يُبَشِّرُ بالعَاصِفَة
لقد أحرقت مراكبي، فأعينيني
طاسين المكاشفة
كيف لا أعينك وهذا البحر داخلك يبرك لقباء الثانية؟ وكيف لا أقول: ضفائري لجيادك العقال؟
سفْر الماء
المنْفى
أبي، يا أبي
لقد حلّ ما حلّ بي
لأني قفوتُ خطاكَ
وزينَ إبليسُ لي الأكل من هذه الشّجرة
أبي، يا أبي
أجِرْني... وخُذْ بزمامي
إلى دوحةِ المغْفِرة
أبي، يا أبي
أتيتَ إلى الأرض من جنّة الخلدِ،
جوعانَ... عريانَ...
ظمآنَ... ضحيانَ...
لكنّ أميَ كانت لك الزَّاد والدِّفْءَ،
والوِردَ والظلَّ،
كانتْ لك الأملَ المشْتهى
ولكنني جئتُ من سدْرة المنْتهى
وجنَّاتِ عدْنِ
نعم، جئتُ للأرض يا أبتي مفردًا
ولا قلبَ يحنو عليّ، ولا كفّ تمسح حزني
ولا صوتَ يسكن، بعد انتشاء المحيطاتِ، صوتي
سوى الرِّيحِ.
لا زادَ يا أبتي في الجرابِ
سوى طعنةِ السُّنْبُلةْ
ولا ظلَّ يا أبتي أستجير به
سوى لعنةٍ منْزلةْ
فما الفرقُ بين سليلِ الجحيم وبين عواءِ التراب؟
وما الفرقُ يا أبتي،
آه، ما الفرقُ بين طعامِ الأثيمِ
ومخمصة الرُّوح؟ يا للعذاب.
ها أنا يا أبي واقفٌ عند بابِ المدينةِ:
يُؤْذَنُ لي
ليس يُؤْذَنُ لي
ها أنا أَصْطلي
جَحيمَ اصطباري
وحُمَّى انتظاري
وبفصلِ الحصادِ
يَتنكَّرُ لي
مِنْجَلي
ها أنا أستعيذُ بخيط الوعود الجميلةِ،
والكلماتِ النبيلةِ،
والزَّنْبَقَاتِ التي نفشتْها على شطّ أحلامِ مستقبلي
أستظلُّ بأفياءِ سنبلةٍ
تُغَنِّي لبحْرٍ بعيدٍ، بعيدْ
يعيدُ إلينا انعتاقَ الجروحِ
وتُبَشِّرُ بالعاصفَة:
من تكون؟
من تكون؟
أوّل الغيثِ؟ أم أوَّل الصَّمْتِ؟
أم قطرةٌ من دمٍ فجّرَ القَيْدَ؟
دربي يَسِيحُ بنهْرِ الرَّمادِ
والأحبةُ قد رحلوا
بآيات عشقهمُ، وبتاج الجهادِ
أبي، يا أبي
إنّني مُغْرَقٌ، مُغْرَقٌ،
ألا نهْرَ أَطْعَمُ منه فتفنى الذُّنوب؟
ألا نارَ تغْسلني فأتوب؟
دعاني الهوى لحظةً فأطعتُ، فكان الرَّدى.
ترجّلْ إذن أيُّها المستجيرُ بمن لا يُجيرُ
وأطلقْ جيادكَ للرِّيحِ،
إنَّ ضَفَائِرَ محْبُوبِكَ اليومَ محجوبةٌ عنكَ،
ما من عِقَال
ترجَّلْ، وأرسلْ عُوَاءَكَ في الأرضِ،
لنْ يشربَ النَّخْلُ دمْعَ المحبِّينَ
لنْ تقبَل النَّارُ قربانَ مُسْتعْصِمٍ بالخرابْ
طريقُك لا ظلَّ فيه
إذا أنتَ لم تطْرُقِ البابَ ليلا
وحزنُك يا بن الأماني الأسيرةِ
مُغْتَسَلٌ باردٌ وشرابْ.
