قلوبٌ على بُركان

(كامليات)

موسم للسيف، وموسم للحرف

للسَّيْف موسمه وللحرف المقاتل موسم

فاشحذْ حروفك بيرقاً أو فيلقا يتقدم

وارو العطاش، فأنت للروّاد غيثٌ مُسجم

واحدُ الورى، واهتف وقل: أنا مؤمنٌ، أنا مسلم

واصدعْ بآيات الهدى انبجستْ فغيرك مُفحَم

كل الدروب أمامنا تدعو لهنّ جهنَّم

وخلاصنا هديٌ به نزل الكتابُ المحكم

ماذا نخاف وزادُنا (نوحٌ) و( هودُ) و (مريم)؟

الأربعاء: 22رمضان1410، 18 أبريل 1990

كامليّة   الإسْراء

لا تلتفتْ فأمامك البطحاءُ

وعبيرُ مكةَ رحمة وشفاءُ

وأمامك التاريخ زَيّن صدرَه

بالمكرمات عقيدةٌ غرّاءُ

ونداءُ إبراهيمَ أندى من بُكا

للنَّاي تبعث شجوَه القمراءُ

ما بيرقُ التَّوْحيدِ إلا نفحةٌ

عُلْويةٌ وجلالةٌ وبهاءُ

وبهذه الأرض البتولِ تتابعت

رُسلُ الهُدى بالحقِّ والشُّهداءُ

في كلّ ركنٍ آيةٌ قدسيّةٌ

وبكلّ ناحيةٍ شَجٍ بكَّاءُ

هي سجْدةُ العزّ التي تعنو لها

صِيدُ الملوك وتصغر العظماء

لا تلتفتْ يا قلبُ واغْترِفِ الهُدى

هذي الصَّفا والمروة الشَّهْبَاءُ

والركن دونك والمشاهد كلُّها

هذا الحطيمُ وزمْزمٌ وحِراءُ

هذي خُطى الإيمانِ أسمع وقعها

لكأنَّها من وقعِها القصواءُ

وكأنها التاريخُ نبضة ضارعٍ

والكون من نبضاته إصغاءُ

لأكاد أسمع أنَّةً مكتومة

من آل ياسرَ والسياط ظماءُ

رسمت على الأجساد حقْداً راعفاً

صدّته منهم عزمة ومضاءُ

ويقال (صبراً آل ياسرَ) يا لها

من دعوةٍ تندى لها الصحراءُ

ويكاد يظهر لي بلالٌ فوقه

صُمّ الصِّفاح وتحته الرمضاءُ

ويظلّ تحت القهرِ أكبرَ منهمُ:

( أَحَدٌ ) تنشّر عطْرَها الجوزاءُ

هذا الأذان بيارقٌ منشورةٌ

وفيالقٌ منصورةٌ ونداءُ

(الله أكبرُ) رايةٌ خفَّاقَةٌ

في ظلِّها كلُّ الأنامِ سواءُ

وطلائعُ الفتح المبينِ رسالةٌ

بالحقّ تنتظم الورى بيضاءُ

ضرب الهدى بجِرَانِه فالكون من

إحسانه متألِّقٌ وضّاءُ

يا ابنَ الذَّبيحينِ الوجودُ ضلالةٌ

والعالَمونَ تهارشٌ وعواء

إنَّ الزمانَ قَدِ اسْتدارَ كأنّ لمْ

يبرحْ أبو لهبٍ ولا الطُّلقاءُ

وجراح أمَّتِيَ الأسيرةِ جَمَّةٌ

في كلّ منعطفٍ دمٌ ورثاءُ

ظمئ الورى وعلى العيون غشاوةٌ

وعلا القلوبَ جهالةٌ جَهْلاءُ

والهَدْيُ هَدْيُكَ والمذاهبُ ضلّةٌ

والعهد عهدك والذّماءُ ذِماءُ

فاسكبْ سناكَ على الوجودِ كرامةً

وانشرْ سناءك فالقلوبُ هواءُ

مولاي إنّي ما أتيتك مادحاً

يا مَنْ بمدْحِكَ يزدهي الشعراءُ

أنا يا حبيبي ما أتيت مردِّداً:

لي في هواكَ قصيدةٌ عصماءُ

أنّى لشعري أن يمجّد من غدا

له مدحةٌ من ربه وثناءُ

أنا عاشقٌ ، والعشْقُ فيك فضيلةٌ

عَظُمَتْ ، وبعضُ العِشْقُ فيه لحَاءُ

لا ناقتي يؤذي مناسمُها الحصى

عبْرَ المفاوز لا ولا الإنضاءُ[2]

بالأبلق الفرد الذي أحجاره

قامت على رمل وخيط دخان

ها معشر المستضعفين تحصَّنُوا

ب (الفتح) و (الأنفال) و(الرحمن)

