هل بدأ الربيع الكردي في العراق؟
الأيام القليلة الماضية لم تكن بشائر فصل الشتاء القاسي في إقليم كردستان العراق، وإنما كانت بداية لفصل الربيع السياسي الذي قلب المشهد العام في الإقليم رأسًا على عقب.
الأيام الثلاث الأخيرة حدثت خلالها انتفاضة شعبية مفاجئة في بؤرة ومقر الاتحاد الوطني الكردستاني (محافظة السليمانية، 355 كيلومتر شمال شرق بغداد)، وهي لم تكن مظاهرات عشوائية وإنما - كما يبدو - مخطط لها بعناية، لأنها استهدفت مقار الأحزاب الكبرى في المدينة (الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني وحركة التغيير والجماعة الإسلامية).
وعلى ضوء ذلك أصدر مجلس أمن إقليم كردستان، بيانًا للمواطنين دعاهم فيه إلى "عدم إفساح المجال للذين يسعون لتنفيذ أجندات سياسية واستغلال مطالب الناس المشروعة لتحقيق غايات أخرى، واستيعاب حساسية المرحلة وقطع الطريق أمام استغلال المظاهرات الاحتجاجية لتنفيذ أجندات سياسية".
المظاهرات الشعبية أحرجت القوى السياسية الفاعلة في الإقليم، لذلك حاولت بعض تلك القوى الهروب للإمام والانسحاب من العملية السياسية داخل الإقليم لإحراج حزب مسعود البرزاني والحفاظ على شعبيتهم في الشارع الكردي
وفي محاولة للتخلص من مسؤولية وصول الأمور لمرحلة الانفجار ألقى مجلس أمن الإقليم اللوم على حكومة بغداد، وأكد أنها "تتملص من الحوار وتسعى من خلال الهجوم العسكري والسياسي لتقويض تجربة كردستان لذا ينبغي توحيد الموقف وتوجيه التظاهرات السلمية بهذا المنحى".
فاتورة المظاهرات كانت مرتفعة الثمن، حيث واجهتها قوات أمن الإقليم بقسوة لم تكن متوقعة، وراح ضحيتها أكثر من 90 شخصًا بين قتيل وجريح.
المظاهرات الشعبية أحرجت القوى السياسية الفاعلة في الإقليم، لذلك حاولت بعض تلك القوى الهروب للإمام والانسحاب من العملية السياسية داخل الإقليم لإحراج حزب مسعود البرزاني والحفاظ على شعبيتهم في الشارع الكردي؛ ولذلك رأينا أن بعض القوى الفاعلة ومنها حركتي التغيير والجماعة الإسلامية قد انسحبتا من العملية السياسية في كردستان، وكذلك فعلت بعض الشخصيات البارزة منهم رئيس مجلس نواب كردستان يوسف محمد الذي قدم استقالته من منصبه.
التسارع في الأحداث ضغط على رئيس وزراء إقليم كردستان نيجيرفان بارزاني، الموجود في ألمانيا بزيارة رسمية لتوجيه رسالة إلى المتظاهرين في الإقليم، أكد فيها أنه يتفهم مطالب الجماهير ويؤيدهم فيها، وأن "التعبير عن الرأي حق شرعي وديمقراطي إلا أن منطقتنا تمر حاليًّا بظروف حساسة، لذا أطالبكم بالتعبير عن مطالبكم بالطرق السلمية"، مطالبًا القوات الأمنية بـ"تهدئة الأوضاع بموجب القانون وعدم السماح بتفاقم المشاكل".
العقوبات القاسية التي تفرضها حكومة حيدر العبادي العراقية على محافظات إقليم كردستان منذ عام تقريبًا يبدو أنها آتت ثمارها، وفجرت المشهد الشعبي ضد الأحزاب الكردية الفاعلة في إقليم كردستان العراق، ولهذا فإن المظاهرات الجماهيرية الغاضبة التي خرجت في محافظة السليمانية لم تكن مجرد مظاهرات احتجاجية، بل عبارة ثورة شعبية كاملة الأركان، ونتيجة متوقعة وطبيعية لسنوات من الضغوط الداخلية والخارجية على أبناء الإقليم.
مظاهرات الأيام الماضية أحرجت القيادة الكردية في أربيل - مقر حكومة الإقليم - وربما ستفتح الباب على مصراعيه لعدة احتمالات يمكن أن يشهدها الإقليم في قابل الأيام، وفي ضوء هذه التطورات يمكن ترجيح، أو التذكير بأهم أسباب الربيع الكردي:
1. تسلط بعض العوائل الحاكمة على مقدرات الإقليم، ومع مرور الزمن بدأت هذه الظاهرة تتوضح أكثر في المشهد الكردستاني، وبالذات بعد العام 2016، وربما وصل الموضوع لنقطة اللاعودة أو عدم تحمل المزيد من التسلط غير المبرر.
2. فشل غالبية الأحزاب الكردية - وبالذات الكبيرة منها - في تحقيق أحلام الكرد بحياة حرة كريمة واقتصاد مميز.
