هل فهم العرب الدرس .؟
استلم العسكر مقاليد الحكم في العراق وسورية بعد أن تركت فرنسا وبريطانية الأرض لتترك لها خدم خُلّص، دخلت البلاد في نفق فقدان الهوية الثقافية والتاريخية فلكل حاكم عسكري منهج يتبعه وقنوات سرية تدعمه ، كانت دعاية حماية الأوطان من الأعداء أهم شعارات اؤلئك المستلمين لزمام الأمور .
مصر العربية (الملكية ) الذي أراد حاكم دولة آسيوية أن ينقل إلى بلاده تطورها وجمال تنظيمها العمراني والتي سبقت اليابان وألمانيا بنهضتها الحديثة لم تُستثنَ من الدخول إلى جحيم العسكر فظهر الضابط الأسمر ليعبث بكل مقدرات البلاد وأرزاق العباد فأفسد الزراعة وألغى استقلال الأزهر ووضع قوانين ظالمة جائرة أرجع فيها مصر إلى زمن استعباد فرعون للشعب المصري ، أشغل الناس برغيف الخبز، صار حلم الشقة السكنية محور أقلام كاتبي الدراما والكوميديا ، انتقل إلى سورية فأفسدها شر إفساد كانت سورية تشتهر في تقدم الصناعات وتخصص منتجاتها فجعلها عامة أوكلها إلى ثلة من الفاسدين واللصوص فهرب الفكر المبدع من هذا البلد إلى الأبد ، جاءها شيطان رجيم نسبها لنفسه فقال عنها سورية الأسد ، ومع مرور الوقت تضخمت الآلام وتسارع نزول الطبقة الوسطى إلى الحضيض واتخمت الطبقة الفاسدة من أموال الشعب ليظهر أبناء أولئك اللصوص وتظهر ثقافة (ابن الباشا يبقى ابن باشا وابن الفلاّح يبقى ابن فلاّح ) !! هذه الأمراض الاجتماعية ظهرت بصور مختلفة في المجتمعات العربية.
كل اؤلئك العسكر أوهموا الشعوب كذباً وبهتاناً بأن رغد العيش قادم لهم لأنهم لا يريدون التخلف والرجعية وسيطرة الامبريالية العالمية على البلاد وأن الثقافة المجتمعية التي توارثها الناس ما هي إلا مخلفات بائدة لا تصلح فعندهم التطور والتقدم في كافة مجالات الحياة .
أفسد الواثب إلى كرسي الحكم كل مناحي الحياة العامة فتّدخل في مناهج التعليم فأفسده ، تشكلت له نخب مجتمعية فاسدة كان رجال الوعظ الديني من موظفي الأوقاف الإسلامية والكنسية أسوء عناصره ، فطاعة ولي الأمر هو من أساس الدين والخروج على الحاكم ردة مخرجة من الملة ، انتقل هذا الداء إلى القضاء والفن والسياسة فكل من ينتقد أداء الحاكم فهو عدو للوطن خائن مندس .!
وبين حالة الترغيب والترهيب كان معظم الأحرار بين سجين وقتيل وطريد وباقي الشعب انكفأ داخل أحلامه ينتظر عودة أمجاد الخلافة التي استغلها كل منحرف الفكر فأصبحت قِبلة لكل متطرف لا يفقه من الدين إلا القتل والذبح ،هذه الحالة شكلت عند المواطن العربي لا مبالاة من نوع غريب وثقافة انهزامية تبرر له استسلامه .
عند هذا المشهد كان الحاكم العسكري يتحول إلى أسطورة عبر بطانته الفاسدة وانتقلت هذه الصورة النمطية إلى كل العسكر لأنهم تسلطوا على كل مقدرات وموارد الدولة بدون رقيب أو حسيب فكانت لهم مكاسب غير محدودة فانتقلت إليهم ثقافة التغلب والتمرد وهي ما تعرف باسم الانقلاب .
ماذا يعني انقلاب عسكري ؟ بكل بساطة هو هدم كل ما تم بناءه والابتداء من الصفر .! وبالتالي تبقى البلاد في مرحلة تخلف متراكم ينتج عن ذلك عداء بين المواطن ومنشآت الدولة التي هي ملك الشعب ، يحسبها العربي أنها ليست له فيفرح حين تدميرها أو تعطيلها.!
هناك فرق كبير بين عقلية العسكري والرجل السياسي فالأول لا يكتسب هذا الاسم إلا بطاعته للرتبة الأعلى ولا يتم ترفّعه إلا إذا حقق الانصياع الأعمى للأوامر ، بينما السياسة هي علم وفن قيادة وإدارة البلاد .
عند هذا الفارق في طريقة المعالجة والتفكير يتضح لنا نتائج أعمالهم .