وإذا الممالك أقفرت من عدلها

أمسى هواءً شامخُ البنيان

هذا دمي متوهِّجاً يا أمتي

فتزيَّني بدم الشهيد تصاني

شيئا من الغضب المقدّس إنَّه

سيهدُّ صرح السّجْنِ والسجّانِ

                                                                1981

عنْدليب الروّح

ضاقت بأحلامي فماذا المطلبُ؟

فيم التشكي والقصائدُ أرحبُ؟

طافت بي السَّبعَ الطّباق ولم تزل

ترنو لمنزلةٍ سناها صيّب

يا سائلا عن مذهبي فيما أرى

إن لم يكن قلبٌ ففيم المذهب؟

قلبي إلى الحسنى نماه مشرقٌ

لكنّ صوتي يصطفيه المغرب

أنا بلبلٌ في الخافقَينِ مُغَرّدٌ

شفتاي عن قبس النبوّة تُعربُ

والروح يملي والجوانحُ تحتفي

بالنور يسري والأصابع تكتب

وهب القصائدَ لي فؤادٌ شيّقٌ

وجراح أمّتيَ التي تتعذَّب

أنا بالجناحين انطلقتُ وربّما

هيض الجناحُ وما استراح مُذَرَّب

وتقول فاتنةٌ: سلبتَ مشاعري

زوراً ومثلُك للمشاعر يسلب

من زمرة الشعراء أنت، وأنتمُ

زرعاً بسحركمُ يؤول الطحلبُ

وزبرجداً هذا الترابُ وأنجماً

هذا الحصى، فالمستحيل مقرّبُ

من يلقَ عن شَرَك البيان تفلّتاً

يُفْلتْ،ومالي عن بيانك مَهربُ

لا تدفعي بي نحو هاوية الردى

وأنا فؤادي للشموس مجرّب

بأبي الشموس الجانحات غواربا

إذ حيث كنّ لهن قلبي ملعبُ

لكنّ صوت المجد يمنع مركبي

من أن يزل عن الطريق المركبُ

وأنا وهبت القلب أمتي التي

نزفت دما وعدوّها متوثب

هي أمّة الآلام منذ تغرّبت

عن ذاتها يعدو عليها مخلبُ

هي وردتي الحسناءُ أمنحها دمي

طوعا وشعري العندليب المعجب

هي شوكة في القلب لست أردّها

عني، فإيلام الحبيبِ محبّبُ

ماذا أعدّدُ والجراح كثيرة

والمرجفون عيونهم تتحسب؟

وأقلُّ جرح يا حُمَاةَ ديارنا

يعنُو له ذئب ويجأر ثعلب

لكنّ أكناف الشآم ولودة

والله يقضي، والقضاء مرتّب

طفل تجلى كالشهاب منوَّراَ

فعدوّه لمصيره يتأهّب

لم يثنه عن عزمة نهضت به

أن العدو مدججٌ متألب

فقضاؤه ومضاؤه وضياؤه

وبهاؤه الشمسَ البهيَّةَ يحجُبُ

قدرٌ أتى من ذي الجلال مجلجلاً

فالأرض تصغي والكواكب ترقبُ

حتى متى الأقصى يظلُّ مكبلا

وإلام أمٌّ تستغيث وتندب؟

وعلام يبشم ثعلبٌ من كرمنا؟

وعلام يَضْحَى المستغيث ويسغب؟

قالت حجارته المباركةُ: ارْمِ بي

فلأنت عندهم القضاء المرعب

وأنا الحجارة، ما أنا إن لم يكن

كفٌّ مصوّبةٌ وقلْبٌ يضربُ؟

ويعانق الطِّفْلُ الحجارةَ ثائرا

لكن سهم الغادرين مصوّب

أمحمدٌ يا تاجَ دين محمَّدٍ

يا من له عرش البطولة ينصب

يا زينة الأقصى المباركِ حوله

يا منبع الثأر الذي لا ينضب

يا "درَّة" الأقصى وأنت شهيده

في مثل سنّك كلّ طفل يلعبُ

ويسابق الأحلامَ وهي غريرة

ويصادق الأيَّام وهي توثّب

فمن الذي أغرى عدوّك بالذي

تنهدّ منه الراسيات وتغضب؟

يا "درَّةً" بين النجوم يتيمةً

لا وجه غيرك في الحوادث كوكبُ

يا "دُرَّةً" ألقت على خطواتنا

نوراً وكانت قبلها تتذبذب

ثبّتّ أرجلنا على سَنَنِ الهدى

فكأنَّ جرحك قام فينا يخطب

وكأن صمتكَ خلْف والدك الذي

يرعاك للشهب الصواعق مُلهب

ويودُّ لو يحميك من شرك الردى

لكنَّ أسباب المنيَّة تُنْصب

وتشدّ أزر أبيك وهو محاصر

وتردّ عزم أبيك وهو مغيّب

والعُهْدة العمريَّة استصفت، وقد

ركنوا، عزيمتك التي تستصعب

لم يبق من حَجَرٍ على آثارهم

إلا ومن نهر الشهادة يشرب

لم يبْق من طيرٍ هنالك حائم

إلا إلى خضر المنازل يرغب

لم يبق من شجر هنالك قائم

إلا وللقضب المنيفة يطلب

والغرقد الموعود ودّ لوَ  اَنَّه

ما كان يحمي الظالمين ويحدب

يا درّة الأقصى عيونك لم تزل

أبدا مقدَّسةَ الملاحم تكتبُ

عيناك قنديلان من أملٍ إلى

ظليهما يأوي المَخُوف المتعب

والشِّعْرُ ما لم تمتزج آياته

بدماك فهو إلى الغواية أقربُ

أطلقتُ كالنّسر المدلِّ قصائدي

فأنا بهن مُصَعدٌ ومصوِّب

عندي من الحبّ العظيمِ لأمَّتي

كنز ، وألوية الهدى لا تُغْلَبُ

لا يُطْمِعَنَّكَ أن تراني مُعدمًا

أنا في نعيم قصائدي أتقلَّبُ

أنا عندليبُ الرُّوح من نغماته

ينهلّ قطرُ الطيبات ويُسْكَبُ

أنا عندليبُ الرُّوح من نبضاته

تُهْدى الحيارى، والأجادبُ تُخْصِبُ

أنا عندليبُ الرُّوح من همساته

صاغ المريدون النَّشيدَ وأطْرَبوا

أنا عندليبُ الرُّوح، كأسي بالهدى

ثملتْ، وهل في الأرض كأسٌ أطيبُ؟

أنا عندليبُ الرُّوح ليس يشوقني

إلا إلى أرْض النبوَّةِ مأرَبُ

أنا عندليب الروح ليس يسوقني

إلا إلى حُلل الشهادة موكب

لا أبتغي غيرَ الأسنّة مركبا

إن لم يكنْ إلا الأسنّةَ مركب

والماءُ عذبٌ إن تردْه على الظما

لكنَّ أمْواهَ الشَّهادةِ أعذبُ

فاطلبْ بهاء الرُّوح في جوف الدجى

واسكبْ دموعك ينفلقْ لك غيهب

واركبْ إذا ما قيل: "يا خيلُ اركبي،

فنحورنا بدمائنا تتخضّب"

