قريتي تبكي حزينة

د. ماجد عرسان الكيلاني

قريتي تبكي حزينة

قريتي ثكلى تنادي:

أين أهلي ورجالي

أين زراع حقولي وتلالي

أين من غطوا جبالي

بغراس التين والزيتون والكرم الدوالي

هجروني قد مضوا خلف المحال

هجروني نحو أضواء المدينة

ليصيروا خدماً في مطعم، في كرنفال

ليعيشوا في (زواريب) وأكواخ ذليلة

ليصيروا شرطة تحرس أوكار الرذيلة

منهمُ من صار جلاداً لفرعون القبيلةْ

منهمُ من صار جاسوساً على أهل الفضيله

منهمُ من صار قواداً لدى الست جليله

*  *  *

مسخوهم! كل شيء قد تغيرْ

بدلوا خبز الطوابين المحمّر

من يديْ أمٍ حنونٍ

أو يديْ زوجٍ ودودٍ

بدّلوهُ بخليط الجير والقمح المؤمركْ

دفعوا من أجله الأوطان جمرك

كل من باشره للنسل يُهلكْ

كل من يأكله للموت يُدرك

كل من قارفه بالله يشرك

*  *  *

بدلوا لحم الخراف البدوية

قد رعت عشباً وأعلافاً نقية

في ربى الوديان والأرض الزكية

بدلوه بقديد البقر المجنون واللحم المجمدْ

كل من قارفه لابدَّ لابدْ

ينتهي بين المشافي في سرير الموت يرقد

*  *  *

بدلوا خبز الفطاير

بخليط البيتزا هوت

لا إلى الجبن ولا القمح تمُتْ

بدلوا الديك الذي ربته أم يعربية

بدجاج يحمل الهرمون جلاب المنية

بدلوا الليمون واللبن المصفى

بشراب معدني اسمه كولا وببسي

إن أنا قارفته تعتل نفسي

*  *  *

قريتي ثكلى حزينة

قريتي تندب نسوان القبيله

يوم كانت جدتي الكبرى أمينه

تشبع الجيران زبداً وشنينه(1)

وبنات الحي ربات الحجالِ

زمراً يشددن من عزم الرجالِ

في مروج الزرع أو جمع الغلالِ

هجّروهن إلى زيف المدينه

هجروهن إلى رق المكاتب

سكرتيرات إلى أهل المناصب

عاملاتٍ، ضائعاتٍ، بين أخلاط الشعوبْ

كاسيات، عاريات، بين شذاذ الدروبْ

من طلوع الفجر حتى تختفي شمس الغروب

وإذا ما الشهر ولى وأتى دفع الرواتبْ

نقدوهنَّ أجوراً لا تفي أدنى المطالب

لا تغطي ثمن البنطال أو زوج الجوارب

لا تغطّي الهاتف النقال أو صقل الحواجب

*  *  *

قريتي تبكي حزينة

قريتي ثكلى تولول

كيف غابت من حمى شعبي الرجولة

يوم كان الحقل والبستان والأنعام "ماعون" البطولة

تملأ البيت حبوباً وثماراً وبقولا

تملأ الجرّات زيتاً تُشبع الحاراتِ لحماً

لا يخاف الناس عرياً

لا ولا جوع الطفولة

يصرعون الغاصب المحتل

ينصرون الدين والأخلاق والقيم الأصيلة

بدلوها بدنانير قليلة

منّةٌ لا الجوع تطفي لا ولا تشفي العليلا

تورث الجبن وتجتث الفضيلة

وتحيل الشعب أرقاماً وقطعاناً ذليلة

*  *  *

قريتي تبكي حزينة

قريتي ثكلى تولول

كيف جفّ الرافدان

زارع الأرض وراعي الغنمِ

يوم كانا نحو أسواق المدينة

منهما تجري سيولُ النّعمِ

من طلوع الفجر حتى الظُلَمِ

كيف غارت! كيف صارت خاوية

منهما تلك المروج الزاهية

كانت الصحراء مهد البادية

تنشر الأغنام مثل الفيلق

من طلوع الفجر حتى الغسقِ

والخراف البيض تزهو في الربيع

والجباه السمر تحدو للقطيع

وبيوت الشعر تشري وتبيع

تملأ الأسواق صوفاً وجلودا

تشبع الأحياء سمناً وجميدا

وإذا حل المساء

وخبا صوت الرعاء

تشبع الليل حداءً وقصيدا

مسخوهم: كل شيء قد تغير

جعلوهم خشباً في زي عسكر

تحرس الظلم لأمريكا تؤجر

لا يصدون عدواً

لا ولا أرضاً تحرر

جثث مركوسةُ في كل واد أو معسكر

يحرسون الظلم، في سجن الرجال

يحرسون الحر، أكوام الرمال

يصرفون الوقت في حلق الذقون

يهدرون اليوم في مسح النعال

يسهرون الليل في قيل وقال

فإذا الصبح أطل

هرولوا فوق الرمال

في طوابير طوال

وعلت أصواتهم: "أُعلُ هُبَلْ! أُعلُ هُبل"