أبي
يتقدّمُ متَّكِئًا
على جُرحِهِ، وهْو يعشقُ رائحةَ الأرضِ، لونَ التُّرابِ
ولكنَّ هامتهُ في السَّحابِ
يتألّمُّ من لسْعة الدَّاءِ،
لكنَّهُ يتَنعَّمُ في روضةٍ تتأنَّقُ منْ هِمَّةٍ
أيْنَعَتْ في الضّلوعِ،
فلَمْ تَسْتَثِرْهُ القوافلُ وهْي بأحمالهنَّ تميلُ
يُريهمْ من الضّعفِ بأسًا شديدًا
ويسقي المدى عَزْمَهُ ويقولُ:
غِنى النَّفْسِ زادٌ،
تزولُ الجبالُ وتفنى، وليس يزولُ.
الملكوت
يميني، وما ملَكَتْهُ يميني
فدًى لكَ، يا من تنصّبني ملكًا
فوق عرشِ المكابدة الفَرْدِ
تفْتحُ عصر المساكينِ والفقراءِ
تزلزل بالأحرف الخضْرِ ذاتي
وتغْمر بالبشْر مملكتي والضياءِ
وبالكبرياءِ
فدًى لكَ، يا من تتوّج من صولة الرِّيف رأسي
وتمنحني سرّها الأرقميَّ،
فتطفح بالنور كأسي
وتصنع من صبوة الأطلس المستهام
حمالة سيفي
وأقمار صيفي
وتُلبسني الشدّ، عند تولّي الفوارس،
تسرج عند الغداة جوادي
وتوقظ بأسي
فتنبجس الأرض بالحَبَق النبويِّ
ويُشرق بالوهَج المستفيض محيّا السماء
فدى لك
يا من تُغَنِّي، فتحرق أثوابَ ذُلِّي
وتغرق في لجّة المستحيلِ
مراكب يأسي
أنا الآن أدخل مستبشرًا غمرات المنون
وأهتف يا من نفختَ بعزمي اليقين:
أيّتها السنبلة
شكوتُ إلى الله آلام قلبي
فأكرمني بضيائكِ،
أوقدتُ منه قناديل دربي
فأشرقت الأرض بالنّورِ، يا ثورتي المقبلة
وقامت لتخلع عنها ثياب مذلّتها المرحلة
واضحٌ أنا كالبرق في طيلسان المساءِ
واضحٌ كاختلاج الدِلاءِ
كعندلةٍ تتسلَّقُ أوردة الرابية
واضحٌ وعميقٌ كلؤلؤة البحْرِ،
كالصَّمت في أنَّةِ السَّاقية
عانقيني إذنْ...
وامنحيني جحيمكِ أيّتها الهاوية
أعيني فتاك على لعبة الصمت كي يستريح
ويدفن أسرار غربته الكاوية
علميني، وقد أدْلج الصَّحْبُ، كيف أخبّئ أسراريَهْ
وألبس في الليل وجه النهار
كيف أجعل لؤلؤةً كلَّ ما يلفظ البحرُ
أو يتجشَّأ هذا المحار
يا سليل التباريحِ،
يأتيك موتك/مجدك في شكل زنبقة ناعسه
فاعتصم بأعاصير صدقك
واكتب وصاياك قبل الرحيل
على جذع أنّاتك الهامسة
لمن هذه الأرض؟
لله يورثها من يشاء
له الكبرياء، له الجبروت
له الخلق، والأمر، والملكوت.
قال لي جبل الرّيف
قطرة من دمي
على جبل الرِّيفِ ترسم دائرتينِ:
فواحدة لانتصاري
وأخرى تقدّم لون احتضاري
يُلوّح بي قاتلي ويغنّي:
قد اشتبهتْ في عيونِكَ بيض المسالكْ
وليس الطَّريقُ هنالكْ
وما كنتُ أعمى،
ولكن إذا زلَّ قلبٌ وتاه الدليلُ
تضيع السبيلُ
وماذا تراها تقول الطلولُ؟
أحبّاء قلبي، رياحُكمُ أسلمتني إلى الشّكّ.
