فلسفة مبسطة: الإدعاء الدائري

ما هو الادعاء الدائري؟

هو محاولة إثبات ادعاء ما بالاعتماد على الإدعاء نفسه. هذا الإدعاء يحمل في مضمونه روح نقضه، بل وقد يشكل حالة ساخرة تبعث على الضحك، كما سأبين ذلك لاحقا بالقصة..

من الممكن مثلا مشاهدة شخص يركض لمجمع تجاري لشراء بعض احتياجاته، سيلفت الانتباه، فورا ينتشر الخبر ان المجمع التجاري يبيع بأسعار رخيصة.. وسنجد عشرات بل مئات قد اقتنعوا وشدوا الخطى للمجمع التجاري.

هذه يسمى ادعاء دائري. أي الارتكاز على “نقطة قطع” لموضوع معين.

مثلا في الرواية أو القصة توجد “نقطة قطع”، وهي التي تشكل المفاجأة.. وهي هامة جدا، نلاحظها أكثر بالطرفة أو بالأغنية..

نقطة القطع قد تجعل القارئ يعيد القراءة مرة أخرى.. ليستوعب الرموز الروائية ( “رموز تلميح” كما تسميها الفلسفة) التي لم يلحظها القارئ في القراءة الأولى، والان بعد المفاجأة ( نقطة القطع) يقرا ليتمتع أكثر بما غاب عنه في القراءة الأولى ليعيش المفاجأة بوعيه – بمعرفته الكاملة!!

الادعاء الدائري هو نفسه الإثبات الدائري لأنه ينطلق من نفس الحالة. في اللاتينية يسمى(circulus in probando ) البعض يترجمه ب”الافتراض المرغوب” لأنه ادعاء لإثبات افتراض مسبق بدون أي براهين خاصة. أي ادعاء بحد ذاته غير مقنع، لكن صاحب الإدعاء يلبسه ثوب جديد(نفس السيدة لكن بلباس آخر) نحن هنا أمام أشكال تتابعية تبدو محكمة إلى حد ما، لكن التفكير المنطقي يثبت انها بعيدة عن ان تكون معقولة.

مثلا لو قلنا ان زياد لا يكذب. الافتراض ان من لا يكذب يقول الصدق دائما. إذن الاستنتاج ان زياد يقول الحقيقة دائما..!!

من ناحية مرادفات لغوية هذا صحيح، لكن المنطق لا يقبل هذا الافتراض كأمر نهائي لأنه افتراض غير عقلاني.

طبعا هذا فشل عقلاني دارج في المجتمعات البشرية بأشكال متفاوتة، خاصة بمجال الإيمان الديني والغيبيات. الإيمان ينتقل بالوراثة بدون تفكير وبدون تحكيم الوعي حتى بشكله البسيط. خطر هذا “الادعاء الدائري” أو “الإيمان الدائري” أنه يقود الإنسان إلى داخل إطار يفقده وعيه الخاص، يشل قدراته العقلية بموضوع الدين وغيبيات الدين، تصبح الخوارق حقائق حتى لدى أشخاص يحملون أعلى الشهادات الجامعية. الغيبيات تجعلهم أشبه بالببغاوات.. أو بالروبوت المبرمج سلفا.

قال احد الحكماء: “حدث إنسان عاقل بما هو غير عقلاني. اذا قبله فهو بدون عقل!!”

ان الادعاء الدائري يحتاج احيانا ، بل على الأغلب إلى إثباتات لا تقل بجوهرها عن الإدعاء نفسه. أساطير كثيرة نرويها لأطفالنا عن أمور خارقة، مثلا حصان له جناحان ويطير. أو حيوانات تتكلم لغة البشر. أطفالنا تعجبهم هذه القصص وتُطور خيالهم. لكن كيف يمكن ان نقيم عقل إنسان واع يقبل قصصا مشابهة أو غير مشابهة لكنها قصص تروي معجزات تملأ كتب الدين وغيرها؟

الفيلسوف الإغريقي أرسطو في كتابه “تحليلات مبكرة” عالج هذا الموضوع وهو الذي اوجد الاصطلاح الدارج اليوم – “الإدعاء الدائري”.

