الأدب التدمـري

هذه مجموعة قصائد كتبت في الأذهان, وليس على الورق, لأنه كان ممنوعاً علينا في السجن القلم والورق.. كتبتها جميعها في سجن تدمر.

سجن تدمر لم يكن سجناً تقليدياً, بل كان مسرحاً لقصصٍ تفوق الخيال, ومصائب تهدُّ الجبال..

ففيه الإرهاب المستمر اليومي..

وفيه هدر كرامة ودم الإنسان..

وفيه التفنن والتلذذ بتعذيب العباد...

وفيه المذبحُ للسفاحين من أجل تصفية البشر والإعدامات السرية..

في كل لقاءٍ مع زبانية السجن.. سواءاً في توزيع الطعام الشحيح الممزوج بالقذارات, أو في ما كانوا يسمونه "تنفساً", أو في "الحلاقة"... وهي أسوأ كابوس شهدناه.. أو في أي خروج من المهجع... هناك قصة ألمٍ تُحكى, ومشاهد تعذيبٍ تروى... فمنا من قضى نحبه فور دخوله السجن فيما يسمى "حفلة الاستقبال" ضرباً بالسياط أو ركلاً بالأقدام, ومنا من قضى بعد ذلك في ساحات السجن ضرباً بالعصي والقضبان, أو خنقاً.. أو تسلية.. بأيدي الشرطة المجرمين, أو فسخاً, أو دوساً وقفزاً على الصدور, أو رمياً في الهواء محمولاً من أطرافه الأربعة فتتكسر عظامه, أو مرضاً بالسل والكوليرا ... ومن نجا من كل ذلك كان عليه أن يكمل رحلة العذاب... حتى عندما كنا نخلد إلى مهاجعنا, يأتينا الشرطيُّ ليلاً من سطح المهجع ليكمل الرواية من النوافذ والطاقات, وينغص علينا ليلتنا, ويأمر أحدنا بضرب الآخر بالحذاء أو "الشحاطة" أو صفعه أو صب الماء عليه في الشتاء القارس, عداك عن سيل السباب وأقذر الشتائم... والويل في صباح الغد لمن لم يحسن الأداء.

هي قصائد كتبناها عفوياً, ربما لننفس عن شيء من آلامنا.. قصائد كتبناها لنواسي أنفسنا وليس للنشر.. لأننا في الحقيقة لم نكن ننتظر أن نبصر الضوء, أو بعبارة أخرى لم نكن ننتظر أن نخرج من سجننا أحياء.. فهي قصائد تنقل واقعاً أليماً بتفاصيله بكل صدق وأمانة, وتعكس إحساساً لن يشعر به إلا من عايشه, وترسم صورة يندر أن يراها أحد.

أسرد هنا مجموعة من القصائد, منها ما كان من نظمي, ومنها ما نقل إلي وسمعته فأعجبني وحفظته, حتى إني أجهل أسماء مؤلفي بعضها ولا أعرفهم.. وطبعاً هناك الكثير مما لم يصلني, أو نسيته.

تجربتي مع الشعر

إعدام أخي صلاح - رحمه الله - كان حدثاً مفصلياً في حياتي, ووقع الألم في نفسي كان رهيباً, وظل يلازمني لسنوات طويلة.. في البداية لم أصدق ما حدث وأحياناً كنت أظن نفسي في كابوس ثقيل, وطالما أفقت من نومي مذعوراً لأجد نفسي بين جدران المهجع السوداء.

لم أكن يوماً شاعراً ولم أتوقع أن أنظم شعراً, ولكن الإحساس المضطرم في نفسي جعلني أبحث عن وسيلة للتعبير, مما دفعني إلى أحد الإخوة في مهجعي أن أطلب منه أن ينظم قصيدة في هذا الحدث الرهيب, وكان ذلك... ثم فكرت أن غيري مهما تفاعل معي لن يستطيع أن ينقل إحساسي, فلماذا لا أحاول أن أعبر عما يجول في خاطري بنفسي.. وهنا بدأت مسيرة الشعر... أتمتم بأبيات بسيطة مكسرة, ثم أخذت أتعلم ضوابط الشعر وأتحسن في الأداء وأنظم الشعر وأحفظ كل ما أسمعه من بديع قصائد السجن.

قصيدتي الأولى هذه كانت عفوية وبدون علم بالبحور والأوزان... مليئة بالأخطاء (صححتها لاحقاً).. كانت صوتاً حزيناً شاكياً حملت حرارة المشاعر التي انتابتني بعد استشهاد أخي صلاح وثلةٍ من إخوانه الأبرار...

أنشودة الشهداء

وسوم: العدد 664