التنوير الزائف
عرض واختصار كتاب
د: جلال أمين
عرض واختصار د: صلاح حنفي
لقد انتشرت الصحوة الإسلامية وأصبح الفكر الإسلامي غالبا ًعلى المجتمع في أكثر العالم الإسلامي, خاصة في مصر وذلك في الربع الأخير من القرن الماضي بفضل الدعاة و الجمعيات المختلفة ذلك بعد سيطرة الإتجاه القومي والإشتراكي في الحقبة الناصرية السابقة وذلك بفضل الدعاة والجمعيات الإسلامية المختلفة .
لقد أثار ذلك حفيظة العلمانيين واللادينيين فقاموا بمواجهة هذا الفكر الإسلامي ونشطوا لإعادة طباعة بعض الكتب التي أثارت الشبهات حول الدين والتي فندها ودحضها العلماء والمثقفون الإسلاميون في حينها. مثل كتاب في الأدب الجاهلي لطه حسين ونظام الحكم لعلي عبد الرازق وغيرهما ممن كانوا يسمونهم بالتنويريين وكثرت كتابات العلمانيين حول التنوير الذي أنقذ أوروبا من العصور الوسطى ونقلها إلى العصور الحديثة التي عاشت على أساس من العلم والعقل على حد زعمهم كما كثرت الكتابات التي تهاجم الفكر الإسلامي وأصوله وقد قام العلماء والدعاة والمثقفون الإسلاميون بالرد على هذه الهجمة ودحضوا كل ما يخالف الأصول والمفاهيم الإسلامية .
وقد قام الدكتور جلال أمين بجهد مشكور في الرد على بعض الخرافات والأفكار التي يعتمد عليها العلمانيون كخرافة التقدم المستمر والحتمي .
كما ميز مابين التنوير الحقيقي المطلوب والتنوير الزائف المزعوم من العلمانيين وذلك من منطلق علمي وعقلاني مع انحياز كامل لمصلحة العرب والمسلمين فيما يخص التطبيع مع إسرائيل وذلك من الناحية السياسية .
كما أنه يؤكد على أهمية الدين فيما يخص الحفاظ على الهوية والشخصية العربية والإسلامية وذلك من الناحية الوطنية والقومية وينتقد الرأسمالية والعولمة المتغولة ضد الأمم والمجتمعات الفقيرة المستغلة وذلك فيما يخص الناحية الاجتماعية والاقتصادية .
ومؤلفاته التالية توحي بهذا الاتجاه :
· المثقفون العرب وإسرائيل
· عولمة القهر
· عصر التشهير بالعرب والمسلمين
· ماذا علمتني الحياة
· خرافة التقدم والتأخر
التنوير الزائف وهو موضوع هذه البحث والعرض , كما سوف نستأنس ببعض التوضيحات والمقتطفات من كتابه في السيرة الذاتية ( ماذا علمتني الحياة ) مما يساعد على فهم هذا الكاتب ومنطلقاته الفكرية التي تساعد وتدعم ما يدعو إليه الإسلاميون مما يؤكد ما نعرفه جميعا من توافق المصلحة العامة والخاصة الحقيقية مع الشريعة الإسلامية وتطابق المنطق العقلي والعلمي النزيه مع المنطق الديني الذي ندعو إليه وهو ما شجعني على هذا الموضوع .
وهذا ملخص لكتاب التنوير الزائف كما ذكر في المقدمة بالإضافة إلى فهرس الموضوعات .
شعار ( التنوير) يقصد به تحكيم العقل دون غيره في تقييم الأمور , والتحرر من الأهواء والتحيزات المسبقة ومن سلطان التقاليد والأعراف , إذا تعارضت مع ما تقتضي به المصلحة , والتسامح مع الآراء المخالفة .
