الإرهاب يجدد نفسه
ان قضية الارهاب لم تعد محصورة على جغرافية معينة او حتى فئة دينية معينة، لكون الارهاب نفسه لم يعد مجرداً من التغييرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية العالمية، وبالتالي ان توجيه اصبع الاتهام الى دين واحد على اعتباره مصدر الارهاب الاول لايكون الا من خلال الخضوع لتجربة منهجية ودراسة مكثفة تبين الارقام والنسب وفق معطيات الواقع العياني والتداعيات المرافقة لكل عمل ارهابي، ومن ثم تأطير وتأصيل الرؤية حول الحدث الارهابي نفسه كي يتمكن الباحثون عن كشف المخفيات حول الاصل الارهابي والنبع الارهابي في ذلك الدين او في افكار وايديولوجيات تلك الجماعة المتهمة بالارهاب او لنقل المتخذة من الارهاب مصدر وجود لها.
وعلى هذا الاساس نحن امام معادلة متشابكة من حيث الاحداثيات لكون الارهاب تاريخياً لم يكن حصراً على دين او جغرافية معينة، بل ان الاساليب المتعبة حديثا في العمليات الارهابية هي امتداد وتطور لتلك التي استخدمت سواء في العصر القديم حيث القوي يأكل الضعيف، او العصور الوسطى بالاخص في مرحلة الصراعات الدينية الداخلية والخارجية للاديان نفسها، وهذا ما يعني ان مفهوم الارهاب الحالي هو امتداد لهمجية الماضي البعيد والقريب معاً, وبالتالي فان اي تحديد لماهية الوجود الارهابي ليس الا تعدياً للواقع او عنصرية فؤية بشرية تجاه الفئات البشرية الاخرى.
ولكن هذا لايمنع ابداً ان نقوم بحصر القيم الارهابية الحديثة والمعاصرة التي باتت مصدر تهديد وخطر على البشرية اجمع، بحيث ان الاتجاهات التي تنبع منها الجماعات الارهابية تصبح هي المعيار والمقياس لتوجيه اصبع الاتهام الى جهة معينة او دين معين او حتى فئة معينة دون اخرى، وهذا بالتحديد ما يحدث الان ضمن التحولات التاريخية من جهة، من ضمن التغييرات الايديولوجية من جهة اخرى، فالارهاب اصبح ملازماً لمتحولات تاريخية داخل منظومة دينية، متاخمة للكثير من المنظومات المخالفة لها، ووفق ايديولوجيات تستمد فتواها وقواها من الفتاوي التي تبناها بعض الاشخاص باسم الدين وباسم الله وباسم الرسل والانبياء، وهذا ما يمكن ان نسميه عولمة الارهاب وفق المسار الدين العالمي.
ويضعنا المفكر والكاتب علي حرب في كتابه " الإرهاب وصنّاعه: المرشد، الطاغية، المثقف " امام الصورة التي تشكل معالم الارهاب العالمي حين يقول: يشكّل صعود الأصولية والتعبير عن نفسها في تيارات متطرفة تمارس العنف وتستولي على الأراضي وتغيِّر في الجغرافيا والديموغرافيا أبرز التحوّلات، خصوصاً أنها تتخذ من الإسلام راية أيديولوجية، تسعى من خلالها إلى الدمج بين الدين ومنظومتها الفكرية، بما يجعل الإسلام في موقع الداعم للإرهاب والمبشّر بالدعوة لممارسته. على امتداد جملة عناوين متفاوتة في تعبيراتها ومضمونها...... وهذا بالضيط ما اصبح الواقع الارهابي يمثله، بحيث لم يعد بالامكان توجيه اصبع الاتهام الى اية فئات وجماعات دينية اخرى يمكن ان تمثل هذا الصعود الاصولي غير الجماعات الاسلامية المتطرفة والتي تستمد من الدين وفتاوي رجالات الدين مصدر افتاء ومصدر تشريع للقيام بالاعمال الاكثر دموية وعنفا في التاريخ البشري، وليس هذا فحسب بل اصبحت هذه الجماعات الارهابية تجدد ثوبها الديني من جهة وتجدد وسائلها الارهابية من جهة اخرى، ولعل البعض يراها من باب نظرية المؤامرة ويقحم اليهود في التحوير والتزييف الحاصل في البنية الفكرية للدين عند هولاء كما يذهب الدكتور طه جابر العلواني حين يقول ما نصه ان كل فئة محترفة للتحريف ومستهدفة لاضلال غيرها لابد لها من توليد مداخل للتحريف من ذات البنية الفكرية التي يراد اختراق النظام المعرفي القائم عليها، لتتم عملية الاختراق والتحريف من الاطر التي تعتبر مرجعاً عقائدياً، ولكي يكتسب التعريف والتزييف مرجعية ثابتة، حتى لو اقتضى الامر الدس والتزييف والتلاعب بكل شيء وهذا هو اخطر انواع التحريف والتزييف ......... .