3. بعد استفتاء انفصال الإقليم عن العراق نهاية أيلول/سبتمبر الماضي، واستمرار الرفض المحلي والإقليمي والدولي لهذه الخطوة غير المدروسة التي أدخلت الإقليم في مأزق جديد أو غير متوقع، اختلف ميزان المفاوضات بين بغداد وأربيل لصالح حكومة بغداد المركزية، بعد أن كانت حكومة الإقليم تتصور أنها ستمتلك ورقة ضغط جديدة في مفاوضاتها المستمرة والمعقدة بشأن ملفات عديدة عالقة بين حكومة بغداد وحكومة كردستان، وهذه من أكبر التحديات التي تواجه حكومة الإقليم حاليًّا.
4. استمرار خطط حكومة بغداد الاقتصادية والسياسية وبقاء ضغطها على ساسة الإقليم لإلغاء نتائج الاستفتاء وتسليم المطارات والمنافذ الحدودية للحكومة المركزية، وكذلك نجاحها في حصار الإقليم بعد أن وصلت المفاوضات السابقة بين الطرفين إلى طرق مسدودة، كل هذه المعطيات أربكت حكومة الإقليم وأكدت عجزها عن تجاوز هذه المرحلة الصعبة.
5. نجاح حكومة بغداد وقواتها الأمنية في بسط سيطرتها على كركوك وغالبية المناطق المتنازع عليها بين بغداد وأربيل، أحرج الأحزاب الكردية الحاكمة، وبيّن هشاشة قواتها الأمنية، وبذلك فقدت حكومة البارزاني واحدة من أهم أوراق الضغط في مفاوضاتها مع بغداد.
6. انهيار حلم الدولة الكردية واتضاح أن حكومة الإقليم عاجزة عن إدارة الإقليم ولا يمكنها الاستغناء عن الدعم المادي والاقتصادي المقدم من حكومة العراق، وبهذا فقدت تلك الأحزاب أكبر عوامل الصبر الشعبي السابق على الأوضاع الاقتصادية السيئة التي يعيشها الإقليم، وهو الوعود بدولة كردية.
7. ظهور الخلافات بين الأحزاب الحاكمة في الإقليم، ووصول الأمر إلى الاتهامات بالخيانة والترتيب مع بغداد للانسحاب من المناطق المتنازع عليها، خاصة بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني.
أرى أن في المرحلة القادمة - إن لم يتدارك فيها الزعماء الكرد الأزمة الاقتصادية الصعبة عبر ترميم البيت الداخلي الكردي وترطيب الأجواء مع بغداد، وذلك بإدخال اللاعب الأمريكي والأوربي للمصالحة بين بغداد وأربيل - سيصل الغضب الشعبي لمراحل بركانية لا يمكن السيطرة عليه، وحينها تكون بغداد قد نجحت في تدمير البيت الداخلي الكردي
8. تمكن حكومة بغداد من تفكيك الصف الكردي وسحب البساط من تحت أقدام حكومة مسعود بارزاني، وذلك عبر التحالف غير المعلن مع الاتحاد الوطني الكردستاني، حزب الطالباني، ومعلوم التقارب الإستراتيجي بين الاتحاد الوطني الكردستاني وإيران، وعليه يمكن أن تكون هذه الخطوة قد أحرجت حكومة البارزاني بشكل كبير.
9. إصرار حكومة بغداد على فرض شروطها قبل عودة المفاوضات مع أربيل ومن أهمها إلغاء الاستفتاء وتسليم المنافذ الحدودية والنفط، وهذه الشروط القاسية جعلت حكومة الإقليم والأحزاب الكردية كافة في موقف محرج جدًا، وربما ساهم هذا الإصرار على ظهور تلك الأحزاب بموقف القوى العاجزة عن إدارة الحوار أو اللعبة مع بغداد.
10. تبخر الوعود الدولية والإقليمية المعطاة للبرزاني بالوقوف معه في مرحلة ما بعد الاستفتاء على الانفصال عن العراق، مما أضعف الثقل السياسي لحكومة البرزاني على مستوى الإقليم والداخل العراقي والمستويين الإقليمي والدولي.
وبهذا - وبموجب هذه المعطيات الواقعية وغير المفترضة -، فربما ستحمل الأيام القادمة الكثير من الخطوات الشعبية الكردية أو الحكومية العراقية التصعيدية لإبقاء حكومة الإقليم في موقف هش، خاصة مع اقتراب الانتخابات البرلمانية في عموم العراق بعد خمسة أشهر تقريبًا.
ولهذا أرى أن في المرحلة القادمة - إن لم يتدارك فيها الزعماء الكرد الأزمة الاقتصادية الصعبة عبر ترميم البيت الداخلي الكردي وترطيب الأجواء مع بغداد، وذلك بإدخال اللاعب الأمريكي والأوربي للمصالحة بين بغداد وأربيل - سيصل الغضب الشعبي لمراحل بركانية لا يمكن السيطرة عليه، وحينها تكون بغداد قد نجحت في تدمير البيت الداخلي الكردي، وتكون الأمور قدر خرجت من نطاق سيطرة أربيل وهذه الاحتمالات السوداء ستدخل العراق بأكمله - وليس الإقليم وحده - في دوامة جديدة لا ندري كيف يمكن أن يخرج منها؟!
وسوم: العدد 752