وهذا الكتاب الصغير يقول : إنه منذ بدأت حركة التنوير في أوروبا في القرن الثامن عشر , كان لأنصارها أهواؤهم , وتحيزاتهم الخاصة ولم يكونوا ليستطيعوا , حتى لو أرادو , التخلص من سلطان التقاليد والأعراف , ولا كان التسامح الكامل مع الآراء المخالفة ممكنا ً.
إن مؤلف هذا الكتاب يرى أنه لابد من حدود لهذا كله ... فليس من الممكن , ولا من المفيد التخلص من كل التحيزات المسبقة , أو التسامح مع كل فكرة جديدة .
هذا الكتاب يسعى أيضاً إلى التمييز بين التنوير الزائف , والتنوير المطلوب , ويضرب أمثلة على التنوير الزائف في حياتنا الثقافية : في ميادين البحث التاريخي , والنقد الأدبي , والفن السينمائي , وغيرهما .
وفي خاتمة , أضيفت إلى هذه الطبعة الجديدة , يتناول الكاتب الدعوات الحديثة (للإصلاح ) في العالم العربي , ويميز بين دعوات لا يمكن أن ينتج عنها إلا تحديث وتنوير زائفان , ودعوات يمكن أن تثمر إصلاحاً وتنويراً حقيقيين .
المحتويات
مقدمة : تنوير, أم شعور بالعار
الفصل الأول : التنوير الحقيقي والزائف :
1- حول مفهوم التنوير : نظرة نقدية لتيار أساسي في الثقافة العربية المعاصرة .
2- حقيقة التنوير في ظل النظام .
3- التنوير بين المتدين والوثني : دعوة إلى إعادة تصنيف الأصوليين والعلمانيين .
4- تصغير الكبراء .
5- التنوير الزائف في ثورة المعلومات .
6- عبادة المستقبل .
الفصل الثاني : نماذج من التنوير الزائف :
1- في البحث التاريخي : بين طه حسين وشكيب أرسلان ومحمد الغمراوي .
2- في النقد الأدبي : بين فهمي هويدي وصبري حافظ وآخرون .
3- في السينما : بين يوسف شاهين وابن رشد .
خاتمة : دليل الرجل الذكي إلى الإصلاح المنشود في مصر .
المقدمة : تنوير أم شعور بالعار
يقول المؤلف : إنه عندما كان طالباً للدكتوراة في الإقتصاد من جامعة لندن , منذ أربعين سنة , مع مجموعة من الطلاب الأجانب الموفدين للدراسة من دول عربية وأفريقية . أنه كان مع زملائة يتقبلون الفكرة السائدة في موضوع التنمية الإقتصادية, والتي خلاصتها , أن هناك أن هناك جزءاًمتقدماً من العالم وجزءأ متخلفاً . والجميع على طريق واحد , بعضهم أكثر تقدماً من البعض الآخر. ونحن للأسف في آخر الطريق وعلينا الوصول إلى أول الطريق التي هي , أقرب للجنة . والجنة هي أن يكون متوسط دخل الفرد مساوياً لمتوسط الدخل في أمريكا , وهي أربعة آلاف دولار سنوياً , في ذلك الحين .
لقد كنا أصغر وأحمق من أن ندرك وقتها خطأ هذه الفكرة ( والمدهش أن البعض لايزال يصدقها حتى الآن ) .
كان هناك شيء آخر مشتركاً بيننا نحن القادمين إلى أوروبا من العالم المتخلف . وهو بكل صراحة الشعور بالعار تجاه الأجنبي الغربي .
وكنا نعتقد - بدون تفكير أو وعي - أن إرتفاع مستوى الدخل يجلب – بالضرورة - كل شيء طيب في الوجود , ليس المستوى المادي المرتفع فقط , بل والأخلاق العالية , وحسن السلوك , والفن الراقي , والروح العلمية المتجردة من الوهم , والحرية , والديموقراطية , وغيرها من طيبات الحياة, والعلاقات الإجتماعية السامية . وكلها نحتاجها في بلادنا , وكلها سوف تحل عن طريق علم الإقتصاد الذي سوف يقدم الحل السحري , لرفع معدل النمو لنقترب من الدول ذات مستوى الدخل المرتفع .