لقد حاول الدكتور العلواني من ان يجعل من محاولات الغير في تزييف الحقائق وتحويرها امراً يستند اليه في كل قضية خروج عن النص الديني، ولكنه في سياق كلامه اعطى ثغرة لمن لايؤمن بنظرية المؤامرة كمدخل لدحض مقولته هذه، لانه استند على محاولة الاخر من توليد مداخل للتحريف من ذات البنية الفكرية، اي ما يثبت ان البنية الفكرية المراد تحريفها تمتلك ثغرات يمكن الولوج من خلالها الى جوهر العقيدة وبالتالي اخراج من يمكن ان يحرف الكلم عن مواضعه، او ما نسميه الان الارهاب العقائدي الديني والارهاب الدموي الناتج من الارهاب الاول.
وحين يتساءل علي حرب عن مدى وجود علاقة بين الإسلام والإرهاب، انطلاقاً من كون هذه المسألة باتت واحدة من مشكلات الساعة، منذ تفجيرات أيلول الأميركية عام 2001... فان الامر لم يعد فيه شكل في الوقت الحاضر بان الارهاب الاسلامي اصبح مصدر قلق وخطر على الجماعات البشرية المسملة وغير المسملة في نفس الوقت لكون ان الارهاب العالمي الديني اصبح يتخذ من شكل الهوية الانتمائية التشريع في الابقاء على الاخرين او قتلهم ورفض وجودهم بشتى وكافة الوسائل المتاحة وغير المتاحة في آن واحد.. وحين يغيب الخطاب الديني العالمي الاسلامي الموحد الموجه لصد الارهاب ولاخراج الارهاب من الجغرافيا الدينية الاسلامية فان المؤسسات الدينية نفسها تتحمل المسؤولية وذلك لعجزها عن الانخراط في نضال فكري وديني ينزع عن التيارات الأصولية حججها المستخدمة في تبرير الإرهاب، من خلال استخدام النص الديني وفق قراءة حرفية لا تأخذ في الاعتبار تاريخية النص ومكان وزمان صدوره والحاجات التي أوجبت نزوله. فالمؤسسات الدينية تبدو متوجسة من المصارعة الفكرية والنظرية مع التنظيمات المتطرفة، وهي بذلك تقدم لها مساهمة عملية، وتعتبر، في الوقت نفسه، مسؤولة عن هذا الإرهاب الأعمى الذي ضرب بسوط الإسلام في كل مكان في العالم .. كما يقول علي حرب.
ومن يلاحظ المنهجية التي تتبناها الجماعات الارهابية الاسلامية يلاحظ المسار التاريخي الذي تم سلكه من قبل هولاء وذلك للانهاض بالفكر الجهادي الدموي الارهابي الحديث والمعاصر، او ما يسمى بالجهادية السفلية التي تتبنى افكاراً تعد خليطاً تضم اساسيات الفكر الحركي لسيد قطب، فضلاً عن الفقه السياسي الشرعي لابن تيميه ، بالاضافة الى التراث العقدي للدعوة الوهابيةـ ويضاف اليها المنهج السياسي الحركي للتيار الجهادي، كل ذلك يشكل الان المعلم الشرعي الاساس الذي يستفيد منه الجماعات الاسلامية الارهابية في شن حربها الضروس ضد البشرية اجمع، او لنكن اكثر وضوحاً ضد كل من لاينتمي الى تيارهم الفكري العقائدي.. وبذلك استطاع هولاء بافعالهم واقوالهم ان يخرجوا جميع الفئات الاخرى من معادلة الارهاب، كي يتفردوا هم بها بالخصوص، وهذا ما يعني بالتالي ان اتجاه اصابع الاتهام للدين الاسلامي كمصدر تأسيسي ونبع استمراري للارهاب بات امراً لايمكن رفضه سواء ظن البعض ان هذا الاتجاه هو انحراف وتزييف للعقيدة السليمة او مؤامرة ضد الاسلام نفسه.