يا ليتَ أوْسَعَتْني جروحا
ويا ليتها هيّأت لي ضريحا
وما أسلمتني
ولكنها تركتنيَ نهبا
أعالج وحديَ أمطار شكّي
وأندبُ خضرة أيكي
أحبّاء قلبي
سيرحل جيلُ
وينهض جيلُ
سيعلو الأزاهيرَ بعد الرّواء الذبولُ
ولكنّ نسيانكم مستحيلُ
أحبّاء قلبي
لئن أنكرتني مُروجُ الغداة
وعفّى عهودي حمام الأماسي
لئن مسحت كلماتي السيولُ
وأنكر عُشّي الهديلُ
وغادرتُ من غير آسِ
ستدركني رحمة الله، من بعْدِ عُسْر
وتخْضرّ من صبواتي الحقولُ
ويعلو الصّهيلُ
قال لي جبلُ الرِّيفِ:
للجُرْحِ صولتُهُ
ولو بعْد حين
وللعِرْض فتكته
ولو بعْد حين
وللجوع غضبته الفاصلة
ولو كنتَ مني لأشرعتَ وِرْدك للطير والسابلة
وألجمتَ خوفك، والشَّهوةَ القاتلة
قال لي جبلُ الرّيفِ: لو كنتَ مني
لما كنتَ أَتعبت خيلك في باطلٍ
ولا كنت أَتْبَعْتَ نفسك جهلا هواها
ولا كنت أشعلت في الأضلع اللذة الواغلة
ولو كنت مني
لدافعتَ عني
وأعددتَ سيفك للثورة القابلة
وقال نخيل سِجِلْماسّةَ: انهضْ
إذا ما حبيبك لاذ بصدّ
وأوقدَ نار التحدّي
فلذ بالذي لا يجار عليه، وقل يا فؤادي
تمتّع بريحانةِ الهجر هوناً
ولا تحبس القطرَ
إنّ المحبة إمضاء وعدٍ
ومرحمةٌ، ويدٌ باذلةْ
Vincent Van GOGH
( إن الحزن يدوم إلى الأبد )
فان غوخ
لفان غوخ أن يرسم الآن ما شاء من لوَحات
وأن يرسل الدمع في الطُّرُقات
له أن يبثَّ الحجارة أسراره
فينبجسَ الماءُ،
أو يُطْلِعَ اللّوز نوّاره
له أن يُخبّئ في القلبِ أشرعةَ الحُزْنِ ليلا
وأن يرسم الفرَحَ الموسميَّ على شفةٍ مبهمةْ
له أن يغني
ويركبَ في زورقٍ يشتهيه عُباب الدموعْ
له أن يبارك أحلام تلك الجموعْ
وأن يطعم الناس إن شاء منّاً وسلوى
له أن يوزّع بين الجياع دمهْ
له أن تجفّ الدموعْ
فيرسل من صبوة الروح لحناً
له أن يُهيّئ قبر الطغاةْ
وينطق فرْشاتَهُ بجميع اللغاتْ
له أن يحزّ الوريدَ
ويشحذ سيفا
ويجدع أنفا
ويقطع أذنا
له أن يموت كما شاء
من طعنة السيف لا فرق أو من صبابته المحْرِمةْ
له أن تحجّ الطيور إلى كعبتهْ
ويصدحَ تمثاله في شوارع لاهايَ
أو يستقيم عموداً من النور،
أو يستظلَّ المحبّون في خيمتهْ
له أن يصيح ويجأرَ من لسعة الحبِّ،
يضربَ في الأرض، أو يستريح
ستذبل لوحاته تحت وقع الغزاة
وسوف تُشرّد نحو جميع الجهات
وتشرب بيداؤه من بحار الوله
إذا حجبتْ نورَها السنبلة.