واشربْ فديتك لا تكن متأثما

فسوى نشيدِ الرُّوح بَرْقٌ خُلّبُ

أنا عندليبُ الرُّوح يسلس جانبي

للطيِّبين فأمّهمْ أنا والأب

أُصفي الودادَ أحبّتي وأذود عن

أعراضهمْ وأعفّ إما أذنبوا

ولقد أردّ العاديات تكرّمًا

وتعفُّفا عمّن يلوم ويعتب

وإذا خفضتُ لذي العتاب مودَّةً

منِّي الجناحَ فوجهَ ربِّي أطلب

ما زلت تسأل :من أنا؟ ما مذهبي؟

يا صاحبي إنّ الجواب مغيَّبُ

أو تشمل البحْرَ العظيمَ سقايةٌ

ويطاول النجْمَ المحلِّقَ جنْدُبُ؟

ألغير أسباب الفضائل أنتمي؟

ألغير أعراق المكارم أنسب؟

كُفَّ السؤال فإنَّ قلْبي شاعرٌ

والشاعر الموهوبُ لا يتحزَّبُ

في ذي الحجة1421

مارس2001

لمن؟

لِمَن المجاسدُ والبرودُ؟

لِمَنِ الفيالقُ والبنودُ؟

لمن الجواري المنشآتُ ؟

لمَنْ تُرى القصر المشيدُ؟

للرافلين

وفي معاصمِهمْ

نُضارٌ لا يحيدُ

للزَّاحفين على الرِّقابِ

وحَشْوُ همّتهمْ قعُودُ

للشاربين دمَ العبادِ

وهمّهمْ: زقٌّ وعودُ

وأنينُ غانيةٍ مجرَّدَةٍ

لها طلعٌ نضيدُ

مَنْ نحْنُ؟ حاذرْ أن تجورَ،

فإنّما نحنُ العبيدُ

مستضعفون ولا نثورُ،

فحسبنا تلك القُيودُ

نحن العطاشُ فإن وردنا

زاد غلَّتنا الورودُ

وإذا أكلنا فالفُتاتُ،

وإن شربنا فالصديدُ

وإذا تفجَّرت البلادُ،

فنحن في الزرع الحصيدُ

وإذا هوتْ نحو البلادِ

فيالقٌ، نحن الجنودُ

نحمي الذين فرَوْا لحوم

الضارعين وهمْ رقودُ

أسرى، ويأكل من

معاصمنا المضرّجة الحديدُ

يبكي علينا السيف من

لهفٍ، ويرثينا القصيدُ

أسرى وفي دمنا الصراخُ،

وربما أنّ الأسودُ

أسرى وفي النفس السجينةِ

يرتعي أملٌ شريدُ

أسرى ومنْ خلفِ الظلامِ  

أظلّنا صُبحٌ جديدُ

وإذا تراكمت الهمومُ

فخلفها فجرٌ وليدُ

أسرى وأنهارٌ من

الغضب المقدّس لا تبيدُ

إن ساقها التيارُ يوماً

فالطغاةُ لها الحصيدُ

ولنا الغدُ الموعودُ

شمسُ محمّدٍ فيه جديدُ

8/10/1988

رسالة من قلب الحِصار

(اكتب إلينا، فما أحوجنا إلى كلماتك، وما أحوجنا إلى أن نشعر بأنك موجود إلى جانبنا والموت يقترب منا)

من رسالة مهربة من الجزائر، في رمضان1418

أدمت رسالتك التي نزفت دما

قلبي فأصبح في الضلوع محطما

ضاقت علينا الأرض وهي فسيحة

وغدا الوجود من الشقاوة مظلما

وتنكرت لي هذه الدنيا فما

أضحيت أملك ساعدين ولا فما

هل يملك السيف المجلل حيلة

أم يملك القلب الجريح تكلما

أم يملك الشعب المحاصر جنة

مما يلاقي والحمام تقدما؟

لا حرمة الشهر الكريم يصونها

باغ، ومن عرف الحرام تأثما

كلا ولا دمع اليتامى رادع

عن ذبح طفل كاد يقتله الظما

أسيرجع الشهر الكريم مسربلا

بمحبة أم سوف يرجع مثلما…

العام يرحل بعده عام، وما

لجراحنا آس كأنا كلما..

قلنا ستلتئم الجراح تعللا

صار النطاسيّ المؤمل مجرما

الموت مقترب.. فليت يضمنا

جدث فيجمع روحنا والأعظما

مالي متى استصرخت شعري عقني

ولكم أطاع وجاءني متكرما

وإذا فزعت إلى الأماني أدبرت

وإذا رغبت إلى السلام تجمجما

ومتى دعا قلبي التجلد أحجما

ومتى التجأت إلى الحروف تلعثما..

ها.. هالني ما هالني.. ها هالني

ما .. ما أرى .. أنى أطيق ترنما؟

من هؤلاء الشاربون دماءنا

الجاعلون من الحصار المطعما؟

ماذا نقول غدا لخالقنا إذا

طويت، كطي الكتب، أقطار السما

بم الاعتذار غدا إذا ما نشرت

صحف وأضحت كل جارحة فما؟

أو أزلفت دار السلام لأهلها

أو سعرت للناس نار جهنّما

أبذا قضى فينا النبي؟ ألم يكن

جعل السلام إلى الأخوة سلّما؟

ما كنت إلا رحمة منشورة

للعالمين وللنفوس البلسما

فمن الذي رد البساتين التي

طابت هوا، ودنا جناها، علقما؟

الشَّهيدة

(قررت مسلمة في كشمير القيام بإبلاغ رسالة لا تشبه الرسائل العادية إلى العالم، ولن تشبهها في يوم من الأيام، فقد قامت، في أعقاب تعرضها لعملية اغتصاب جماعي، بكتابة رسالة بدمائها، وتحدثت فيها عما تتعرض له المسلمات الكشميريّات من الاعتداء عليهن وانتهاك أعراضهن، ثم وضعتها في عنقها وألقت بنفسها في نهر(جهلم) الذي ينطلق من كشمير المحتلة إلى كشمير الحرة...)

ملَكَ المحبّينَ الهوى فاحتاروا

لم يُجْدِهِم صبرٌ ولا استعبارُ

يتحرقون إذا دنوا، من عفّةٍ،

ويؤرّقون إذا يشطُّ مزارُ

ويغالبون الشَّوق، غيرَ أذلّةٍ

والشوقُ أغلب، فالجفون قصار

والحبُّ أشرف غايةً إن كان في

ذات الإله، يصونه الأبرار

أنَّى لقلب أن يُسكَّن والهوى

قدرٌ، وكيف تغالبُ الأقدار؟

كيف التجلُّد والأحبَّةُ دونهمْ

سُجُفٌ تَلاطمَ موجُها الهدّار؟

من واد كشمير الذي سنَّ الهوى

بجماله، فالخافقاتُ تَحار

قالت: (خُدا حَافظْ)، وقد ودَّعْتُها

بعد الزّيارة، والحبيب يزارُ

لم يعرف التَّاريخُ عشقًا قبلنا

متجدِّدا، والعاشقون كثارُ

بسط الهدى من فوقنا أغصانه

فدنتْ، فللحبِّ النبيل ثمارُ

حتى إذا غصَّ العدى بسلامنا

شحذوا المدى، فإذا المدى أظفارُ

من واد كشمير المقيَّد صرخةٌ

عبرتْ وفي أعماقها إنذار:

