقها مقتنعا بها حقاً، ولا يستخدمها فقط شكلاً من الدعاية الرخيصة، فإنها تستوجب منه برنامجاً مختلفاً في التعامل، كأن يقاطعه، أو يضعه في مرتبة الأعداء، ويصبح جزءاً من تناقضه الرئيسي، وما يستتبع ذلك من الانجرار إلى معارك نحسبها جانبية، ولا أظن أن عاقلاً ووطنياً غيوراً على الساحة الفلسطينية يفكّر بهذه الطريقة.
ولا يعجبني من يحاول أن يُنطق الرئيس محمود عباس بما لا يود قوله، ويلبسه ثوباً غير ثوبه، مطلقاً عليه من الصفات الجيفارية ما لا يودها، ويجعله قائداً للمقاومة الآتية، أو مجدداً لثورةٍ، يعتقد أبو مازن أن أساليبها استهلكت، ولم يبق لها مكان في الوضع الفلسطيني الراهن، بل إن نبيل عمرو، وهو قيادي فلسطيني كان مقرباً من الرئيس، استهجن ورود عبارات حادة في خطابه في الأمم المتحدة، معتبرا أنها بعيدة عن نهجه المعتاد.
أعلن الرئيس محمود عباس، مراراً وتكراراً، أنه لا يريد انتفاضة جديدة، ووصف الانتفاضة السابقة بأنها كارثة جرّت الويلات على الشعب الفلسطيني. وهو دائم السعي إلى استئناف المفاوضات عبر خارطة الطريق، أو الرباعية الدولية التي تم توسيعها، وربما من خلال المبادرة الفرنسية، وهو جاهز لانتظار الجار الإسرائيلي للعودة إلى هذه الطاولة التي لا غنى عنها بنظره، وإن كانت كل تلويحاته، وتهديداته أحياناً باللجوء إلى المحافل والمحاكم الدولية وإعادة النظر في (تنفيذ) الاتفاقات، وليس في الاتفاقات نفسها مع الكيان الصهيوني، لم تفلح بعد في حمل الأخير على العودة إلى مفاوضاتٍ، إذا بدأت لن تنتهي.
أعلن الرئيس محمود عباس، مراراً، نبذ كل أشكال العنف واللجوء إلى القوة من الصواريخ (العبثية) في غزة إلى الاشتباك مع حواجز العدو ومستوطنيه في الضفة الغربية، وهو يقول ذلك داخل الأطر القيادية وخارجها. وحين سئل في اجتماع للمجلس الاستشاري "وحتي في حالة الدفاع عن النفس؟" أجاب بنعم قوية. وفي اجتماعه، أخيراً، مع اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، ومع القيادات الأمنية التي دعاها إلى السيطرة على الوضع، ومنع التصعيد والانجراف في دائرة العنف، لأنه يخدم الإجراءات الإسرائيلية، داعياً إلى تفويت الفرصة على تل أبيب، وأتبعها بقرار حكومي يمنع الموظفين من المشاركة في الاحتجاجات، تحت طائلة العقوبات الإدارية، في إشارة واضحة إلى عدم رضاه عن كل ما يجري.
ندرك ونتفهم تماماً أن العنف المسلح شأن سياسة اللاعنف أيضاً والحراكات الجماهيرية والعصيان المدني والمقاطعة الشاملة للعدو، كلها وسائل لتحقيق هدف الخلاص من الاحتلال، وما قد يكون مناسباً لمرحلة قد لا يكون ملائماً لمرحلة أخرى. ففي الهند، مثلاً، قاد المهاتما غاندي ثورة لا عنفية ضد الاستعمار البريطاني، أدت إلى استقلال الهند درة التاج الإنجليزي. إذ تبقى أدوات ووسائل التحرر من الاحتلال دوماً خاضعة للمراجعة والتقييم، لاختيار الوسيلة الأنجع.
مشكلتنا مع السيد الرئيس ليست هنا. مشكلتنا أنه يطلب منا عدم اللجوء إلى العنف، من دون تقديم البديل. قد نفهم هذه السياسة وهذا المنهج في ظل أجواء المقاطعة الشاملة للعدو في كل شيء، كما فعل غاندي. وفي ظل العداء الكامل له، والتحريض ضده، وليس التنسيق مع أجهزته، نستوعب ذلك، عندما يتم تحميل الاحتلال مسؤولية احتلاله وجرائمه وملاحقته عليها، عندما يتم بناء المجتمع الفلسطيني على أساس المقاومة الشعبية السلمية بكل الوسائل. وهذا ما لم نلمسه على تتابع حكومات السلطة التي سعت إلى نقل (المواجهة) إلى أروقة المفاوضات، ولم تعد الشعب وتهيئه لأي مواجهة قادمة مع العدو، ولم تقدم لنا بديلا سوى التطبيع والاتفاقات المتعاقبة والمفاوضات الدوارة.
نعرف تماما أن الرئيس محمود عباس من مؤسسي حركة فتح التي أطلقت الثورة الفلسطينية المعاصرة. ونعرف أنه الآن رئيس للسلطة الوطنية ولحركة فتح وللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير. نحترم ماضيه، ونعارض سياساته الراهنة، ويصدر كبر حجم معارضتنا له من حجم القضية التي يتولاها وأهميتها فلسطينياً وعربياً وإنسانياً، ذلك أن أي خلل في هذه السياسة سيجر على شعبنا وأمتنا كارثة أكبر وأعمق من التي تخيّل الرئيس أن الانتفاضة السابقة جلبتها، وتكفي رؤية حجم المستوطنين في الضفة الغربية الذي زاد أضعافاً مضاعفة في ظل مفاوضات السلام، لنكتشف أي كارثة قد جلبتها هذه السياسة علينا.
في ظل هذا الواقع، لا يستطيع الرئيس أن يكون قائداً لانتفاضةٍ قادمة، حتى لو كانت مقتصرة على الحجارة وأشكال الاحتجاج السلمي، أو لمرحلة مختلفة من حيث السياسات المتبعة، وكما يحاول بعضهم أن يروج، لسبب بسيط لا يتعلق بتاريخه النضالي، وإنما لأنها تخالف رؤيته ومنهجه، وببساطةٍ لأنه لا يريدها.
ذكرني الصديق معن البياري في مقاله "أوسلو الملعون المظلوم" (العربي الجديد، 4 أكتوبر 2015) بقول الرئيس محمود عباس، بعد ساعات من توقيع الاتفاق في البيت الأبيض، حين إن الفلسطينيين لن يأخذوا أكثر مما سيعطيهم إياه الإسرائيليون. قد يكون هذا سر إحباط الرئيس وتهديده المتواصل بالاستقالة من مناصبه، إذ اكتشف أنه على الرغم من السياسة التي تبناها، فإن الإسرائيليين لم يعطوه شيئاً، وهو درس ينبغي استخلاصه، وأخذ العبر منه في هبات الشعب الفلسطيني المقبلة، وضمن نهج جديد ورؤية أخرى مختلفة قطعاً عن منهج السيد الرئيس الواضح وضوحاً لا لبس فيه.
وسوم: 637