محمد حسانين هيكل

clip_image002_82a03.jpg

ذلك الرجل الضخم (الأستاذ)، تتلمذ على يديه أضخم رجالات الصحافة، والإعلام فى جميع مناطق الشرق الأوسط، وكان يفخر بلقائه كل من فاز بلقاء معه، حتى من زعماء الدول، وحكامها، وكان مكتبه فى الدور السادس من مؤسسة الأهرام قبلة، يؤمها نجوم السياسة، والإعلام، والاقتصاد، والفن، والأدب، وظل على التزامه بطقوس يومه الأرستقراطية حتى لقى ربه.

وقوده كان فى قراءاته، ومشاهداته، واهتمامه حتى بأدق التفاصيل حوله، لا تخلو ساعة من عمره المديد من أن يثمر فى سمعك حكمة، تعود إلى فيلسوف، أو بيت شعر سائر، أو واقعة تاريخية، تضىء لك طريق الحاضر، لدرجة أن كبار المتخصصين فى شتى فروع المعرفة لا يأنف كثير منهم من أن يسلك نفسه فى سلك تلامذته.

        لا نبعد كثيرا عن الحقيقة حين نشير إلى أن (محاضرة) واحدة، ألقاها فى الجامعة الأمريكية بالقاهرة كانت الشرارة التى أشعلت ثورة يناير 2011م، وأسقط بها شبابنا (مبارك، وأسرته) عن عرش مصر، ولا مانع من ذهابك ـ قارئى العزيز ـ إلى نقيض ذلك أيضا فى شخصية ذلك الرجل ؛ بأن مقابلة، تتم معه فى مكتبه كانت كفيلة برفع مقابله إلى سدة الحكم فى بلاده، بلقاء، أو بمقالة يرفع أقواما، ويخفض آخرين.

        شخصيته (الكاريزمية) تنبع من طرق تفكيره، وطرق نطقه، وطرق (محاضراته)، وأصناف مؤلفاته، وأسس مقالاته الصحفية، ووهج حلقاته التليفزيونية، وعمق علاقاته مع نجوم السياسة، والفكر، والأدب، والفن، والاقتصاد، والصحافة، والإعلام، و …

         لكن ذلك كله يقتضى حتما من كل من يتعامل مع الآخرين بفكر عميق، وبعقل يزن التصرفات، ويقيم الأشخاص، ويفحص الأفكار ـ أن يتساءل (من ذلك الرجل ؟ ما ذلك الرجل ؟ كيف بزغ نجم ذلك الرجل ؟ من أين ظهر ذلك الرجل ؟  متى ظهر ذلك الرجل ؟ لماذا ظهر ؟ ولماذا فى ذلك التوقيت كان بزوغه ؟)

مولود سنة 23 فى حى الحسين بالقاهرة لأب أسيوطى، يعمل فى تجارة الحبوب، كان أمل أهله فيه ككل صبى طامح أن يصير طبيبا، لكن قدراته الذاتية لم تسمح له بسوى إتمام دراسته فى دبلوم التجارة (خدمات)، وبعدها التحق بعدة دورات خاصة فى (القسم الأوروبى) من (الجامعة الأمريكية) بالقاهرة، لكنه لم يكملها؛ فهناك تعرف (سكوتواطسون) ذلك الصحفي المعروف وقتئذ فى الجريدة الأوسع انتشارا (الإيجيبشيان جازيت)، فألحقه بالجريدة في 8 فبراير 1942؛ أى فى أيام (الحرب العالمية الثانية)، صحفيا تحت التمرين فى (قسم المحليات)،  وكان هيكل وقتها في التاسعة عشرة من عمره، وكانت مهمته (جمع أخبار الحوادث)، وما يخص منها (قضايا بنات الليل) بصفة خاصة، وفى هذه الفترة كانت (حكومة الوفد) قد أصدر وزيرها للشئون الاجتماعية (عبد الحميد حقى) قرارا بإلغاء (البغاء الرسمى) فى مصر، وسبب هذا القرار كان إصابة عدد من جنود الحلفاء بالأمراض، انتقلت إليهم من (فتيات الليل)، ومن ثم اتفق الإنجليز وحكومة الوفد على إصدار ذلك القرار، لكن ذلك القرار أثار (الجنود)، كما أثار (فتيات الليل).. كان مشهورا  رأى الجنود، لم تكن الأمراض تعنيهم ، وقد جاءوا إلى الحرب؛ أى إلى الموت، لكن رأى (فتيات الليل) لا يعرفه أحد، وتلك كانت مهمة المحرر الصغير محمد حسنين هيكل.