سلبوا شبابي، واسترقوا عفتي،

ذبحوا العشيرةَ، فالأسى مدرار

هتكوا ثيابي، واستباحوا مصحفي،

أو لم يعُدْ في أمَّتي أحرار؟

لا، ليس ما سفكوا دمي متوهِّجًا

لكنه دَمُ أمّتي الفوَّار

يا للجمال العفِّ يجأر والتقى

تنهلّ من نبضاته الأنوارُ

الطُّهْرُ ملء ثيابها متفجر

والحُزْن في أهدابها مّوار

سكن الإباءُ إهابها فكأنه

حصنٌ هوى من دونهِ الفُجَّار

هيهات! لن يصلوا إليكِ سوى إذا

سالت دماكِ.. وزمجر الإعصارُ

لا تُسلمي روح العفاف وأسلمي

روحاً إلى من لا عليه يجار

ولتشهدي يا أمَّةً منكوبةً

أنَّ الدِّماء أعزُّهنَّ جُبارُ

أختاه! هل تأسو الجراحَ قصيدةٌ

ويُنال بالحرفِ الغضوب الثَّارُ؟

أم تطفئ الغضبَ المقدَّسَ فتكةٌ

بِكْرٌ وتثأر للضعاف النَّارُ؟

كم أنّةٍ مكلومةٍ مكتومةٍ

جرَحت جبينَ الأفق فهو نضار

والمسلمون بغفلة وكأنما

قد سُكّرتْ دون الهدى الأبصارُ

وولاة أمرِ المسلمين أجلُّهُمْ

عميتْ قلوبهمُ فهم أغمار

من كل حلاّف مهين لا يرى

إلا وفي أعناقه أوزار

وسيوفهم ليست تغادر غمدها

إلا لتُحْصَدَ تحْتها الأحرارُ

ما فيهم إلا ذليلٌ خانعٌ

وإن ادَّعوا لهُ أنّهُ البتّارُ

يعلو على المستضعفين بسوطه

ويسومهُ الإذلالَ الاستكبارُ

والمترفون، وإن تطاول عهدهم،

سيفلّهم، رغم العلو، دمار

والمترفون، وإن تطاول عهدهم،

سينالهم، بعد الدمار، خسار

والليل يعقبه، وإن طال المدى،

صبحٌ، فتشرق من سناه ديار

آهٍ لصرخةِ أمّةٍ عصفتْ بها

غيَرُ الكبار، فصرحها منهارُ

هي صخرة ليست تحرّكها إلى

العلياء لا خُطب ولا أشعار

كلا، ولا نَوْح اليتامى صاعقا

من كان حيّا، والدِّما أنهار

أختاه! صرختُكِ الجريحةُ أسمعتْ

لو كان فينا فارسٌ مغوارُ

لكنّ ساحتنا بقايا بلقعٍ

يلهو بها مستأسد خوّارُ

لا سيفُ معتصمٍ يرد جحافلا

جلبتْ على دمنا، ولا المختارُ

لكنّ ربّك مرسلٌ من عنده

جندا، وربّك غالبٌ قهّار

فاختر لنفسك أيَّ دربٍ تبتغي

إن كنت قبل اليوم لا تختار

هي جنّة الفردوس، إن تبذل على

حبّ دماً، أو فالمصير النار..

