الفلسطينيون يطعنون أسراهم ويجهضون إضرابهم، الحرية والكرامة "22"
· اليوم الرابع والثلاثون للإضراب ...
قد يستنكر البعض مقالي، وقد لا يعجبه كلامي، وقد يستغرب العنوان ويستهجن المضمون ولا يرضى بما جاء فيه، وقد أجد بعض النقد والاستنكار، وربما التشكيك والاتهام، وقد أتلقى تعليقاتٍ قاسيةً أو ردوداً غاضبةً، وهو ما وطنت نفسي عليه منذ أن قررت خوض غمار الكتابة الإعلامية، فمهنة عرض العقل على الناس يلزمها الصبر على ردودهم وتقبل ردات فعلهم، والحكمة في الرد عليهم والتعامل معهم، وقد آليتُ على نفسي الصبر واتساع الصدر، وتحمل الرأي الآخر والقبول به، شرط أن يكون موضوعياً ومهنياً وبعيداً عن الشخصانية وفي ذات الموضوع، بأدبٍ وخلقٍ دون إسفافٍ أم مهانةٍ.
قد يقول البعض بأن الوقت غير مناسبٍ لتسليط الضوء على هذه القضية، وإثارتها أمام الرأي العام المحلي والدولي، في وقتٍ نحن في أمس الحاجة إليه، ليتضامن معنا ويقف إلى جانبنا، ويساندنا ويتبنى قضيتنا، إذ أن عرض السلبيات وتسليط الضوء على العيوب في هذا الوقت بالذات قد يفقد الآخرين الثقة فينا، وقد يفضهم من حولنا أو يتسبب في انقلابهم علينا، ويرون بدلاً من ذلك أن نسلط الضوء على قضايانا الآنية الملحة، وشؤوننا الوطنية العامة، وأن نستر على بعضنا، ونخفي عيوبنا، وأن نطمس مخازينا، ونتجاوز عن أخطائنا، وأن نزين صورتنا ونحسن هيئتنا ونجمل مظهرنا، لنبدو أمام الآخرين بأجمل صورةٍ وأحسن هيئةٍ، فنضمن وقوفهم معنا وتأييدهم لنا، وإلا فإننا سنفقدهم ونخسر، وسيذهبون بعيداً عنا ونضعف.
إلا أنني وجدت أن أكتب في هذا العنوان بموضوعيةٍ وصراحةٍ، ومهنيةٍ وعلميةٍ، وباعتدالٍ دون غلوٍ، وعدلٍ دون ظلمٍ، غضباً وغيرةً، وحزناً وألماً، وحرصاً وخوفاً، وحكمةً ووعياً، رغم أن الجرح في الكف، والعيب في الأهل، والنقيصة فينا، والشتيمة ترتد إلينا، إلا أن الصمت عن الخطأ خطأٌ أكبر، وهو تكريسٌ لما هو أكبرٌ، وتأسيسٌ لما هو أخطر، لهذا وجب أن يعلو الصوت، وأن يلمس الجرح، وأن نضغط على مواضع الألم ولو تأذينا وصرخنا، إذ بدون ذلك فإننا نضحك على أنفسنا ونخدع شعبنا، ونزيد من خطورة المرض ونعمق الجرح ونبتعد عن الشفاء، ونزرع اليأس أكثر ونؤسس له في قلوبنا أعمق، ولهذا لا بد من الحديث فيما يراه البعض أنه نشرٌ للغسيل الخاص على الحبال، وإذاعةٌ للأسرار الداخلية في المذياع وعبر مكبرات الصوت.
يجب علينا أن نعترف بأن قوانا الفلسطينية وتنظيماتنا السياسية وفصائلنا المقاومة لا تولي إضراب الأسرى والمعتقلين عن الطعام الاهتمام الكافي، ولا تصنفه ضمن أولى اهتماماتها، ذلك أنها منشغلة بهمومها الداخلية ومشاكلها الخاصة، ويهمها مراكمة الإنجازات وزيادة الأرصدة على حساب معاناة الشعب وضيق حال المواطنين، وهي لا تنسق فيما بينها، ولا تنظم فعالياتها، ولا تشارك بعضها، ولا تساهم في أنشطة غيرها، ويعنيها أن يكون نشاطها هو الأنجح وحضورها هو الأبرز، ولو كان ذلك على حساب صورة الأسرى الموحدة، وظاهرتهم النبيلة المشرفة.
