كان الشيخ علي الطنطاوي من أبرز شهود القرن ودعاته، علماً وحكمة، وعقلاً وذكاء، وبياناً وفصاحة، وطرفة بديعة، وثقافة واسعة، وقدرة على مخاطبة جميع المستويات والأعمار والتأثير فيهم : رحمة واسعة وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء وعوضهم عنه خير العوض. ولد الشيخ في دمشق عام 1327هـ- 1909م، وتوفي في جدة يوم الجمعة 4/ 3/ 1420هـ - 18/ 6/ 1999م، ودفن بمكة المكرمة حرسها اللَّه. كانت حياته غنية متنوعة، وهو ما يتيح لأصحاب الأقلام الكتابة عنه من جوانب كثيرة في أعمال علمية، أو أدبية على السواء.
وبهم إلى الرائي([2]) استباق ذوي هوى=إن قيل جـاء الألمعي المفلق
يا طالما غنيتها وعشقتها=ودمشق ([5]) حسن عند مثلك يعشق
([1]) كان الشيخ أشهر محدثي الإذاعة والتلفزيون في عصره ، وكان الناس على اختلاف طبقاتهم يتحلقون حول التلفزيون حين يطل منه وفيهم شوق أخاذ .
([2] ) «الرائي» كلمة اقترحها الشيخ بديلاً عربياً عن «التلفزيون».
([3]) كان الشيخ يحزن كثيراً لما يراه بين الدعاة من خلاف ، وكان يدعو كثيراً إلى جادة وسطى مشتركة تسعهم جميعاً، وكان يفرح كثيراً إذا أصلح بين بعضهم .
([4]) النمرق: الوسادة الصغيرة.
([5]) كان الشيخ عاشقاً للشام عامة، ولدمشق خاصة.
حم الرحيل وما رأيتك تشفقُ=وأجبته والوجه طلق مشرقُ
فعجبت يا شيخي وجئتك سائلاً=فيم البشاشة والرضا والرونق
كيف ابتسمت وكان بشرك كالسنا=ولمن هششت ومن لقيت ومن لقوا
والعهد أن الموت يرهبه الفتى=ويخافه حتى التقي الأصدق
فأجبت إني للرحيم مسافر=فعلام أشكو يا بني وأقلق
واللَّه رحمته ملاذي مُشْرعاً=أبوابَه وبي الرجاء المطلق
أني ظفرت بها فماتت خشيتي=قبلي فقل أنّى أخاف وأشفق
* * *=* * *
سبعين عاماً عشت فارس حلبة=لك في المحافل شدة وترفق
أبداً بيانك كالحسام مظفر=وثباتك المعهود عزم يبرق
واللين أنت وأنت فيه نضارة=فإذا عدا العادي فأنت المحنق
ويعينك الإيمان وهو حمية=ويعينك القول الجميل الأليق
ويعينك العلم الغزير وحبه=ويعينك العقل الذكي الأسبق
ويعينك الحب الذي قد نلته=بين الأنام فإن رأوك تحلقوا([1])
مطروفة أبصارهم مأخوذة=فيهم هيام الطفل حين يحدق
* * *=* * *
عقل يجوب المعضلات فيجتلي=أغوارها وخبيئها ويدقق
ويزفها للناس تزهر كالضحى=والسامعون تشوف وتشوق
وعلى الوجوه إذا رأوك مودة=وعلى القلوب بشاشة وتعلق
وعلى العقول وقد أسرت ذكاءها=ألق الهداية وهو ضاف مورق
أما خيالك فهو حي مبدع=يعلو ويستبق النجوم فيسبق
* * *=* * *
كنت البيان سريه وجليه=يتلى فيطرب أو يقال فيعشق
تبكي الفصاحة بعده أمجادها=وتظل من حزن شجاها تطرق
وتقول هل من فارس من بعده=يهب الروائع كالسنا ويحلق
أم أن أغربة البيان وبومه=خلت الديار لها فراحت تنعق
* * *=* * *
يفني الزمان مدائناً وقياصراً=ويزول مُثْرٍ في الحياة ومملق
وعطاء مثلك دائم متجدد=يهفو إليه مغرِّب ومشـرِّق
نضر يجدد كل حين حسنه=فجماله غض قشيب مونق
كنز يزيد إذا حبا قصاده=ما يشتهون ولا يضن ويفرق
يربو على الإنفاق وهو حبيبه=وإذا حبا فهو الجواد المغدق
ويظل يحلو فهو بهجة مجتل=والحسن فيه نضارة تترقرق
كالروض باكره الحيا فإذا به=ورد ونسرين يفوح وزنبق
وعنادل وبلابل محبورة=نشوى تزغرد فرحة وتصفق
أما الكنوز المقفلات فإنها=عبء لأهليها ثقيل مرهق
ولقد تبددها سفاهة وارث=يعدو عليها أو يضل ويفسق
والمال سيد من يعيش كأنه=عبدٌ له فهو الأسير الموثق
والمال عبد عند آخر لا يني=عن بذله في الحق فهو مرهَّق
فاهنأ بكنزك يا علي فإنه=أغلى الكنوز الباقيات وأسمق
* * *=* * *
المسلمون عشيرة لك كلهم=إن يحزنوا أو يفرحوا أو يقلقوا
تأسى لهم وتذود عن حرماتهم=وتكاد من آلامهم تتمزق
فإذا انجلت عنهم وعنك همومهم=ضحكت بوجهك بسمة تتألق
وإذا صنعت الفضل لم تطلب به=إلا الإله فأنت راضٍ مطرق
أمّا الدعاة فأنت فيهم والد=يحنو ويصلح بينهم ويوفق([3])
* * *=* * *
وإذا عكفت على الكتاب فآية=تجلى لديك فليس فيها مغلق
وإذا خلوت بربك الملك الذي=يهب الحياة كما يشاء ويرزق
راعتك قدرته فقلبك واجف=مــــن روعـة خشعــت ودمعــك
أقداره في الكون وهي طليقة=هذا يموت بها وهذا يخلق
غشيتك منها رعدة وضراعة=فإذا بك الصمت العميق المطبق
لا العقل يقتحم المجال كعهده=حُراً وقد سكت اللسان الأذلق
ولربما غمرت فؤادك فرحة=من جوده فإذا به متشوق
وإذا به يسري إلى ملكوته=ويطير في أجوازه ويحلق
ويقول يا بشراي قد نلت الرضا=من خالقي وهو الجواد المغدق
فأنا السعيد إذن وغيري في الشقا=وأنا الغني إذن وغيري المملق
* * *=* * *
ومضيت حين مضيت كل ثنية=في الأرض ودت أنها لك نُمْرق([4])
لكن ظفرت بمكة ولقد رجت=أن وسِّدتك مع المحبة جلق
وحباك ربك عن دمشق مكة=وهي الأجل جلالة والأعرق
وسكنتها حياً وميتاً بوركت=سكناً تظل له النفوس تشوَّق
وسكنت جار المروتين وزمزم=وحراء جارك وهو هدي يعبق
والكعبة الزهراء منك قريبة=وحفية فيها السنا والرونق
يا طيب حظك بالجوار وأهله=لما أتوك بشائراً تتدفق
* * *=* * *
نم حيث أنت لك الملائك مؤنس=في روضة بنعيمها تتأنق
كرم الإله يزيد من أمدائها=فيزينها من كل حسن ريِّق
لا تأس قط على الحياة تركتها=ورحلت عنها فهي سجن ضيق