الافتراض الذي يحتاج إلى إثبات هو افتراض غير علمي، لذا إثباته هو افتراض آخر. العلم كما نعلم مبني على ثلاثة مراحل: أولا الفرضية.. الفرضية تعني طرح أو تفسير مقترح لظاهرة منطقية تطرح علاقة ارتباط بين ظواهر متعددة. عادة الافتراض هو وجهة نظر غير مثبتة علميا إلا بافتراضات قابلة للنقض والسقوط أو التغيير أو التطوير إلى شبه نظرية. المرحلة الثنية هي النظرية العلمية لها اثباتات علمية لكنها غير كاملة وتحتاج الى المزيد من البحث والتجارب، طبعا هنا الجانب العلمي واضح، نظرية النسبية مثلا لألبرت أينشتاين (1879 – 1955) يهودي ألماني هاجر إلى أمريكا، من أهم علماء الفيزياء، واضع النظرية النسبية الخاصة والنظرية النسبية العامة الشهيرتين اللتان كانتا اللبنة الأولى للفيزياء النظرية الحديثة. إذن النظرية قابلة للتطوير والتغير، لا يمكن نفي علميتها. المرحلة الثالثة هو القانون وهو غير قابل للنقض، أي علمي تماما مثل قانون الجاذبية للعالم الإنجليزي إسحاق نيوتن (1642 – 1727) الذي يعد من أبرز العلماء مساهمة في الفيزياء والرياضيات عبر العصور وأحد رموز الثورة العلمية..

لدي قصة توضح بشكل ساخر الإدعاء الدائري:

شتاء بارد جدا جدا / قصة: نبيل عودة

الزعيم الجديد لقبيلة من الهنود الحمر، القاطنين في محمية طبيعية في أمريكا بعد هزيمتهم على أيدي البيض.. لم يتعلم طرق أجداده في الكشف عن الآتي، وخاصة معرفة ما سيكون عليه فصل الشتاء من أمطار وبرد..

كان فصل الشتاء على الأبواب، أراد زعيم قبيلة الهنود الحمر ان يعرف حال الشتاء القادم، وهل سيكون باردا .. أم لطيفا ؟ وكيف سيوجه أبناء قبيلته للاستعداد للشتاء؟ ما هي النصائح الصحيحة لسكان المحمية من اجل الاستعداد للشتاء؟

لعدم خبرته بأساليب أبائه وأجداده في الكشف عن حال الطقس والتنبؤ بما سيكون عليه الشتاء من برد ومطر، قرر أن الاحتياط أفضل، لذا دعا أبناء قبيلته إلى جمع الحطب استعدادا لشتاء بارد. بدا أبناء القبيلة بجمع الحطب استعدادا لشتاء بارد. من أجل التأكد من قراراته، اتصل زعيم القبيلة بدائرة الأحوال الجوية مستفسرا عن توقعاتهم للشتاء القادم.. وهل سيكون باردا؟ قالوا انهم يتوقعون شتاء باردا. اطمأن لقراره وشجع قبيلته على جمع المزيد من الحطب.

تراكمت كميات كبيرة جدا من الحطب، أبناء القبيلة بدؤوا يتشاورن عن أفضل الطرق لمواجهة الشتاء القارص الذي يقترب منهم. جمعوا الكثير من الطعام أيضا خوفا من ان تغلق الطرق بسبب الثلوج.

بعد أسابيع اتصل زعيم القبيلة مرة أخرى بدائرة الأرصاد الجوية، ليطمئن على صحة قراراته. قالوا أنهم حقا يتوقعون شتاء باردا جدا جدا. بناء على ذلك أصدر توجيهاته بجمع المزيد والمزيد من الحطب لأن الشتاء سيكون باردا جدا جدا…وقد يكون طويلا أيضا أكثر من فصول الشتاء السابقة. أصيبت محمية الهنود بقلق كبير، جددوا جمع الحطب حتى من أماكن بعيد جدا، كي لا يفاجئهم الشتاء ببرده وثلوجه. أضحت المحمية مخزنا هائلا للحطب… فقط ممرات ضيقة ظلت مفتوحة بين البيوت من اجل حالات الطوارئ.

عاد زعيم القبيلة للاتصال مع دائرة الأرصاد الجوية .. حتى يطمئن على سلامة قراراته بجمع الحطب، اذ كان فصل الشتاء قد بدأ ولا يظهر البرد الشديد ولا الأمطار الغزيرة ولا العواصف الثلجية، فهل تكون كميات الحطب التي ملأت بيوت وساحات المحمية الطبيعية بلا فائدة، وتظل متراكمة في الصيف القادم في مكانها ؟

سأل زعيم القبيلة المسئول في دائرة الأرصاد الجوية:

– هل حقا انتم متأكدون ان هذا الشتاء سيكون باردا جدا ؟

– أجل سيكون باردا جدا جدا !!

– وكيف تأكدتم من ذلك؟

أجابه المسئول: نحن متأكدون ان الشتاء سيكون باردا جدا لأن الهنود الحمر في المحمية المجاورة يجمعون الحطب بشكل جنوني .. لذلك عرفنا إننا مقبلون على شتاء بارد جدا جدا!!

وسوم: العدد 697