1995

الهجرة إلى الله

خيّرتني، ماذا إذن أختار؟

إني برغم تجاربي محتار

خيّرتني بين المناصل والمدى

أيكون بين القاضيين خيار؟

إني اصطفيتك فامنحيني فرصة

كي تسجد الأفلاك والأقمار

يا واحة الأشواق، بستانُ الهوى

يدعو، وتولد عنده الأنوار

أنا آدمُ المسكينُ إن تقذفْ به

شهبٌ فإنّ ملاذه استغفارُ

فإلى متى تتشبثُ الدنيا بنا

ومتاعها مُتَحَوّلٌ منْهار؟

والسانحاتُ لذيذهنّ منغّصٌ

والسابحات طوالهنَّ قصارُ

طويت من العمر الجميل صحائف

فإلى متى الإقبال والإدبارُ؟

وإلام نخشى النّاسَ تُلْجِمُ خطونا

عن شِرعةٍ أوحى بها القَّهار؟

تعبتْ ركائبنا فتلك أمورنا

شتى، وهدّتْ خيلَنا الأسفارُ

وأنا الذي أحرقتُ كلَّ مراكبي

لما حسبتُ قد انتهى الإبحارُ

أترى انتهى؟ هيهات! تلك بداية

وقد اسدِلت دون الغد الأستار

إني أتيتك عاريًا لا مال لي

إرثي اشتعالُ القلب والأوتَارُ

إنّي أنا الملك الذي يوم اللقا

ينفضُّ عنه الجندُ والأنصار

فتلقفته في الحياة مفاوز

ورمى دعائم ملكه الإعصار

فارْتَدَّ في طول البلاد وعرضها

لا زادَ إلا الريح والأمطار

أنت الدليل إلى ظلال مدينة

يهفو إليها القلب والأبصار

فإذا تبدت في الظلام ركابهم

وسرت عيون القوم وهي كثار

فاستعصمي بالله يا صدّيقتي

أنتِ الحمامُ لنا، وأنت الغارُ

نسعى إلى اللقيا، فإن عزّتْ منىً

فأمورنا تجري بها الأقدار

ولخير دار، إن تشابكت الخطى،

دار ينال نعيمَها الأبرارُ

11محرم1421

16 أبريل2000

رُؤْيا

عبثاً أحاول أن أصوغ رثائي

أنا آخرُ الأمواتِ في البيْداء

عُقِدَ اللسان فما أغنِّي بعدما

جفَّت على ظهر الضريح دمائي

سيّرتُ في عُرض الحياة سفينتي

ونسجتُ من خيط الوداد لوائي

وجعلت ملاَّحي اشتعال أضالعي

ومرابع التقوى بها مينائي

ورأيت في نومي مخدَّرةً وقد

نامتْ على كتفيّ في إغفاء

فسَّرْتُها الدنيا تحاصر زورقي

بزوابعٍ مسجورةٍ رعناءِ

جرّدتُ من غمدي اصطباري صيقلا

فرمتنيَ الأرزاء بالأرزاءِ

فلعقتُ جرحي هازئا بحرابه

وبغضبة الإعصار والأنواءِ

وبَنَيْتُ مملكةً رفعت عمادها

مزهوَّةً من أحرفي الزهراءٍ

حتى إذا نصّبتُ سنْبلتي بها

سلطانةً ندّت عن الشُّركاء

عصفتْ كأن الجِنّ ملء إهابها

وهوت على أشلائي الحمراءِ

وكم اشتكتْ ظمأ الدّهور وأوردت

قلبي حياضَ مروجها الفيحاء

كم من جناح يمامة أودعته

قلبي وكم روّيته بوفائي

وظننت أني المستجير بظلِّه

وبظله سأفوز بالأفياء

لكنني ما كنت أعلم أنَّني

كالمستجير لديه بالرمضاء

أعطيته ما ليس يُعْطَى راضيا

وجعلتُ منزله سماء سمائي

ووهبته صيف المنى وربيعها

ووقيته من زمهرير شتائي

حتى إذا نمَتِ القوادمُ وانبرى

كالنسر يزهو في الذرى الشمَّاءِ

نضب السِّراج وأصبحتْ قيثارتي

تقتاتُ من آلامي الخرساء

وتولّت الأحلامُ، غير صدوقةٍ،

وتمطَّتِ الأوهامُ تحت ردائي

ملقى على ظهر الطّريق بمعصمي

قيدٌ، وشرُّ القيد في الأحشاءِ

لا زادَ لي، لا نجمةٌ تحنو على

ظمأ الدهور بهذه الصحراءِ

فبأيِّ فٌلْكٍ تستغيثُ مواجعي؟

وبأي إزميلٍ أصوغ رثائي؟

9 جمادى الأولى1417، 23/09/1996

عاصِفَة

نجواكَ يا أنداءَ حُسنِ

عصفتْ بقلبي المطمئنِّ

حطَّمْتَ وحدتي المني

عة واقتحمتَ رحاب فنِّي

وأسرتني وعقدتَ أل

وية الجمال بكلِّ ركن

ونَصَبْتَ راية عفة

من دونها وقف التظنِّي

فأنا أسير الحسن، سرّ

الحسن يمحق كل ظنِّ

أخشى يراودني التمنِّي،

آه لو يجدي التمنِّي

لو كان لي لهتفتُ باسمكَ

ضارعاً وأشعتُ لحْني

لو كان لي لسكبتُ دمعي

خاشعاً في كل دنّ

لكن خشيتُ شُموسَ حلْمٍ

هاربٍ فحسوتُ حُزْني

فأنا على بابيك عصفورٌ

جريح دون غصنِ

يا من سموتَ على التُّراب،

وقد سكنت رحاب جفْني

أئدُ النشيد وأصطلي

حُبّا يساكنني فيُضْني

أرجو القرارَ، ولا قرارَ،

وكيف وهْو ضياءُ كوني؟

أو بعدما سكنت رياحُ

الشَّوق، وانسحَب المغنِّي

يهفو إلى الإبحارِ ملاَّحٌ،

ليصبح بعْد عينِ

أثراً تودّعُه المراكبُ؟

يا سرابُ إليك عنّي ‍‍

13رجب1407/14 مارس 1987

بيروت

إلى غيتا الأسمر

بيروتُ إنّ الحسن يضني     وشذاك يضمر ألف حسن

من أيّ بيروتٍ سأبدأ؟    أيَّ بيروتٍ أغنّي؟

أمن القلوب النابضاتِ     الرابضات بكلّ جفن؟

أم من صلاة يمامةٍ     خضراءَ تجرح ألف غصن؟

أم من جراح صبيّةٍ     سكنت، كوخز الحلم، ظنّي؟

أمن الخراب؟ من العذاب؟    من السراب؟ من التجني؟

أم من شذا جبل ترقرق     كالهيام بكلّ دن؟

لبنان! ها أنذا أتيت     كما وعدت  أبثّ لحني

ألق الجنوب بخافقيّ      يهزّني ويقول : خذني!

أنا خدنك المجبول من    عزم الشهيد وأنت خدني

لبنان حسنك.. ما أقول؟   جوانحي هتفت: أعنّي

يغفي الصليب على رخام،  كانبثاق الفجر، لدن

إغفاءة السكران، يهتف : أيها المولى  أجرني!

أيسوع أوصى بالذي     قدّرتِ أم أوهامُ جِنّ؟

قالت: ألم تر أنني    حُمّلته اسماً مثلَ لوني؟

وانسابت الأمواج فوق   ضفائري تهفو لكوني!

قدّرتُ ما قدّرتُ! لكنّ النوائب لم تَصُنّي

أو ما ترى الأطلال تبعث في كياني ألف حزن؟

هذا حطامٌ لم يدع      قلبي الغرير ولم يدعني

لبنان أطلال الهوى      هاتيك أم جمرات مزن؟

لبنان من تحت الرماد     لمحت قافلةً تغني:

هي صيحة الشهداء      تمحق كل طاغية وتفني

بيروت: 17/10/1998

بجماليون

بجماليون

(الأسطورة المتجددة)

في سنوات السبعين من القرن الماضي، كتب الشاعر قصيدة بالعنوان أعلاه، ونشرها في (العلم الثقافي)، إبان انعقاد المؤتمر الخامس لاتحاد كتاب المغرب، ولكنه لم يكن يعلم أن رماد هذه القصيدة سيبعث على رأس كل عشر سنوات، رغم اختلاف الزمان والمكان، لينطلق نص جديد مكمل لهذه الأسطورة المتجددة التي لها في حياة الشاعر نصيب من الحياة، وأسطورة بجماليون أسطورة إغريقية، مفادها أن بجماليون الفنان نحت تمثالا لامرأة، هي جالاتا، وبلغ من إتقان الصنعة أنه أعجب بتمثاله وانتظر منه أن ينطق.

فلما أيس من نطق جالاتا أقبل على التمثال يحطمه.. وهذه الأسطورة تمثل الصراع بين الفن والحياة، وقد استثمرت الآداب العالمية المعاصرة هذه الأسطورة المتجددة، وانتصر بعضهم للفن وبعضهم للحياة، وقد كان من أشهر من تناولها الكاتب الإيرلندي برنارد شو في مسرحيته: (بجماليون)، وتناولها في الأدب العربي الأديب الكبير توفيق الحكيم في مسرحية تحمل العنوان نفسه، وجعلها من المسرح الذهني..

غير أن هذه الأسطورة دخلت بشكل أو بآخر إلى الشعر، حتى ولو بسبيل التلميح لا التصريح...

فأنت تجدها عند أبي القاسم الشابي في قصيدته: (صلوات في هيكل الحب)، ومنها قوله:

يا ابنة النور إنني أنا وحدي

من رأى فيك روعة المعبود

وهي عند الشاعر إدريس الجاني في قصيدته الغنائية (ولكن...) ومنها قوله:

لكم آمنت في عينيك بالأحلام والشعر

لكم قدست في لآلاء نورهما سنى الطهر

لكم حلقت في عالي سماء الحسن كالنسر

لكم ألهت أصناما من الأوهام في فكري

حسبتك آية كبرى هوت من عالم سحري

وروحا من سماء الغيب خفاقا على الغمر

ولغزا غامض السر ورؤيا من رؤى الفجر

ووحيا ما تلقاه نبي غابر الدهر

                                      . . .

حسبتك ذلك المجهول نعبده ولا ندري

حسبتك ذلك الله الذي يرتج في صدري

ولكن ها أنا أصحو من النشوة والخمر

وأبحث عنك في قلبي وأبحث عنك في فكري

فلا طيفك يبدو لي كرؤيا من رؤى الفجر

ولا عيناك تنكبان في عيني كالسحر

ألا ما كنت روحا من سماء الغيب والأمر

ولا وحيا من الآت ولا من غابر الدهر

ولا بالكائن المجهول نعبده ولا ندري

تعال الله ما كنت لهيب الله في صدري

ولكن كنت تمثالا خشين الصنع من صخر

ولكن كنت سكرانا فألهتك في سكري

أمام الهيكل القدوس كفرت عن عاري

                                                  بأشعاري

تركت هناك أرجاسي وأوزاري وأقذاري

                                                 إلى النار

وعدت بروح جبار

أمجد فن فيثاري

أمجد روحي العاري

                            بأوتاري

وتجسد قصيدة عمر أبي ريشة (امرأة وتمثال) هذه الأسطورة بشكل مثير، وقد مهد لها بقوله: (عرفها المثل الأعلى للجمال، والتقى بها عشر سنوات، فإذا ذاك الجمال أثرا بعد عين، فتألم، ولما عاد إلى بيته كان صورة تمثال فيوس أول ما وقع طرفه عليه).

وعلى عادة أبي ريشة فإنه يأتي في مقطع القصيدة يسميه هو بيت المفاجأة، حيث تنتهي القصيدة بقوله:

حسناء، ما أقسى فجاآت الزمان الأزور

أخشى تموت رؤاي إن تتغيري... فتحجري

          وأما هذه القصيدة التي بين يديك فقد انتهى بها المطاف، دونما تخطيط أو قصد، بعد تجربة أربعين سنة، إلى تأكيد حقيقة خالدة وهي أن الجمال الصوري يذوي وأن بهاء التماثيل والدمى إلى زوال.. وشيء واحد يبقى أبد الدهر ولا يزول بزوال الدنيا: إنه جمال التقوى.