ولكننا بعد عودتنا إلى بلادنا اكتشفنا , أن رفع معدل النمو ليس مجرد مسألة اقتصادية , بل أشمل من ذلك بكثير. وأن التاريخ الإنساني ليس سلماً يقف البعض على درجاته العليا . وليس طريقاً واحداً ,على الجميع سلوكه , ليرتقوا إلى درجات أعلى. بل إن هناك طرقاً متشعبة ومختلفة . وأن الأمر أعقد مما كنا نتصور .
وكنت كلما زرت أوروبا وأمريكا خلال السنين التالية لتخرجي , تأكد لدي أن المسألة ليست مسألة تقدم وتخلف بل هي شيء آخر. وقد تخلصت ( أو كدت أتخلص ) من خرافة كبيرة . وتحررت عقلياً ونفسياً من ذلك الشعور المقيت بالعار.
نعم ! نحن فقراء , ولكن ذلك لا يعني أننا متخلفون . نعم !! هم متقدمون عنا بالتكنولوجيا وفي فن انتاج السلع والخدمات , أو بالأحرى في فن وإنتاج سلع وخدمات يفضلونها , وقد لا تكون مفضلة عندنا. فلابد إذن من التمييز بين الفقر والتخلف . نعم نريد التخلص من الفقر وعلاجه زيادة إنتاج أنواع من السلع والخدمات التي تفيدنا .
أما التخلف , فأنا أعرف الآن ماهو. إنه ليس سوى الشعور بالعار. فأنت متخلف بقدر شعورك بالعار إزاء هؤلاء الذي يسمون أنفسهم متقدمين. وسوف تظل متخلفاً مهما زاد دخلك إذا كنت تشعر بالعار .
إنني بعد إدراكي لهذه الحقيقة قد اكتشفت أن تقييمي للمثقفين والكتاب المصريين , بل والسياسيين أيضاً , يكون على أساس مدى شعورهم بالعار. فإن لدي شعوراً بالنفور من كتابات زكي نجيب محمود , لأنه كان يعاني في رأيي من شعور بالعار إزاء الغرب , لم يفارقه حتى بعد أن شعر بأهمية التراث في آخر حياته ( ويورد مقتبسات من أقواله تثبت ذلك ) وكذلك نفوري من السادات , وكان هذا موقفي . تجاه مؤتمر السكان والتنمية في القاهرة عام 1994 والوثيقة التي أصدرها . فماهي إلا مثال واحد من أمثلة كثيرة بهذا الشعور الدفين بالعار إزاء الغرب .
وبناءً عليه فإن ما يسمى التنوير في بلادنا هو في معظم الأحوال تنوير زائف .
وهذه مجموعة بحوث ومقالات كتبت في مناسبات مختلفة . تجمعها فكرة أساسية واحدة . وهي الاحتجاج على ما اعتبره تنويراً زائفاً ومحاولة الانتصار لما اعتبره تنويراً حقيقياً .
الفصل الأول : التنوير الحقيقي والزائف
1- نظرة نقدية لتيار أساسي في الثقافة العربية المعاصرة :
إن كلمة التنويرالمتعارف عليها حالياً هي ترجمة لكلمة Enlightment التي تشير إلى الحركة الفكرية التي ازدهرت في أوروبا في القرن الثامن عشر. وهي تشير إلى التسامح مع الآراء المخالفة , والتحرر من الأغلال المقيدة لحرية الفكر والتعبير, وتعتبر العقل الميزان الوحيد للحكم على الأشياء , وتعلي من شأن العلم ومايتبعه من موضوعية وتجربة واختبار. وأصبح التنوير معاكساً لما كان عليه العالم من الظلمة .
