ذبح الأخوة الإسلامية جهلا أو غفلة أو تجاهلا عبر وسائل التواصل الاجتماعي
من القيم السامية التي جاءت بها الرسالة السماوية الخاتمة الأخوة الدينية بين بني البشر على اختلاف ألسنتهم وألوانهم تحت لواء دين الإسلام . وتعتبر الأخوة في الإسلام نعمة من أعظم النعم التي امتن بها الخالق عز وجل على عباده المؤمنين مصداقا لقوله عز من قائل في محكم التنزيل : (( واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا )) .ولقد تكررت كلمة النعمة مرتين في هذه الآية الكريمة للدلالة على عظم نعمة الأخوة ، ذلك أن التكرار في كتاب الله عز وجل لا يكون حشوا . ومعلوم أن الأخوة التي يعرفها الناس هي الأخوة المشهورة بين من يجمعهم صلب أب أو بطن أم أو هما معا أو يشتركون في رضاع ، أما الأخوة في الإسلام فيجهلها كثير من الناس ، ويغفل عنها الكثير ، ويتجاهلها الكثير . ولقد شاءت إرادة الله عز وجل أن يكون المسلمون إخوة يجمع بينهم الإسلام كأنه صلب أب أو بطن أم أوهما معا ، وكأنه لبن مرضع . ولقد ربط الله عز وجل بين تأليف القلوب وبين الأخوة ، وتآلف القلوب هو اجتماعها على شيء واحد ، وما ذلك الشيء سوى عاطفة الأخوة التي تطبعها المحبة ، كما قابل الله عز وجل بين الأخوة والعداوة وهما ضدان على طرفي نقيض، ذلك أن الأخوة عبارة عن تآلف القلوب بينما العداوة تنافرها وتباعدها . والناس في هذه الحياة التي يمتحنون فيها إما إخوة وإما أعداء حسب تآلف القلوب أو تنافرها . ومعلوم أن نعمة تآلف القلوب وهي نعمة الأخوة لا ثمن لها مصداقا لقول الله عز وجل : (( لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم )) . فهذا الذي لا يملك الناس ثمنه ،ولا ينال ولو أنفق ما في الأرض جميعا إنما هو نعمة من أعظم النعم التي يهبها المنعم جل جلاله، والتي أمرنا أن نذكرها ونستحضرها . ومعلوم أن هذه النعمة لا تقتصر على الرعيل الأول من المسلمين الذين كانوا أعداء قبل إسلامهم، فصاروا إخوانا به ،وإذا كانوا في الواقع هم سبب نزول الآية فإنها تشمل أيضا كل من دخل دين الإسلام إلى قيام الساعة في كل مصر وعصر، لأن العبرة في كلام الله عز وجل بعموم ألفاظه لا بخصوص أسباب نزوله ، وهو كلام أنزل للناس كافة لا لفئة معينة في زمن معين. ولقد قضى الله عز وجل أن تكون العلاقة بين المسلمين أخوة حصرا مصداقا لقوله تعالى : (( إنما المؤمنون إخوة )) هكذا بصيغة قصر تفيد حصر حالهم في الأخوة . ويفهم من هذا الحصر أيضا أن الإيمان والأخوة متلازمان ، فلا يؤمن الإنسان إلا وهو أخ لمؤمن مثله بالضرورة . وقد يحصل ما يؤثر على أخوة المؤمنين، وهم يخوضون غمار الحياة الممتحنين فيها لأن القلوب الآدمية أوعية الأهواء ، والأهواء متضاربة، وهي منشأ تنافر القلوب أو العداوة ،لهذا أمر الله عز وجل بعد حصر حال المؤمنين في الأخوة و تآلف القلوب بالإصلاح بينهم إذا ما فرقتهم الأهواء فقال : (( فأصلحوا بين أخويكم )) ذلك أنه لا يجتمع في قلوب المؤمنين تآلف الأخوة وتنافر العداوة ،وهما ضدان لا يجتمعان ، ومعلوم أن الإصلاح لا يحصل إلا بعد فساد ، وهذا يؤكد أن نعمة الأخوة التي امتنها الله عز وجل على عباده المؤمنين تشمل كل المؤمنين في كل عصر ومصر إلى نهاية العالم، لأن العداوة قد تحصل بينهم، فيؤلف الله عز وجل بين قلوبهم بنعمته . ونعمة الأخوة جعلها الله عز وجل مؤشرا على الإيمان حين جعلها محصورة في المؤمنين ، وهذا يعني أنها مقياس الإيمان ، ذلك أنه على قدر استشعار الإنسان المؤمن الأخوة مع المؤمنين تكون درجة إيمانه ، فالأخوة إذن مسبار الإيمان . وبقدر ما امتن الله عز وجل على عباده المؤمنين بنعمة الأخوة ، فإنه قد حذر من زوالها وحلول العداوة محلها بقوله تعالى : (( وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها )) وهذا التعبير القرآني يدل على وشك الخطر الذي يكون عليه المسلمون وهم في حالة عداوة، كما يدل على عملية الإنقاذ منه والتي تحصل بتأليف الله عز وجل بين قلوبهم، فيصبحوا بذلك إخوانا . وبيان الامتنان في قوله تعالى هي عملية الإنقاذ من خطر العداوة المحدق بالمسلمين .