فرعون كان رجل عسكري فقال لقومه لا أريكم إلا ما أرى ..... فلا يحب المحاورة ولا الشورى ولا الانتقاد ولا المؤسسات وتخصصاتها ولا الإبداع والمبدعين ولا النصح والناصحين بل هو الذي يهديهم سبيل الرشاد فكانت النتيجة ، فأضل فرعون قومه وما هدى .!
ولأن اقتلاع هذه الثقافة البغيضة من المجتمع عملية شاقة وتحتاج إلى جراحة زمنية واحترافية خاصة كانت الشعوب تتطلع إلى حرية تعترف بإنسانيتها وحقها في المشاركة والرفاهية كانت الثورات رد فعل طبيعي لتسلط الحاكم الفرعون في الحياة العامة واحتكار كل مقوماتها ولأن بابها عالي المقام فمفتاحه دماء الأحرار والشهداء وعبّر عن ذلك شوقي بقوله : وللحُرِّيةِ الحَمراءِ بابٌ بِكُلِّ يَدٍ مُضَرَّجَةٍ يُدَقُّ .
عندما تصل الشعوب إلى مرحلة النضج السياسي والوعي الوطني وتعرف قيمة تضحيات الأجيال السابقة فلا تفّرط بهذه المكتسبات بسهولة وتعطيها لكل طامح إلى السلطة مجهول الأهداف نكرة اجتماعياً ذلك أن الشعوب العربية أزهد الناس بأبنائها وتضحياتهم ، نرى ذلك جلياً في المجتمع حيث أن كل سجين رأي يتخلى عنه أهله وجيرانه وتتحمل أسرته المباشرة عبئ قراره ، ويُنظر إلى أطفاله على أنهم (مجرمين ) كأبيهم .! علماً أن جميع الأحرار قالوا: لا للظالم ..... ! سعيًا إلى الوصول لمجتمع تسود فيه الأخلاق وتحترم فيه حقوق الإنسان العامة.
التجربة التركية الأخيرة عقب الانقلاب الفاشل أظهرت لنا كذب المعارضات العربية وهشاشة شعبيتها وغياب الديمقراطية بين قواعدها وتسلط قياداتها فهي تشترك مع الحاكم المستبد بهذه الصفات ظهر لنا ذلك في الانقلاب المصري الذي أطاح بأحلام وأصوات الشعب المصري وكيف أن النخب السياسية كانت أداة طيّعة بيد أجهزة المخابرات وزاد الطين بِلة وقوف الكنسية والمشيخة الإسلامية مع ضابط مغمور انقلب على رئيسه تلبية لرغبات أجنبية بحتة ، وعلى هذا يجب أن تتعلم الشعوب العربية منها درساً مهماً بأن التخلي عن الديمقراطية ومكتسباتها لإرضاء أحقاد شخصية وانخداع بقنوات فضائية مأجورة تستلم مواد برامجها من السفارة الإسرائيلية والأمريكية ما هو إلا تحطيم للبلاد وقتل لكل التضحيات وخيانة عظمى لدماء الشهداء الذين بذلوها لتعيش الأجيال القادمة بنعيم الاستقرار والحياة الكريمة.
كل ما تعيشه مصر العربية من آلام هو نتيجة لذلك فقد غنّى دعاة الفن(تسلم الأيادي)وقالت أجهزة الدولة العميقة (إحنا شعب وانتو شعب).!! وليست سورية الجريحة بحال أفضل بل ما تعرضت له من تدمير يعجز أي محتل أن يفعله بها كما صنعه الضابط الذي اقسم على المحافظة عليها وسلامة أراضيها .
ليس هذه الكلمات إنشائية وفلسفة أفلاطونية بل واقع نعيشه وآلامًا تجرعنّا كأس مرارتها فقد خان العسكر الشعوب وقتلوا الأطفال وقصفوا البلاد بكل أنواع المتفجرات وهتكوا أعراض الحرائر ونهبوا خيرات البلاد فأفقروا الناس إلى حد التسول بل طردوا المواطنين لاجئين في مخيمات حقيرة لا تقي من حر ولا تعزل برد اتضح لمعظم أحرار الشعوب العربية أن العقيدة القتالية التي تدربوا عليها بالمدارس الحربية هي قتل الشعوب والخضوع للغزاة ، وهم الذين اقسموا كذباً عبر الإذاعات بأنهم جاؤوا لينصروا المظلوم ويحافظوا على البلاد فلا عهد حفظوا ولا على ود ابقوا.
أصبح واضحاً لكل العقلاء والمخلصين لأوطانهم بأن الانقلابات العسكرية ما هي إلا أداة للهدم وتبرير للقتل البربري وتأخر عجلة التطور الحتمي للبلاد سيما أن ما أفسده العسكر عبر انقلاباتهم خير شاهد على خيانتهم وتدميرهم لنواحي الحياة العامة ، فهل تعلّم العرب الدرس.؟
وسوم: العدد 701