وبعد قرن ونصف من حدوثة في الغرب قام بعض المفكرين العرب بالمناداة
- بشكل أو بآخر- بما نادى به أنصار التنوير في أوروبا . اعتباراً من الرائد الأول رفاعة الطهطاوي ولطفي السيد وقاسم أمين وطه حسين وسلامة موسى وفؤاد زكريا , وآخرين من أقرانهم وتلاميذهم .
لقد أصبح شعار التنوير أكثر حده وجرأة في العقدين الأخيرين . وقد بدأ كردة فعل لما سماه ردة فكرية صاحبت الحياة الثقافية العربية مثل مصادره بعض الأعمال الفكرية والفنية. مع تزايد التمسك بالموروث ضد الوافد . وانتشار الكتب, التي تتحدث عن السحر والخرافات, وازدياد حوادث الإعتداء على المفكرين , والميل إلى تكفير الآخرين .
وقد قام أنصار التنويربالتحذير من ذلك. وهذا معقول ولايناقش فيه أحد ولكن الموضوع لم يكن بهذه البساطة , فإن أنصار التنوير رفعوا شعاره على أنه قيم مطلقة صالحة لكل زمان ومكان وفي أي ظرف كان .
والحقيقة أنه لا يمكن اعتبار الحرية والتسامح واعتبار العقل والعلم هو المرجع الوحيد , والتخلص من التحيزات المسبقة . كل هذه القيم لايمكن تصور تحققها بشكل كامل ومطلق . كما أن تحققها المطلق , حتى ولو كان ممكناً فلا يمكن اعتباره دائماً شيئاً مرغوباً فيه . ولم يتحقق في الواقع بشكل كامل ومطلق بل كان فهمها وتطبيقها دائماً محدوداً بظروف زمان ومكان معينيين .
لقد غفل دعاة التنوير العرب في معظم الأحيان عن هذه النسبية. وأدت بهم هذه الغفلة إلى كثير من الشطط , وكثيراً ما أدى ذلك إلى ضرر جسيم . وهذا ما سنبينه فيما يلي :
2- لابد من الإتفاق مبدئياً على أن الإنسان لا يعيش لوحده , ولابد له من مجتمع يرعاه , وإلا أدى به ذلك إلى الهلاك بدنياً ونفسياً . ولهذا فإن عليه أن يدفع ثمن هذا الإنتماء , بالإلتزام ببعض القيود التي يفرضها المجتمع , خاصة التي يعتبرها ضرورية. وهذه القيود تكون على ممارسته حريته فيما يخص التعبير والسلوك.
أما من حيث الإعتقاد فيمكنه ممارسته بحرية أوسع , حيث لا يطلع عليه أحد. ومع ذلك فإن مسايرة الفرد في اعتقاد ما استقر عليه مجتمعه من اعتقادات أساسية , هو شرط من شروط احتفاظه بتوازنه النفسي والعقلي .
أما الدعوة إلى التسامح مع الرأي المخالف , فلا يمكن أن يكون حقاً مطلقاً بلا حدود , فلا يمكن أن يسمح بذلك بدون أي تحفظ , تماماً كما في حرية التعبير والسلوك . ولابد من وجود استثناءات وتحفظات يفرضها المجتمع فيما إذا شعر أنها تهدد كيانه .
( أضيف من عندي إن أقرب مثال متعارف عليه التجسس والخيانة )
3- أما قضية تغليب العقل واتباع المنهج العلمي وتحكيم العلم وهما الأمران الهامان في شعار التنوير, فلا شك أنهما كانا ضد الخرافة والسحر والشعوذة, وذلك بالاعتماد على المنهج التجريبي , الذي يعتمد على التجربة والملاحظة والحواس , والذي شاع عند مفكري القرن الثامن عشر , فهذا حق ومطلوب .
