الاقتصاد العراقي يُعاني من سرطان النفط
مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية
لانقصد بالسرطان من حيث التخصص الطبي المتعارف عليه بين المتخصصين وبين افراد المجتمع، بقدر ما نعني به من حيث تشبيه مشكلة الاقتصاد العراقي على اساس اسباب وآثار ذلك المرض، اي تحليل المشاكل التي يعاني منها الاقتصاد العراقي على اساس منهج التعرف على الاسباب والآثار التي يتركها مرض السرطان على حياة الفرد.
وعند دراسة تأريخ الفكر الاقتصادي نلاحظ في زمن الاقتصاديين الفيزوقرط (الطبيعيين) الذين يؤمنون بأن جميع القوانين الاقتصادية هي قوانين نابعة من صميم الحياة الطبيعية، اي ان الاقتصاد يعمل بشكل طبيعي دون اي تدخل، عمله يكون كأي ظاهرة طبيعية في الكون، وان النقود في الاقتصاد هي كالدم في الجسم، وهذا ما يعطي المبرر لتشبيه مشكلة الاقتصاد العراقي -التي سنحددها- بمرض السرطان.
منهج التوصيف
ومن اجل تشخيص مشكلة الاقتصاد العراقي بشكل أكثر دقة بناءً على تحليل وتشخيص اسباب مرض السرطان وآثاره، لابُد من اعطاء لمحة عامة مختصرة عن مرض السرطان، فهو يعني نمو بعض الخلايا في جسم الانسان بشكل غير طبيعي وغير محدد على حساب النمو الطبيعي للخلايا الاخرى، الخلايا التي تنمو بشكل غير طبيعي وغير محدد هي خلايا فاقدة للتوازن التلقائي من حيث الاشباع وعدمه، أي هي فاقدة السيطرة على التحكم في ابواب استقبال الغذاء عند الحاجة والاشباع. وبما انها فاقدة للسيطرة فهي تستوعب غذاءً أكبر من طاقتها الاستيعابية وهذا ما يتسبب في انتفاخها ومن ثم انسداد شرايين نقل الدم وعدم وصول الغذاء الى الخلايا الاخرى التي تلي الخلايا المنتفخة، وهذا ما يتسبب في ضمورها (ضمور الخلايا الاخرى). وهذا ما يُعجل بموت الشخص المصاب بهذا المرض.
تطبيق المنهج
هذا التحليل له مصاديق عديدة في الاقتصاد سواء من حيث النظام الرأسمالي او الاشتراكي اي ان النظام الرأسمالي يحاول التطور والتوسع والانتشار على حساب الانظمة الاخرى وخصوصا الاشتراكي والعكس صحيح، وهذا ما نلاحظه جليا ما بين الدول الصناعية ذات النظام الرأسمالي والدول المتخلفة ذات الانظمة الاشتراكية التي اخذت تتحول تدريجيا نحو النظام الرأسمالي، هذا التحول يعاني الكثير من التحديات التي تقف حائلا دون تحققه بأقل الكلف وبأسرع الاوقات، وهذا ما تسبب بضمور الاقتصادات الاشتراكية وتقدم الاقتصادات الرأسمالية. أما من حيث الافراد اي ان الفرد ذو الفكر الرأسمالي يحاول ان يتقدم ويتطور مالياً على حساب الافراد الآخرين، بصرف النظر عن شرعية آليات انتاج المال. نعم التطور والتقدم شيء ايجابي ولكن يجب ان لا يكون على حساب الآخرين، إذ ان تحققه على حساب الآخرين يؤدي الى ظهور المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية … إلخ، كما يظهر مرض السرطان في جسم الانسان عندما تنمو بعض الخلايا على حساب نمو الاخرى.