كان تكليف الجريدة له هو أن يلتقي بـ(فتيات الليل)، ويحصل من كل منهن على صورة شخصية، يلصقها على استمارة الاستفتاء التي وضعتها الجريدة، وطبعت منها خمسمائة نسخة، كان على هيكل أن يملأها منهن، وهو ما نجح فيه بجدارة، وقد حكى ذلك هو شخصيا فى العدد546 من (آخر ساعة)، حيث قال إنه كان يعلم أن نجاحه فى تلك (المهمة) سيكون دليلا على (مقدرته الصحفية)، خصوصا إذا تمكن من استفتاء هؤلاء البغايا مباشرة، وكانت (مهمة شاقة)، ولكن المسألة كانت له (مسألة امتحان)، وقد كاد بقدراته الذاتية أن يفشل فيها، لولا أن ساعدته (المعلمة)؛ أى (صاحبة المقهى) فى (وسط البلد) بأن انتدبت له (عباس) الذى كان سهلا عليه استدعاؤهن من البيوت، فأتم مهمته بنجاح.

كافأته الجريدة بانتدابه لتغطية الحرب فى منطقة (العلمين)، ثم ساعده قائد الكتيبة فى تعريفه بالسيدة (فاطمة  يوسف)؛ صاحبة (مجلة روزاليوسف)؛ ليصير محررا فيها، وهناك تتلمذ على (محمد التابعى) الذى نقله إلى (آخر ساعة)، وفيها لمع اسمه بسبب كتابته عن (خط الصعيد)، وعن (انتشار الكوليرا)، وعن (قرية القرين)، وكان آنئذ الشقيقان مصطفى أمين، وعلى أمين قد اشتريا (آخر ساعة)، فأصدرا قرارا بنقله إلى (أخبار اليوم)، وفيها كتب (المحرر) هيكل عن (حرب فلسطين)، وعن (انقلابات سوريا)، وعن (ثورة مصدق) فى إيران، وعن (صراعات الويسكى) فى تركيا، وعن (اغتيال الملك عبد الله) فى القدس، وعن (اغتيال رياض الصلح) فى عمان، وعن (اغتيال حسنى الزعيم) فى دمشق.

وبعد قيام حركة ضباط الجيش ضد الملك فى 1952 كانت الساحة الإعلامية عامرة بنجومها الكبار؛ محمد التابعى، وفكرى أباظة، وعلى أمين، ومصطفى أمين، و …، لكن عبد الناصر لم يفكر فى أى من هؤلاء؛ ليغقد صفقته معه، استدعاه (عبد الناصر)؛ ليعقد معه صفقة غير مكتوبة؛ بأن يعطيه ناصر دفعة كبرى فى الصحافة، والإعلام إذا استطاع ذلك (المحرر) أن (يبيض وجه) تلك الحركة فى عيون القراء، فاهتبل المحرر الشاب فرصته بنشره عددا من المقالات فى (ذلك الشأن)، ومن ثم منحه ناصر حجما أكبر فى الأهرام) فى سنة1957، وقد انبهر ضباط الجيش بقدراته فى (ذلك الشأن)، فساعدوه ليس فقط فى اعتلائه (مجلس إدارة الأهرام)، وفى إنشائه المراكز المتخصصة فيها، بل أصدروا قرارهم بأن يكلفوا (خريج دبلوم التجارة خدمات) بأن يكون (فى مصر) هو (وزير الثقافة، والإرشاد، والإعلام).

لكن عند أول مقالة، فيها جملة واحدة ضد (فؤاد محى الدين) أقالوه، وأزالوا عنه الأضواء إلى أن اعتلى السادات سدة الحكم، وفوجئ بما سموه آنذاك (مراكز القوى) ضده فوجد السادات فى (هيكل) ضالته؛ ليعينه، فنفث كل منهما فى الآخر قبلة الحياة بروح جديدة، واستمر هيكل وراء السادات إلى أن أعلن هيكل رأيا، لا يروق للسادات فى نتائج حرب أكتوبر، فصدر القرار بمنع النشر له، وظل مستبعدا إلى أن كان اسمه فى قائمة المعتقلين فى سبتمبر 1981 قبيل اغتيال السادات؛ هذا هو (الأستاذ)!

وبعد، فإن استدعاء (نظام ناصر) عددا من (المجاهيل)، ثم (تضخيمهم) إعلاميا مشهور فى مجالات متنوعة فى حياتنا، رأينا (بعضه) (أدبيا) فى مقالتى (اغتصاب منصات الشعر)، ونراه هنا (إعلاميا) فى مقالتى هذى.. ألا لعنة الله على الظالمين.

وسوم: العدد 656