أما عند أنصار التنوير الزائف فقد اتخذ ذلك منحى آخر , فقد اعتبروا أن البعد عن التعصب , لا يعني إلا التخلص من التعصب الديني . وكأن ذلك كاف لتخليص البشرية من أعمال العنف والقهر. كما اعتبروا أن الدعوة لتحرير العقل كأنها مرادفة لتحرير الإنسان من العقيدة الدينية والإيمان بالغيب . وأن الإيمان بالغيب يؤدي بالضرورة إلى إفساد العلم , ويدفع الإنسان دفعاً للخروج على قواعد التفكير المنطقي والمنهج العلمي .
والحقيقة أن هذا هو أحد المواقف الشائعة في حياتنا الثقافية التي تتخذ من التنوير شعاراً, حيث يقصدون بها الهجوم على الموقف الديني, وكأنه المصدر الوحيد الممكن للتعصب الذميم , والإعتداء على حرية الآخرين , وكأنه الخطر الوحيد الذي يهدد التقدم العلمي . كما أنهم يرفضون التسليم بإمكانية التعايش بين العقيدة الدينية وبين الموقف السليم لمراعاة الحرية والتسامح والعقلانية والعلم .
ويرد على ذلك بأن التعصب الذميم المفجر لكافة أنواع المآسي , له أمثلة في التاريخ العلماني , لا يقل عدداً وقسوة عما نجده في التاريخ الديني . ويكفي أن نذكر القارئ بأمثلة التعصب والقسوة التي ارتبطت بالثورة الفرنسية , وتاريخ الحركات الإشتراكية والماركسية , وتاريخ الحركات القومية كالنازية . وما فعلة الأوروبيون في مستعمراتهم باسم المدنية . وما شهده القرن العشرون من حروب باسم الديموقراطية . وما شهدته الأعوام الأخيرة مما ارتكب ضد مسلمي البوسنة والشيشان وفلسطين .
وكذلك فإن الإيمان بالغيب , ليس بأكثر كفاءة في توليد التعصب والتطرف من الإيمان بالعلم أو الإيمان بالحرية .
وعلى كل حال فإن الإيمان بالغيب إذا فهم على أنه الإيمان بكل ما لم يقم عليه دليل مادي ملموس ومحسوس . فإن هذا ليس مقصوراً على العقيدة الدينية. فإن معتقدات العلماني مليئة بالغيبيات كالإيمان بحتمية التقدم , والإيمان بأنه من الممكن للإنسان الوصول إلى الكمال , وبأن العلم سيكشف كل ما كان مجهولاً ويحقق السيطرة على الطبيعة . وبأن انتصار الإشتراكية حتمي . وبأن أمتي أفضل من أية أمة أخرى . وبأن الرأسمالية أفضل النظم , وأنها نهاية التاريخ . إلى آخر تلك القائمة من غيبيات الفكر العلماني . وكل هذه الصور من التعصب العلماني كثيراً ما يفسد العلم ويعاديه , مثلما عادى التعصب الديني العلم وعاداه. وأنظر إلى التعصب للماركسية في الإتحاد السوفيتي والدول الخاضعة له من تحريم الإعتقاد بما يعارض مسلمات المادية الجدلية, وأنظر إلى وأده واستبعاده للبحوث العلمية والبيولوجية التي تشكك في مسلمات الإشتراكية .
وأنظر إلى ما فعلته القومية النازية ضد أي فكرة تتعارض مع فكرة تفوق الشعوب الآراية . وكذلك ما تفعله وسائل الإعلام ضد من يحاول التشكيك في النظام السياسي والإقتصادي الأمريكي .
إن الإعتقاد الديني لا يحول العالم إلا جاهل. كما أن رفض الدين لا يجعل الجاهل عالماً . والأديان السماوية كلها كانت عند ظهورها حركات تنويرية حقيقية من الطراز الأول , وإن اختلط بها في مراحل تالية من تاريخها حركات منافية ومعادية للعلم .