ثلاثية النفط في الاقتصاد العراقي
كما وتنطبق اسباب وآثار مرض السرطان على الاقتصاد العراقي من حيث مساهمة الانشطة الاقتصادية في الناتج المحلي الاجمالي، ومدى مساهمة الايرادات النفطية مقارنة بالإيرادات الاخرى، وكذا الحال بالنسبة للصادرات النفطية عند مقارنتها بالصادرات الاخرى. وتجدر الاشارة إلى ان اسباب واثار المرض تصيب الاقتصاد العراقي في حالة ارتفاع اسعار النفط دون انخفاضها، اذ ان ارتفاع اسعار النفط سيعطل مساهمة الانشطة الانتاجية الاخرى، وعدم فعالية الايرادات الاخرى وخصوصاً الضرائب، وانخفاض الصادرات غير النفطية بحكم زيادة الاهتمام بالصادرات النفطية كنتيجة لارتفاع اسعارها وانخفاض تكاليف انتاجها.
مساهمة النفط والقطاعات الاخرى في GDP
ان تكاليف انتاج النفط في العراق هي الاكثر انخفاضاً في العالم، وعند تزامن ارتفاع اسعار النفط مع التكاليف المنخفضة، سيؤدي الى زيادة الإيرادات (الارباح) النفطية التي تحصل عليها الدولة، وهذا ما يشجع على زيادة اجور العاملين في القطاع النفطي من اجل الاستمرار في زيادة الانتاج النفطي والاستمرار في الحصول على الايرادات النفطية، مع بقاء اجور العاملين في القطاعات الانتاجية وخصوصا الزراعة والصناعة التحويلية على حالها.
ان ارتفاع اجور العاملين في القطاع النفطي سيدفع بالعاملين في القطاعات الانتاجية الاخرى للانتقال نحو القطاع النفطي من اجل الحصول على الاجور المرتفعة، والنتيجة انخفاض عرض العمل في القطاعات الانتاجية الاخرى، ومن ثم زيادة الطلب عليه فترتفع اجور العمل وترتفع تكاليف انتاج هذه القطاعات فترتفع اسعار منتجاتها مقابل اسعار السلع الاجنبية المماثلة، وتنخفض قدرتها التنافسية للسلع الاجنبية المماثلة، وبالتالي انخفاض مبيعاتها وانتاجها فتنخفض مساهمتها في الناتج المحلي الاجمالي مقابل ارتفاع مساهمة القطاع النفطي فيه، وارتفاع مساهمة القطاع النفطي في GDP على حساب مساهمة القطاعات فيه هو بمثابة نمو الخلايا بشكل غير طبيعي وغير محدد في جسم الانسان على حساب نمو الخلايا الاخرى.
ففي عام 1990 كانت نسبة مساهمة قطاع التعدين والصناعات الاستخراجية الذي يسيطر عليه القطاع النفطي، 14.29% من GDP، وتشكل نسبة مساهمة القطاع الزراعي 19.80% من GDP، في حين تشكل نسبة مساهمة قطاع الصناعات التحويلية 8.83% من GDP. لكن تلك النسب تغيرت في عام 2014، إذ ارتفعت نسبة مساهمة القطاع النفطي إلى 53.27% من GDP، في حين انخفضت نسبة مساهمة الزراعة إلى 4.75%، كما وانخفضت نسبة مساهمة الصناعة التحويلية الى 3.32% من GDP. هذا التفاوت ما بين نسب المساهمة وخصوصا نسب القطاع النفطي والقطاعات الاخرى يعود لعوامل عديدة وابرزها اسعار النفط التي ارتفعت من 22.26 دولار للبرميل الواحد في عام 1990 إلى 96.2 دولار للبرميل الواحد في عام 2014، هذا ما تسبب في ارتفاع اجور العاملين في القطاع النفطي وانتقال العاملين في القطاعات الاخرى اليه فانخفض عرض العمل في القطاعات الأخرى، وارتفعت اجور العاملين في القطاعات الأخرى، وارتفاع تكاليف الانتاج فيها فترتفع اسعارها وتنخفض مبيعاتها (انخفاض نمو القطاعات الاخرى بفعل نمو القطاع النفطي بشكل غير طبيعي وغير محدد).