سرّ الأبديّة
عندما سالت على البعد نجاوانا صلاة سندسية
وسجدنا تحت عرش الله
وابتلّتْ شفاه القلب بالذكر ابتهالاتٍ نديه
قالت الريح: سيفنى كلُّ شيءٍ
وسيغدو الحب يوما أثرا من بعد عين
قلتُ: كلا، نحن روح واحد في جسدين
قد قبسنا من جلال الله سر الأبدية
الزّنبقة
الأرض تأكل أبناءها وتموتْ
وأحلامنا الحجرية كانت لجوعتها خير قوتْ
سعى البحر في أضلعي لوعة
ويشهد أن الجراح وراء المرايا
رداءُ هدًى نسجته براعم صوتي وصوتكِ
قبل انتشار التباريح فوق عراء البيوت
وقلتِ: تحصّن برؤياك حتى يفوح الشذا
ويفتح أبوابه الملكوتْ
أنت رابعةٌ حين تنتشرين على آهة القلبِ
رجْعَ صلاة، ونبض قنوتْ
ورائعةٌ حين تلتحفين بهاء السكوتْ
أنت عند الرّضا ظلُّ أرجوحةٍ من لهبْ
وعندلة ٌكالتسابيح عند الغضبْ
على عنقي، وعلى نبضات يقيني
ضعي خنجر الصدّ أيتها السنبلة
فأستارك المسْدلة
وأبوابك المقْفلة
لن تصدّ جحافل يأسي ونار حنيني
وكم بين أسرار تطوانَ والبحرِ؟
كم بين أسوار وجدةَ والقصرِ؟
بينهما شهقة من لغوب المساء
وتألقُ مقلة زنبقة مسبلة
لزنبقة أيقظتها حساسينك الخضرُ
أهديتُ أحداق شعري
نذرت دمي، وقطعت الوتين
(ومن أيّ نبع ترى تستقين؟)
لزنبقة شهد الفجر ميلادها الغضّ
أحرقت كل المراكب خلفي
وجئت إليك شريدًا كصقر البراري
كعصفورِ حُزْنٍ يُكحّلُ عينيه من جمَرَات السّهاد
سأمضي وفي القلب أمنية نسجتها
عيون التي جعلت من ضفائرها عند حرّ الجلاد
عقال جيادي
الصّمْت
يكحّل أجفانه بتراب الأحبةِ
يغريه بالموت فوق صدور الأحبّة وعدٌ همى
من عيون قباء لبئر معونة
والمرتقى الصّعب يدعوك،
والوعد حقٌّ، أهذا الكتابْ
وقد فجّر الشعرَ من بعد طول اغترابك،
من بعد طول انتظارك في القفر، وهْمٌ؟ سراب؟
ونبعٌ كذاب؟
يلملم من طعنة الوعد أشلاءه ويغني:
سأهتف باسمك حتى تفوح بساتين تطوانَ بالسرِّ
حتى تُكَوْكِبَ خضْرُ الحساسينِ
أجنحةَ الحبّ من صولجانك.
يدخل كلّ المجانين في طاعتي
وأجعل كل حبيباتهنّ إماءك.
إنّ جناح الفراشة مصطبغٌ بالدّماء
ونارُك مثواي، نارُك جنّاتُ عدن
فلا تمنعي القطْر عني
أرى عربات العبيد تجرجر نحو كهوف العذاب
أرى الدم يجأر تحت القيود
وللصمت طعنته القاصفة
أنا منذُ عشرين عاماً
أقاتلُ جيش الفرنجة حينا،
وحينا أقاتل جيش ابن قرمطَ،
لكنّ خلفي ملوكَ الأعاريبِ
يستأثرون بخَرْجِ المساكينِ.
كيف إذن سأقاتلُ؟
كوني لهيبا بحرفي
وكوني توهّج سيفي
كلانا يزوّد من غربة الاشتعال
كلانا وأنت حديقةُ شعري
وواحةُ عمْري
كلانا يبشّر بالعاصفة.
لمن هذه الأرض؟ لله يورثها من يشاء
فألجم جياد القنوط
وأسرج جياد الرجاء
وألهب مطاياك، يا واسع الحزن،
أوقد صلاة الهزيع، ولذ بالبكاء
وثبّتْ بأرضك هذي الفسيلة
من قبل أن تصدح الزلزلة
وقل: لست أملك أيتها الريح غير دمي فوق كفي
وهل غير عطر الشهادة يهديك يا بشرُ للسنبلة؟
وسوم: العدد 724