4- إن موقف فلاسفة التنوير في أوروبا في القرن الثامن عشر مفهوم تماماً فقد كانت هناك تحولات إقتصادية وإجتماعية وعلمية . ولم تكن أفكار عصر الإقطاع تخدم هذه المرحلة . فقد كانت الحرية والتسامح وتحكيم العقل والعلم سلاح البرجوازية ضد الإقطاع والنبلاء والكنيسة . حتى تحول العلم إلى دين جديد . ولا شك أن فلاسفة التنوير في أوروبا سلطوا الضوء على جوانب كانت مظلمة حقاً فأناروها . ولكن من الخطأ - فيما يرى - أن نسايرهم فيما أبدوه من شطط ومبالغات وأفكار كان المقصود منها أن تخدم أغراضاً معينة لعصر معين .
5- وكذلك يمكن أن نتفهم دوافع رواد التنوير العرب الأوائل منذ أوائل القرن الماضي , الذين حملوا لواء الحرية ودعوا إلى إعمال العقل ورفعوا شأن العلم وحاربوا التمسك بالقديم . فقد كان لهولاء قضية – شأنهم كشأن سابقيهم من رواد التنوير الغربيين – وهي اللحاق بالغرب , فقد إعتقدوا أنهم بمجرد إعتناق نفس الأفكار يمكنهم اللحاق بالغرب . وقد يكونون معذورين إلى حد ما. فقد كان كل ما يبدو من الغرب ناصعاً وجديراً بالمحاكاة . قد سافر طه حسين إلى فرنسا , وقرأعن ديكارت صاحب نظرية الشك . وعاد إلى مصر يدعو إلى الشك في كل شيء . حتى ما كان ورد في القرآن الكريم . وكذلك فعل غيره .
لقد غفلوا عن إن هذه الشعارات كان لها لدى الغرب استخدامات معينة وحدود, وتفسيرات تناسب الظروف التي نشأ فيها التنوير في الغرب , وقد لا تناسبنا نحن .
ولم يلتفت رواد التنوير العرب إلى أن الحرية التي نادى بها الغربيون , لم تكن تعني الحرية للجميع . بل حرية البرجوازية بالذات ضد تدخل الدولة , ولم تشمل تحرير الفقراء من فقرهم , أو حريتهم في الإضراب للحصول على مستوى لائق من العيش .
أما المساوة فإنما رفعت ضد النبلاء. والعقلانية كانت ضد التفكير الميتافيزيقي المرتبط بالعقيدة الدينية , لأن الكنيسة كانت في معسكر الإقطاع .
هل كان من الضروري لطه حسين مثلاً أن يتهكم على المتدينين في كتابه الشعر الجاهلي ؟ وهل كان في حاجة لإثارة تلك القضية المفتعلة ؟ أم كان فقط يشكك بما يعتقده الجميع . وذلك ترديداً لكلام مستشرق إنكليزي (مرجيلوت). وهل هناك حقاً حاجة لتدريس اليونانية واللاتينية كشرط لتجديد الأدب العربي. أم لمجرد أنهم في فرنسا يعتنون بذلك لأنها ضرورية عندهم حيث أنها أصل اللغة الفرنسية .
إن هذا الشطط والمبالغة في تقليد أوروبا قدر له الذيوع والإنتشار. وذلك لعدة أسباب , منها الشعور العام لدى المثقفين أن (الغرب على صواب ) بالإضافة إلى وقوف المؤسسة الحاكمة والمسيطرة على قنوات الثقافة معهم , ناهيك عن وقوف الغربيين إلى جانبهم أيضاً .