ومعلوم أن الأخوة في الدين عبارة عن علاقة تترتب عنها التزامات ملزمة بين المتآخين ، وقد حددها القرآن الكريم وسنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم . ومن هذه الالتزامات ما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مخاطبا المؤمنين : " لا تحاسدوا ، ولا تناجشوا ، ولا تباغضوا ، ولا يبيع بعضكم على بيع بعض ، وكونوا عباد الله إخوانا ، المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ، ولا يخذله ، ولا يحقره ، التقوى ههنا ـ وأشار عليه السلام إلى صدره ثلاث مرات ـ بحسب امرىء من الشر أن يحقر أخاه المسلم ، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه " . فالأخوة في الإسلام ليست مجرد علاقة صورية بين المسلمين بل هي أفعال ملموسة حددها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال أفعال نهى عنها ،وأخرى أمر بها مما تستوجبه الأخوة الإسلامية . ولقد بدأ رسول الله صلى الله عليه بالنواهي قبل الأوامر في هذا الحديث لخطورتها على تقويض رابطة الأخوة الإسلامية ،ذلك أن الحسد ،والنجش، والبغض حين يتداولهم المسلمون فيما بينهم كما دلت على ذلك صيغة المشاركة الواردة في الحديث تحل العداوة بينهم محل الأخوة . وذكر معاملة البيع في الحديث لم تأت صدفة أو عبثا ،ذلك أن هذه المعاملة كما يشهد بذلك الواقع في كل عصر ومصر يحفها في الغالب التحاسد، والتناجش، والتباغض ،لهذا نبّه إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولقد قابل عليه الصلاة والسلام بين نهيه عن التحاسد ،والتناجش ،والتباغض وهي كناية عن العداوة وبين أمره بصيانة الأخوة . وذكر بعد ذلك انتفاء الظلم والخذلان والتحقير بين المسلمين بموجب الأخوة الرابطة بينهم . ولم ترد إشارته صلى الله عليه وسلم إلى صدره ثلاث مرات عبثا أو صدفة بعد ذكر الظلم، والخذلان، والتحقير، و معلوم أن الصدر مكان القلب ، وهذا الأخير وعاء يسع إما عداوة أو أخوة . ولقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم تحقير المسلم أخاه المسلم بالشر الكبير، وهو ما دل عليه تعبير الحديث :" بحسب امرىء من الشر " أي يكفيه شرا ، وكفاية الشر دلالة على كثرته . وانتهى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريم دماء ،وأموال ،وأعراض المسلمين فيما بينهم بموجب رابطة الأخوة في الدين .
وإذا ما التمسنا مفهوم هذه الأخوة اليوم بين المسلمين نجده غائبا بينهم عمليا وإن كانوا يتداولونه بينهم نظريا وهم يتلون القرآن والحديث تلاوة لا تجاوز عند أغلبهم الحناجر، ذلك أن كل ما أمر به الله عز وجل ورسوله في شأن الأخوة في الدين لا يأتمرون به ، وكل ما نهيا عنه لا ينتهون عنه . ومع أن أمثلة خرق حقوق الأخوة في الدين كثيرة لا تحصى في حياة المسلمين اليوم ،فسنقتصر على خرق جد في حياتهم بسبب تطور وسائل التواصل الاجتماعي بينهم وانتشار أجهزة الهواتف المحمولة ، ذلك أن هذه الأخيرة صارت على سبيل المثال لا الحصر وسائل إشاعة التحقير فيما بينهم ، فلا يكاد الواحد منهم يرسل عبر هاتفه المحمول فيديو من الفيديوهات الساخرة من بعض الناس تحقيرا لهم حتى يشيع بين الآلاف بل بين الملايين من المسلمين ، ويتهافتون على تبادله فيما بينهم وقد تلقفوا هذه الآفة عن غيرهم من الأمم التي لا تعرف مفهوم الأخوة في الإسلام والتي تبتذل الكرامة الإنسانية عن طريق التسلي بها عبر وسائل التواصل الاجتماعي . ولقد صار المسلمون اليوم يحذون حذو غيرهم شبرا بشبر كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخلوا جحر الضب المنتن وراءهم . وهل يوجد أنتن من أن يستعذب المسلم الوقوع في عرض أخيه المسلم عبر وسائل التواصل الاجتماعي وقد نهي عن الوقوع فيه بموجب رابطة الأخوة الإسلامية ؟ ولقد انطلت حيلة الوقوع في الأعراض على المسلمين، وصاروا يعدّون ذلك من الأخذ بأسباب التطور، ومواكبة الركب الحضاري ، وهم يقلدون غيرهم التقليد الأعمى، وشر العمى عمى البصيرة لا عمى البصر كما جاء في الذكر الحكيم . والمؤسف والمحزن والمبكي أن ينال المسلم من عرض أخيه المسلم احتقارا له واستهزاء به وسخرية منه عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ويأمر بإشاعة ذلك بين الناس ليزداد إثما ووزرا وساء له يوم القيامة حملا . ولو استحضر المسلمون اليوم نعمة الأخوة التي امتنها الله عز وجل عليهم لما أقدموا على استباحة أعراضهم عبر الواتساب والفيسبوك والتويتر وغير ذلك . ونختم بالقول اللهم بصرنا بعيوبنا، وهيىء لنا سبل التوبة النصوح من كل ذنب نحن في غفلة عنه. والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
وسوم: العدد 715