بجماليون

بجماليون

قال في العشرية الأولى:

ماذا أقول وقد أضعتك من يدي

مذ كان حبك فيّ مجهول الغدِ؟

أنا أرفض الأشعار لغزا مبهماً

كشرارة في صخرة لم تُزْنَدِ

أنا أرفض الأشعار نزوة عاشقٍ

متولّهٍ في ذاته متعبّدِ

أنا أرفض الأشعار جبهة خانعٍ

زلفى ولو كان الثرى من عسجدِ

الشعر عندي ثورةٌ خلاقةٌ

وقلادة للثائر المتمرِّدِ

ما الحرفُ يا خدْن الهوى إن لم يكن

سيفا يحزّ، يحزُّ عنْق المعتدي؟

صوتا يميد الأرض تحت مكابر،

متجبّر، متسلّط، متوعّدِ

أو لم يلج قصر الطغاة يهدُّهُمْ

حتى يعود الشر مفلول اليدِ

قدر الأديب بأن يظل مسافراً

كي يزرع السّلوى بقلبٍ مجهدِ

أو يحمل الأحزان عن هذا الورى

والسّيف يغرسه بليل أربد

 قدري أنا عيناك، لو لم تعرضي

لأحطت، يا أخت الضياء، بمقصدي

ما كنتِ إلا فكرةً مرسومةً

في الذهن تشرد، حين ترغب، من يدي

فجعلت محبرتي الجراح وريشتي

قلبا تراوحه الظنون وتغتدي

وصنعت منك مليكةً تيجانها

رصّعتها بالفن لا بزبرجد

ونثرت أزهار المحبة فوقها

ووهبتُ نجْماتي لشلال ندي

وعشقتها، لولاك يا قدّيستي

لم أتخذ بالذات يوما معبدي

إني أردتك فكرةً قدسيَّةً

وأردت روحك للزمان السَّرمدي

ولقد أردتك ساعداً متوهّجاً

يحدو، إذا جدّتْ خطوبٌ، مقودي

الشكُّ يغرقه اليقين فأمطري

قلبي رياحين اليقين وأنجدي

واستأصلي نار التحدّي واصفحي

أو أخمدي شوقي.. ألا لن تخمدي

واللهفة الكبرى اذبحيها واجعلي

قلبي من الإحساس قطعة جلمد

ولتطفئي آل التوهج من دمي:

رُدّي عليَّ حقيقتي كي أهتدي

أنا قد نذرت الحرف للبؤساء إن

يمسَسْهُمُ شدقُ الزمانِ الأسودِ

ورميت للتاريخ أقداحَ المنى

نشوى وعُدْتُ بخاطر متوقِّدِ

ووهبت للبلد الموات قصائدي

حتى يعود لفجره المتجدِّدِ

وعلى ضفاف الموتِ شدْتُ منازلي

وصروحَ أيامي بغير تردد

هذا دمي

هذي قرابيني

مزاميري

أناشيدي

وذاك توقّدي

وقفا على شعبي،

على بلدي،

على الإنسان

يبحر نحو ميناء الغدِ

الحرف مقبرة الطغاة فأعلني

أني اتخذت الحرف بعدك معبدي

وجدة، 1975

وقال في الانيةوقال في العشرية الثانية:

ما عاد حبّك فيَّ مجهول الغدِ

أنا في هواك محرراً كمقيّدِ

عشرٌ من السّنوات والنّارُ التي

أوقدتها بحشاشتي لم تخمدِ

قتَلَ المحبّين الهوى فاستشهدوا

وأنا شقيت به ولم أستشهدِ

فبأيّ جارحةٍ أردّ عواديا

مشبوبةً نزعتْ جميعا عن يد

ماذا لقيتِ من الليالي بعدنا

أسللتِ سيفك وانثنيت لموعدي؟

وغدوت للمستضعفين منارةً

ومشيتِ في ركب الحزانى المجْهَدِ

ورفعت للألم المقدَّس رايةً

خضراء سالكة طريق محمد؟

أم أنت آثرت العطور وآلها

ووطئت أشعاري بغير تردّد؟

أما أنا فكما عهدت.. مشاغلي

شتى، وأحزاني الرفيقُ إلى غد

باريس، في لحظة رمادية، بعد عقد من الزمن 1985

وقال في العشرية الثالثة:

وقال في العشرية الثالثة:

الأربعون تكاد تفلت من يدي

لكنّ حبّك في الجوانحِ سرمدي

من أنتِ؟ بجماليون أتعبَ ركْبَهُ

حرُّ السؤال فما يفئ لمقصدِ

هل أنت سينائي التي أفرغتُ في

صحرائها عمر الضلال لأهتدي؟

أم أنت ميراثي الذي أودَعْتُهُ

سرَّ القصائد وانثَنَيْتِ لموعدي؟

اللهَ، من أغراكِ بي فأثرتِ في

روحي زوابعَ عاشقٍ مستعبد؟

أضفى عليك الله نورَ أميرةٍ،

وخشوعَ ناسكةٍ، وحُزْنَ مسهَّدِ

وجلالَ محرابٍ، ونايَ مُتَيَّمٍ

وأنينَ عاصفةٍ، وبطشَ مهنّدِ

وجِلادَ زينبَ، واشتياقَ سُكَيْنَةٍ

ورواء (موزارٍ) ورقّةَ (معبد)

اللغز أنت، فكيف لا يبلى وقد

عبرتْ عليه جيادُ دهْرٍ مجْهد؟

ما قلتُ سوف تخفُّ نارُك في غدٍ

إلا ابْتُلِيتُ بنورك المتوقِّدِ

وأقلِّبُ الطَّرْفَ المحيَّرَ أبتغي

سلوى غدٍ، أو ما ليومي من غدِ؟

النّسرُ أطلق للشّموس جناحَهُ

وفؤاده يرنو لأفْقٍ مبْعدِ

ويصيح قلبي والسَّعيرُ يلفُّني

إني برئتُ من الهوى المتجدِّدِ

ولَكمْ يصيحُ دمي وقيْدي في يدي:

أنا في هواكِ محرّراً كمقيَّدِ

وجدة : 1995

عة:

وقال في العشرية الرابعة:

طُوِيَ الكتابُ، لقد أضعتكِ من يدي

وذوى الشبابُ، فما يخبِّئ لي غدي؟

سيَّرتُ في بحر الجنونِ سفينتي

دهراً فلم أظفرْ بغير تشرُّدي

ظمأُ الرِّمال بخافقي متوقد

من يا بلابل للظما المتوقد؟

كم دمية عبدت هوى نحاتها

ثم اثنت فكأنها لم تعبد

خرساء أنطقها الهوى إنّ الهوى

إن لم يحصّنْ بالتّقى يستعبدِ

كم طفت أرض الكنْجِ ألتمس السنا:

سيتا، أجيبي دعوة المستنجد

قدّستُها زمناً، وطفتُ ببابها

فإذا بها رقصتْ بقلبِ المعبد

وقصدتُ أرض السّينِ مضطرم الجوى:

دوريسُ يا بنت البحار خذي يدي

هذا طريق النور دونك فاسلكي

أفياءَهُ، حسناء لا تتردّدي

ولّتْ كعصفور يطارد خطوه

صوتٌ يقول أنا الرّدى إن ترتدي

وهمستُ للبوسفور غير مذمّمٍ

هل في السراي وصيفةُ ابنِ معبّدِ؟

طوَّفْتُ أزمنةً مجاهيلَ الردى

لم ألق غير دُمًى.. تضل بفدفد

ثم اثنيتُ، فلا دَدٌ مني إذا

ما جئتَ تسألني ولا أنا من دَدِ

حتى إذا جلبَ الغَرُورُ بخيلِهِ

وبِرَجْلِهِ ظمآنَ غيرَ مزوّدِ

ومضى الزمانُ، أتتْ إليك يمامةٌ

خضراءُ تصدح بالبيان المفرد

هتفت إليكَ بهيّةً من عُشّها

الماء دونك  فاغترف.. يا... يا صدى

الأزهر الزّاهي يظلِّل تاجها

أكرمْ بظلٍّ وارفٍ في المسجد

سبحانك اللهمّ، أجزلتَ العطا

وتقول إن تشكرْ، عُبَيْدِي، تزْدَدِ

لم تحتجب زمنا عطاياه سوى

لتفيض مغدقة بفيض أرغد

هل أنتِ من حَجَرٍ؟ فكيف جوانحي

طُوِيَتْ على حبّ التراب الجلمد؟

هيهات، أنتِ النُّورُ يهدي خطونا

وبغير نورك حائر لا يهتدي

أفديك جالاتا المنيفةَ، بل أنا

بك بهجة النور المقدس أفتدي

سبحانَ ربّي أنتُ أعظمُ فتنةً

مما تصوّرُ ريشة المتعبد

طُوِيَ الزّمانُ وها أنا في لحظة

أدَعُ الصبا والغيث غير مُصَرَّدِ

حسبي إذا أجَلِي تقاربَ أنني

قبل المغيبِ وجدتُ صوتكِ في يدي

القاهرة، وجدة: أغسطس 2005

وقال في العشرية الخامسة، وقد استحضر صديقه الشاعر الراحل محمد بنعمارة الذي ما فتئ يظهر تعجبه في المحافل من هذا الفتى الذي تتجدد عنده قصة بجماليون في كل عقد من الزمن:

ناجاك في الأسحار صوت محمد:

"أوجدت لؤلؤة الزمان السرمدي؟"

ألقت لك الأقمار سرّ بهائها

وبهاؤها  يمحو بهاء الخُرّد

وتولت الأسفار رَحلك في الدجى

فغدوت في الأقطار طيفَ مشرّد

ورمت بك الأقدار في أرجائها

هل يبلغ الغايات غير مزوّد؟

أنفقت عمرك بانتظار مغيّب

خلف الغيوم كأنّه لم يوجد

بين الحقيقة والخيال مسافة

كالوهم، يرسمها يراعُ مقصِّدِ

النجمة القطبيّة انطفأت، ولم

تبرح كناي في البراري منشدِ

لكنّ شمعتك التي راعيتها

كفراشةٍ صارت كطوق مقيّد

تابعتَ جلجاميش تطلب في الدجى

زهر الخلود، وما فتى بمخلّد

وذكرت "انكيدو" تسيل دماه، لو

كان الفداءُ لكان أول مفتدي

وسمعتَ من "خوفو" وقَدْ عمّ الورى

ظلماتُ إشراكٍ  نشيدَ موحّدِ

وكأنّ صوتَ "بلى" أتاك مجدّدا

من أرض مصر ولم يكنْ بمجدّد

إنْ ردّدَ الكروانُ في إنشاده

"الملك لله العظيم" فردّدِ

واجعلْ أزاهير الحنين نضيرةً

أورادَ مقصوصِ الجناحِ مسهّدِ

فلقد رأيت جماله وجلالهُ

في صوتِ رابعةٍ تردّدُ: (سيّدي

ما لي حبيبٌ غير وجهك مشرقا

وإذا شدوت فأنت وحدك مقصدي

وأقول: يا، إن لم يكن بك سيّدي

غضبٌ عليّ فلا أبالي موردي)

وافتك قانتةٌ تجُاوز أعصراً

كي تشهد العشق الذي لم يُشهد

فعلمتُ، والعلم المسدّدُ مرشدٌ،

أنّ الطريقَ، وإن تطاول، مُسعدي

يا ورد رابعة، لقدْ كلّ الفتى

من ضربه في الأرض غير مسدّد

هل من سراجٍ يستضئ بنوره

قلبٌ سها عن نجمه المتوقّد؟

واهاً لنفس كاد يقتلها الظما

والماء عند الباب أعذب مورد

هل في المقطّم آنستْ عيناكَ ما

شاق الكليمَ، فما التفتَّ لمجْهَد؟

والسيّد البدويّ غادر دارهُ

يبغي بطنطا دارة المتعبّد

يا فاسُ، هل كحّلتِ جفن مسافر

بالعشْق، أم كحلته بالإثمد؟

ترك الأحبّةَ خلفه متغرّبا

وغزالةُ الوادي تقول: بي اقتدي

واخلع إذن نعليك: نفسك والهوى

واسمع ولا تعبأ بعجل العسجد

واجعل (جلال الله) حصنك في الوغى

واجعل (جمال الله) كأسك في الندي

كم بين نهر سبو وبين النيل من

سبب، وكم للشوق عندك من يد؟

أتراك ألفيت التي غنيتها

منذ الصبا، فوهبتَ غير مصرّد؟

أتراك تلقى عندها نار القرى؟

والعبدُ إن يجدِ التجلي يسجدِ

كم من سؤال ما يزال معلقا

كسؤال راقصة بباب المعبد

ثم انتهى وكأنّه أسطورة

من نقش (بجماليون) لمْ تتولّد

لكنّ عهد ابن المرحّل لم يضع:

"شهد الإله وأنت يا أرض اشهدي"

إن المتاهة في بحار جمالكم

هديٌ لمن يسعى إلى أن يهتدي

والحبّ يهزأ  بالحدود ولا يرى

إلا (المودّة) إذ تروح وتغتدي

وظلالَ أمنْ العرشِ هيأها التقى

وسكينةَ الساري بليل أربدِ

وأبي يقول لي: استقمْ تجد التي

غنيتَ مصباحاً، فلا تتتردّدِ

أبتي، تقول لي البصيرةُ: يا اتئدْ

أزف الرحيلُ، وسوف تبصر في غدِ

وأنا الذي أبصرتُ في كأسي الذي

ما أبصرتْ في الكأس عينا جمشدِ

إن يأت موتي فالقضاءُ محتّمٌ

والموعدُ الرحمنُ فانعمْ ترشدِ

وجدة في ليلة 11  12 نونبر2016

بجماليون ينْشر ألواحه

فكأنما رد الإله نفوسهم والأعصرا

المتنبي

"أطلبك من المستقبل

عودي إلينا منه يا حبيبتي

في آخر ساعات الإسلام

عودي إلي من أي مكان كان "

أراغون

(1)

يا اَلله !