ولعل السلطة الفلسطينية هي أكثر المتهمين قولاً وفعلاً، فقد شغلت الشارع الفلسطيني بانتخاباتٍ محلية، وخلقت أجواءً تنافسية محمومة، في الوقت الذي يخوض فيه الأسرى أعظم معاركهم النضالية، بينما رئيسها يطوف العالم، وينتقل من عاصمةٍ إلى أخرى، ولا يثير مع من يلتقيهم أزمة الأسرى وإضراب المعتقلين، ولا يطالب نظراءه بضرورة الضغط على حكومة الكيان الصهيوني، للاستجابة إلى مطالب الأسرى وتحسين شروط اعتقالهم وظروف حياتهم.
كما تتهم أجهزة أمن السلطة الفلسطينية بالتنسيق مع المخابرات الإسرائيلية، لمحاولة الالتفاف على الإضراب، للسيطرة عليه والتحكم فيه، في ظل النوايا المسبقة بعدم الاستجابة إلى مطالبهم، أو القبول بشروطهم، وقد كان بإمكان السلطة الفلسطينية أن تستغل إضراب الأسرى والمعتقلين لتضغط على حكومة العدو، وتفرض عليها شروطها بشأنهم، وتحقق من خلالهم إنجازاً وطنياً يحسب لها، ولكنها أهملت وربما تآمرت، وقصرت وربما خانت، وقد تكشف الأيام القادمة عن بعض الأسرار المخزية التي لا نعلمها.
وبعض القوى تتراخى في فعالياتها وتقصر في جهودها لأنها ترى أن هوية المضربين الحزبية معروفة، وأن السواد الأعظم منهم من أبناء تنظيمٍ واحدٍ، وإن التحق بهم آخرون من مختلف القوى والتنظيمات الفلسطينية، التحاماً معهم أو مساندةً لهم، إلا أن هذا لا ينفي إحساس البعض بأن الإضراب يقوده تنظيمٌ واحدٌ، ويتحكم فيه فصيلٌ بعينه، وأن الهدف من الإضراب سياسيٌ وليس حياتي وإنساني، بل إنه لتعويم بعض الشخصيات الفلسطينية، وممارسة الضغط الدولي على حكومة الاحتلال للإفراج عنها وإطلاق سراحها، تمهيداً لأدوارٍ سياسية مرسومة لها، ومناصب قيادية موعودة بها، ومستقبلٍ منظورٍ قد أعدو له.
إن ما أراه من سلوكٍ فصائليٍ مريضٍ، وممارسةٍ سياسيةٍ عليلةٍ، وعقلياتٍ قيادية سقيمة، وسطحية فلسطينية رسمية ومزاجية تنظيمية غريبة، يجعلني أقف مشدوهاً أمام هذا الإهمال، ومصدوماً أمام هذه السياسة، ذلك أن هذا الوقت لا يجوز فيه الالتفات إلى المناكفات الشخصية والتنافسات الحزبية، والتناقضات المسلكية، والصراعات المصلحية، والمكتسبات النفعية، ولا لتسجيل المواقف الحزبية الضيقة، والانتصار إلى الذات والتخلي عن الوطني العام.
فهذا وقتٌ يجب أن يخصص بكليته لصالح الأسرى والمعتقلين، وفيه يجب أن نغض الطرف عن كل اختلاف، وأن نتجاوز كل مشكلة، وألا نقف عند أي مكاسب وهمية ومنافع شكلية، في سبيل أن تبقى قضية الأسرى والمعتقلين في المقدمة، تتصدر الأحداث، وتجذب إليها كل القوى والفعاليات، وتؤيدها الشخصيات والحكومات، وإلا فإننا نتحمل كامل المسؤولية عن إزهاق أرواح أسرانا، وعذاب نفوسهم ووهن أجسادهم، ويأس نفوسهم وإحباط قلوبهم، وإجهاض إضرابهم وهزيمتهم في معركتهم، علماً أنهم يعولون على شعبهم ويركنون إلى أمتهم، ولا يأملون خيراً من المتنافسين على السراب، ومن المتصارعين على التراب، وإنما أملهم في أهلهم الذين أنجبوهم، وشعبهم الذي أنشأهم، وإخوانهم الذين انتصروا لهم وانتفضوا من أجلهم.
وسوم: العدد 721