الايرادات النفطية والضرائب
ارتفاع اسعار النفط يؤدي الى زيادة الايرادات النفطية على حساب الايرادات الاخرى وخصوصاً الضرائب. ان زيادة الايرادات النفطية تشجع على زيادة النفقات العامة وخصوصا النفقات الجارية – على اثر زيادة التوظيف في القطاع العام دون الالتفات الى عبء هذا التوظيف (العمالة الناقصة)- على حساب النفقات الاستثمارية من ناحية، وزيادة النفقات العامة ذات الطابع الاجتماعي من ناحية اخرى وذلك من اجل كسب الولاءات السياسية للفوز بالمناصب الحكومية على حساب بناء الاقتصاد. إذ ان سهولة الحصول على الايرادات النفطية التي تحصل عليها الحكومة لتمويل النفقات العامة، وفي نفس الوقت عدم وجود القيادة السياسية ذات الارادة الحقيقة والادارة الجادة في بناء اقتصاد متين لا يعتمد على الايرادات الريعية، هو ما ادى الى تقليل الاهتمام بالإيرادات الاخرى وخصوصاً الضرائب.
ففي الوقت الذي تبلغ فيه نسبة الايرادات النفطية 48.40% من الايرادات العامة في عام 1990، تبلغ نسبة مساهمة الايرادات الضريبية 10.77% من الايرادات العامة، ونسبة مساهمة الايرادات الاخرى 40.81% من الايرادات العامة لنفس العام. وعند ارتفاع اسعار النفط ارتفعت الايرادات النفطية (نمو بعض الخلايا بشكل غير محدد) لتبلغ نسبة مساهمتها 83.62% من الايرادات العامة في عام 2015، في حين انخفضت نسبة مساهمة الايرادات الضريبية إلى 5.75% من الايرادات العامة، وكذا الحال بالنسبة للإيرادات الاخرى إذ انخفضت إلى 10.63% من اجمالي الايرادات العامة (ضمور الخلايا الاخرى).
الصادرات النفطية وآلية التأثير على الصادرات الاخرى
ان زيادة اسعار النفط العالمية تشجع على زيادة الاهتمام بالقطاع النفطي لزيادة انتاجه بالشكل الذي يفوق تلبية الطلب المحلي من اجل زيادة الصادرات النفطية والحصول على المزيد من العملة الاجنبية (زيادة عرض العملة الاجنبية) الذي يؤدي الى انخفاض اسعارها (اسعار العملة الاجنبية) مقابل ارتفاع اسعار العملة المحلية أي ارتفاع سعر صرف العملة المحلية وهذا ما يعني ارتفاع اسعار السلع المحلية وعدم قدرتها على منافسة السلع الاجنبية ذات الاسعار المنخفضة عند مقارنتها بأسعار صرف العملة المحلية، وبالتالي عدم قدرة الصناعات المحلية على الاستمرار بالإنتاج والمنافسة في الاسواق المحلية فضلاً عن الاسواق الخارجية، ويحصل (تطور ونمو الصادرات النفطية بشكل غير طبيعي على حساب الصادرات الاخرى). فكانت الصادرات النفطية تشكل 93.02% من الصادرات الكلية في عام 1990 في حين لم تشكل الصادرات الاخرى 6.98% من الصادرات الكلية أما في عام 2014 فقد ارتفعت نسبة مساهمة الصادرات النفطية (التي تشمل النفط الخام، المنتجات النفطية، الفوسفات، الكبريت) إلى 99.24% من الصادرات الكلية، في حين انخفضت نسبة مساهمة الصادرات الاخرى إلى 0.76% من اجمالي الصادرات.