ما أصغر هذا العالم

ما أسرع دقات الساعة

ما أعجله ..

إذ ينشر هذا الزمن الدوار قلاعه

(2)

في هذا اليوم الخامس عشر

من تشرين الملتف بأوراق اليقطين

من هذا العام الرابع والتسعين

من بعد صلاة الفجر

مدَّ صديقي

نحو القلب حبال الذكرى

وهدى لمغاني النور ركابي

ترتسمُ الدهشة في عينيه لما بي

يتسلقني حزن وردي كاللبلاب

تستوطنني زهرة كاميليا

تحتل تضاريس جنوني الوثَّاب

وتعمِّر مملكةً بين سطور كتابي

وتمرُّ ، كما مرَّتْ عربات القلق الخرساءُ،

على الزمن الكابي

تنصب خيمة أشعاري

بين هياكل نور وقباب

-قابيل ! دماء أخيك على الباب !

- أبدا ..لن يذهلني شيء عنك

إلى يوم حساب !

(3)

لا تعجبنَّ إذا أضاع السندباد مع اصطراع الموج دربه

عشرون عاما والأماني مشرئبه

عشرون عاما والكؤوس أسى وغربه

عشرون عاماً والأحبة جيرةٌ

يحيون في شبر من الأرض الفسيحة

ليس يعرف بعضهم بعضا

ولا سحقت دواليب القطار معالم الذكرى

فيسلو بعضهم بعضا

ولا مرَّتْ أعاصير الغبار على الملامح فاختفت

من بعد إشراقٍ ..

ولا همْ يهتدون إلى الأحبَّةْ

عجباً ! كم اتَّسع المدى ..

ما كنت أعلم أن أرض الله، مثل القلب، رحبةْ

(4)

أفديك يا يوم المطرْ

بلَّلْتَ أقدام الأحبَّة بالتراب وبالخفرْ

وصبغت أقدام الأحبة بالشذى الضوئي

لا بالزعفران الحرِّ، كم بيني وبينهما من الأسرار،

فانفتحت مصاريع الشهادة،

ثمَّ قامت في العراء ممالك عذراءُ،

مثل القوس، يحرسها القمرْ

هل تذكر الأيام يوم الطِّينِ ؟

جاريةٌ تعفِّر بعض أطراف الغزالة

من عبير المسك والكافور …

والملك المحاصر بين غزو القوط ..

والكأس المعتقة ارتمى: أين المفرّْ ؟

قدرٌ ..قدرْ..

(5)

في كلِّ نادٍ يذكرونكِ ..

ينثرون عليَّ من بعض الصفات ..

ويشربون من الصدى

لا يعرفونك باسمك الوهَّاج ،

وحدي من حفظت بدفتري الأسماءَ

لكن المسمَّى أنت وحدكِ

حين تصطك المناصل والمُدى

كم بين جالاتيا وكاميليا من الأفراح والأحزان ؟

بينهما اتساعات المدى

كم بين سفح الليل في أهداب خولةَ

واشتعال الموج في أعطاف دوريسٍ ؟

وكم بين ابتهال النخل والعاج العصيِّ الدمع ؟

كم بين ابتهاج الحرف في أعراق سنبلةٍ وبين الصمتِ ؟

بينهما دمي يسري

وبينهما سيوف الهند تلمع كالردى

والروح بينهما نشيد واجف

مثل السراب يشعُّ…يحسبه المسافر موردا

وترقرقت ، مثل انهمار الضوء، في دميَ المهاجِرِ

نفحة الإيمان يا قدسية تغضي فينساب الجلال

وتخشع الأصوات هامسةً

وتغدو الكبرياء لمن تبتل موعدا

وغدوت ألتمس الهدى

ما بين أحراش الغواية رحت ألتمس الهدى

هيهات ! أين العاج من روح الألوهة ؟

لن يضل من اهتدى !

وأنا كما عهد الأحبة والعدى

لا أعرف الأشعار إلا واحة خضراء للمستضعفينَ

وراية تعلو بكفِّ موحِّدٍ

مازال، رغم السوط يلهب جلده ،

مستعليا بيقينه وموحدا

فلمن يدق القلب أجراس الهوى ؟

ولمن يدقُّ القلبُ أجْراس الهدى؟

وبمن تلوذ مواجعي ؟

أدعوك أيتها الغزالة فاسرحي بمرابعي

واسترشدي بدمي إذا ولغوا ..

أعوذ بعزة الرحمن ..ما أحلى الشهادة موردا

وجدة جمادى الثانية 1415ه

نونبر 1994.

التحدي

الشمسُ سابحةٌ والفُلك دوّارُ

فكيف تطمع في أن يسكن الثارُ؟

وشهقة الطفل مذبوحاً لها صخبٌ

كالبحر تمضي الليالي وهو موّارُ

وأنة الشيخ في الأغوار غاضبةٌ

ما دام في الأفق نجمٌ وهو سيارُ

شجر الجهاد

                     ماضٍ وإن قَطعَ الطغاةُ لساني

           ماضٍ وهديُ الله ملء كياني

ماضٍ وإن نذروا دمي وتقوّلوا

                    وتأوّلوا للذنب بالبهتان

ماضٍ ونور الحق يسطع في دمي

                     ماضٍ وأعلام التقى عنواني

ماضٍ، على شفتي كنوز محمدٍ

                         وبخافقيّ قلائدُ القرآن

ماضٍ وفي كفي الرحيق لظامئ

                       وتوهّج الأقمار للحيران

ماضٍ، ومملكتي بلاد الله إن

                         ضاقت بلاد السجن والأضغان

ماضٍ، فإن تبغِ الحياة فكن معي

                     نمحقْ حياة مذلة وهوان

ونُقِمْ صروحَ النور شامخةً على

                          هدْيِ النبوة في أعزّ مكان

فإليّ يا مستضعفون، إليّ! ما

                        عادت تخوّف صولةُ الأوثان

كُشفَ الغطاءُ وخرّ كل مجوّف

                        فصروحهم تعنو إلى الأذقان

شجرُ الجهادِ نما فأورق عزّة

                    قبست سناها من سنا الإيمان

أو ما ترى الأيام تعطي حكمها

                      للباذلين النّفس، بعد حِران

نزلتْ على حُكمِ المجاهد بعدما

                        شَمَسَتْ فصار شُموسها لليان

ماضٍ وأسلحتي الحجارةُ والتقى

                         بهما أهدّ صياصيَ الطغيان

أنا مسلمٌ ورسالتي الفيحاء أن

                       أحدو الأنام إلى حِمى الرحمن

30/10/1988

[2].  الأبدان : الدروع .

وسوم: العدد 743