*  *  *

قريتي تبكي حزينة

قريتي تندب ديوان القبيله

حيث جدي بين أنغام الربابه

ينشد الأضياف أو جمع القرابة

درر الحكمة، أمجاد الصحابة

وعبير القهوة السمراء والهيل المعطر

يمنح السمار دفئاً لا يصور

بدلوه بدكاكين المدينه

كرم في الباب، سلبٌ في الكبينة

كل دكان له اسم مزوّر

هذا "كنتاكي" وهذا "ماكدونالد"

ينهب الجيب به لص ألد

جاء في ركب العدو المستبد

يلتقي فيه نفايات الشعوب

بعضهم من كان أصفر

بعضهم من كان أشقر

بعضهم من كان أسمر

تبصر الشكل فتنكر

بعضهم يلبس بنطالاً مشرشر

بعضهم من خلع الستر وشمر

بعضهم من جمع الجنسين في جسدٍ مزور

لا سلام، لا كلام، لا تحية

همهم ما يدخل البطن وما يذكي الشهية

نضبت فيهم صفات الآدمية

أُعدم الإنسان فيهم واختفى

لا ترى منهم سوى سوء القفا

*  *  *

قريتي صاحت حزينة

هذه ليست مدينه

لا أرى المنصور فيها والرشيد

يرفعان المسجد الجامع للعلم منارة

لا أرى مالك فيها

مشرقاً يروي تفاصيل الموطأ

لا أرى الشافعي فيها

يصنع الفقه لصُناع الحضارة

لا أرى الأحناف فيها

هديهم في الكون سارا

لا أرى أحمد فيها

يرفع السنة للعيش شعارا

لا أرى فيها الغزالي

يبتغي العلم زكاةً وطهارةْ

بدلوهم بأناسٍ ضيعوا العلم فصارا

سلعةً تُبتاع بـ "الساعات" في سوق التجارة

بدلوهم بـ (نجوم الفن): الفن المعهّر

قينة مسلوبة الأخلاق تقرف

فرقة من خلفها للفحش تعزف

وجماهير كما القطعان تجأر

طغمة عاثت فساداً

عند ذكر الشر تذكر

*  *  *

قريتي صاحت حزينة

هذه ليست مدينة

هذه مسخٌ غريبٌ

جلبوه من ديار الكفر سوقاً عولمية

تطرد الخير وتنفي كل من كان سويا

وأرى قارون فيها نافخ الكرش عتيا

يبتني في كل ركن محفلاً للفسق أحمر

يبتني في كل حي معبداً للمال أكبر

يجعل الأسواق تزخر

بدراويش المطاعم والمشارب

بدراويش الملابس والمراكب

وعلى باب خنيث الشكل أزعر

دائم الإنشاد يهتف:

يا عباد المال هيا

اجمعوا أكثر فأكثر

كبروا المال وقولوا

دائماً المال أكبر

يا عباد البطن هيا

استهلكوا أكثر فأكثر

سيداتي، آنساتي

البسوا أقصر فأقصر

ارتدوا كل مثيرٍ

يبرز الحسن وأكثر

كل من يبتاع أكثر

من هدايا السوق يظفر

كل من أنفق قرشا

عند رب المال يُذكر

*  *  *

قريتي قالت حزينة:

هذه ليست مدينه

هذه وكر ذئابٍ

هذه ليست عواصم

هذه شر القواصم

هذه خزيٌ وأعمال مشينة

حانة اللهو ودنيا الضائعين

لقطاء للحضارات الزنيمة

غرهم زيفٌ كوهم الواهمين

اتخذوا القرش إلهاً

غير أن القرش رب

من سلالات اليهود

كلما قاموا له عند الصلاةِ

هتك الستر وداس الحرماتِ

              

(1) شنينة: من عامية أهل الشام وهي اللبن الذي يبقى بعد استخراج الزبد من الحليب.