يتضح من التحليل السابق ان الاقتصاد العراقي يعاني من مرض السرطان في حالة ارتفاع اسعار النفط [[ المرض الذي تسبب بارتفاع مساهمة القطاع النفطي- نمو بعض الخلايا – بفعل ارتفاع اسعار النفط المُتسببة بارتفاع اجور العاملين فيه التي شجعت على انتقال العاملين في القطاعات الاخرى اليه وارتفاع اجور العاملين في القطاعات الاخرى بسبب قلة العاملين ضمن هذه القطاعات فانخفضت مساهمتها - ضمور الخلايا الاخرى - في الناتج المحلي الاجمالي هذا من ناحية، ومن ناحية اخرى ان سهولة الحصول على الايرادات النفطية - نمو بعض الخلايا - التي تمول النفقات العامة دفع بالحكومة الى تقليل الضرائب – ضمور الخلايا الاخرى - على المواطنين من جانب، وزيادة التوظيف في القطاع العام من جانب آخر، تمهيداً لكسب الولاءات السياسية والفوز بالانتخابات والاستمرار بالسلطة السياسية.
ومن ناحية ثالثة ان زيادة العملات الاجنبية كنتيجة لزيادة الصادرات النفطية - نمو بعض الخلايا- تؤدي الى ارتفاع سعر الصرف للعملة المحلية وبالتالي ارتفاع اسعار المنتجات المحلية وانخفاض قدرتها التنافسية داخلياً وخارجياً فتنهار الصناعات المحلية- ضمور الخلايا الاخرى كنتيجة لعدم وضع الخطط اللازمة والكفيلة بمعالجة الاثار السلبية للإيرادات النفطية وتحويلها إلى آثار ايجابية كما فعلت النرويج عندما خططت لصندوق سيادي تُوضع فيه كل الايرادات النفطية لأسباب اربعة هي: المحافظة على اجور العاملين في القطاع النفطي والقطاعات الاخرى، تمويل عجز الموازنة بنسبة لا تتجاوز 4% كنسبة من الارباح السنوية التي يحصل عليها الصندوق كنتيجة لاستثماراته في الخارج، منع ارتفاع اسعار صرف الكرونة النرويجية (عملة النرويج) للمحافظة على اسعار السلع النرويجية والاستمرار في قدرتها التنافسية، تحقيق العدالة بين الاجيال الحالية والقادمة لان النفط ثروة عامة لا يمكن اقتصارها على جيل دون آخر.
وفي الختام، ينبغي على الحكومة العراقية التخطيط لوضع صندوق عراقي يستقبل الايرادات النفطية عند ارتفاع اسعار النفط لتحييد الاثار السلبية وخصوصاً فوارق الاجور ما بين العاملين في القطاع النفطي والقطاعات الاخرى لرفع مساهمة القطاعات الاخرى في الناتج المحلي الاجمالي، ويمول الصندوق الموازنة العامة بنسب معينة -بناءً على دراسات اقتصادية ستراتيجية- عند حصول العجز فيها، تشريع وتنفيذ قانون التعريفة الكمركية وتحقيق العدالة في تحمل العبء الضريبي (من بينها منع الازدواج الضريبي) ومحاربة التهرب الضريبي والعمل بفرضية الضريبة التصاعدية من اجل رفع الحصيلة الضريبية ورفع نسبة مساهمة الضرائب من حجم الايرادات العامة، توجيه الدعم للصناعات الوطنية بشكل مباشر وغير مباشر كاستخراج كافة التراخيص والتصاريح اللازمة، واستيفاء أي إشعارات أو إثباتات أو بيانات مطلوب تسجيلها لدى الأجهزة المختصة تتعلق بالشركة والموظفين، وتوفير الكهرباء التي تمثل اهم مستلزمات الانتاج، اعفاء الآلات والمكائن التي يستورها المنتج الوطني من الضرائب الكمركية، تخفيض اسعار المواد الاولية كالنفط الخام والغاز الطبيعي وغيرها، تحسين جودة الصحة و التعليم اللازم لرفع نوعية العامل -بدنياً وعقلياً- المساهم بالصناعات الوطنية … إلخ.
وسوم: العدد 677