ان ابرز المكونات التي ترسم ملامح الارهاب الديني الحالي تكمن في جملة معطيات لعل ابرزها رأس الهرم الديني في الاسلام حسب اعتقاد الجماعات السلفية او ما يسمى بالخليفة او المرشد او الامام عند البعض، والذي يعد بنظر هذه التيارات الناطق باسم الله، وعلى الرغم من كون التيارات السلفية تحاول اقناع الناس بان مصدرها الاساس هو الكتاب والسنة الا ان الواقع يظهر تماما غير ذلك ، حيث ان اغلب مرجعياتهم في اعمالهم العنفية والارهابية تستمد قوامها وشرعيتها من كتب الائمة وفتاويهم وارائهم لاسيما اراء سيد قطب وابن تيميه وهولاء يمثلون عند الكثير من الجماعات الاسلامية الجهادية رأس الهرم، وحين يفهم من كلام هولاء ان فئة او جماعة هي باغية او كافرة او ملحدة خارجة عن الدين، يستغل الفئات الارهابية الامر لممارسة عنفهم الديني حقدهم البشري وغلهم الجنسي مع تلك المجموعات والفئات غير المنتمية اليهم.. ومن المصوغات الاخرى التي ترسم ملامح الارهاب الديني العالمي هو وجود مداخل يمكن للجماعات الارهابية ولوجها وذلك لتنفيذ مخططاتهم الارهابية فحين تجد حكاماً لايدينون بدينهم الفكري، ويتخذون من الشعوب وسيلة لكي يرتقوا على جماجمهم سواء من خلال اقحامهم في حروب او ابعادهم عن مفاهيم الدين الصحيحة من خلال اباحة ما لايباح بنظر التيارات السلفية الجهادية فان هولاء ايضا يفتحون ابواب جهنم على انفسهم وشعوبهم حيث يستغل التيارات الارهابية الامر ويعدونهم كفاراً فيذيقونهم العذاب احياء.. ولعل الكثير من المعطيات الاخرى تعد منافذ لولوج هذه التيارات.. ولكن الغريب في الامر ان الصفة الدموية في التاريخ الحديث والمعاصر اصبح حكراً على التيارات الاسلامية وحدها،، مما اوجب على المفكرين والمناظرين ان يوجهوا اصابع الاتهام الى الاسلام باعتباره المصدر الاساس للارهاب العالمي.
وما ساعدهم في ذلك التبرير هو ان التيارات الاسلامية التي تتجدد في عقائدها ومناهجها ، اصبحت الان هي الصورة الاكثر انتشارا للاسلام الديني وليس للاسلام السياسي فحسب، وبالتالي فان تجدد هذه العقائد والمناهج انتجت تجدداً اخراً في الوسائل المتبعة ضد الاخرين ارهابياً.. فالاحداث الاخيرة اثبتت ان الارهاب بثوبه العولمي الديني الجديد لايؤمن بجغرافية واحدة بل يتعداها ولايؤمن باصحاب فكر مخالف واحد بل ان الكل مستهدف, ولعل داعش اليوم خير دليل على هذا التحول الفكري الجهادي الوسائلي الخطير.. لكونه لم يكتفي باراقة الدماء في منطقة الشرق الاوسط وسبي النساء واغتصابهن وبيعهن في اسواق النخاسة، انما يقوم باستخدام تقنيات استخباراتية حديثة ترهب الحكومات العالمية حتى وان قال البعض بان تلك الحكومات هي الداعمة لها.. فالتفجيرات.. والقتل الجماعي " المقابر الجماعية العرقية" ، وقطع الرؤوس والحرق احياء ومن ثم الدهس بالحافلات كما حدث مؤخرا في نيس الفرنسية كل ذلك يؤكد بأن عولمة الارهاب الديني اصبح امراً واقعاً لامفر منه، الا اذا قام كل من الخطاب الديني العالمي بتحمل مسؤوليته في صد هذا الاجحاف بالنص الديني، وكذلك اذا قامت الدول بالتحالف المنظم والممنهج للحد من انتشار هذه الظاهرة الخطيرة.
وسوم: العدد 677