وهكذا رفعنا شأن هؤلاء التنويرين المفرطين في التغريب فوق غيرهم . وضربنا صفحاً عن فريق آخر من المثقفين الذين لا يعوزهم العلم أو العقلانية. ولم يكونوا أقل تنويراً من أنصار التنوير على النمط الغربي . لقد كان انهزام هذا الفريق من المثقفين المنتصريين للتراث , ضد دعوات التنوير على النمط الغربي خسارة حقيقية للثقافة العربية . وكانت موجة التغريب المؤسفة هي التي تغلبت على الثقافة . وأصبح من يثير الشك في هذا التغريب , مثال للإستهزاء أو الإهمال . وهو يتأسف لذلك ويقول أنه يتمنى لو أنه لم يحدث ولم يكن ذلك ضرورياً للسير في طريق النهضة .
6- أما الجيل التالي من رواد التنوير الذين تربعوا على عرش الثقافة العربية في الخمسينات والستينات فقد كان عذرهم أقل , وذنبهم أفدح , حيث قد ظهرت شكوك كثيرة حول صلاحية هذه الصورة من التغريب . وحول أهلية الغرب لأن يكون القدوة التي تحتذى بدون تردد , خاصة بعد تكشف ما فعلته النازية والفاشية بالحرية , وما فعلته الديموقراطية الغربية لإشعال حرب عالمية ثانية, أبشع من الأولى , وما فعلته بالحرية والديموقراطية . وما ألقته المكارثية من ضوء على مدى استعداد الغرب للتسامح مع الرأي المخالف . وما أتخذته حرية المرأة من صور كثيراً ما تنطوي على أشياء غير الحرية . ولكن الغالبية العظمى من التنويرين لم يروا كل ذلك . بل رأوه وضربوا عنه صفحاً واستمروا يتكلمون وكأن التنوير والتغريب مترادفان .
كان الغرب قد انقسم بعد الحرب العالمية الثانية الى معسكرين, رأسمالي وإشتراكي , وكذلك انقسم التنويريون العرب الى قمسين : تنويريون على طريقة الرأسمالية , وتنوريرون على الطريقة الماركسية .
وصارت الحرية حريتين , والتسامح والديموقراطية نوعين, حتى العلم أصبح علمين.
وقرئ التراث قراءتين, قراءة محافظة وقراءة يسارية , ووصل العبث بالثرات إلى منتهاه, في كلا الإتجاهين. كل يقرأه على هواه وهكذا حل التنوير الأمريكي من جهة والماركسي من جهة محل التنوير الأوروبي .
أما بعد سقوط الإتحاد السوفيتي فقد دخلنا في مرحلة جديدة , هي مرحلة العصر الإسرائيلي وأصبح العدو الجديد في هذا العصر الجديد, هو كل من يعادي المشروع الصهيوني ويقاوم التوسع الإسرائيلي, وهو مايسمى الإرهاب أو الأصولية الإسلامية .
فالتنوير الآن هو التصدي للأصولية الإسلامية باستخدام شعارات التنوير الخالدة, حرية التعبير والتسامح مع آراء الآخرين والعقلانية والعلم. ولا تكاد تستخدم إلا ضد من يرفعون راية الإسلام. ولايستخدمونها ضد القمع الذي تمارسه الحكومات , وهم حلفاء الدول الكبرى ضد الشعوب, ولا يستخدمونها ضد القهر الذي تمارسه إسرائيل ضد الفلسطينين والعرب.
بل ويسوقون التطبيع مع إسرائل تحت نفس شعارات التنوير. بل وأحيانا يعبرون عن تفضيلهم للتعامل مع إسرائيل على التعامل مع التيار الديني.
باسم مكافحة الإرهاب الديني يجري الآن تبرير مايسمى بعملية السلام مع إسرائيل, مع أنها هي نفسها لا تقل إرهابا وقهرا عن أنواع الإرهاب الأخرى.
إن قصة التنوير في بلادنا تبدو محزنة للغاية .
أما طريق الخلاص فهو في تخليص مفهوم التنوير مما دُس فيه, وإعطائه المضامين التي تتفتق عنها أذهاننا لمواجهة المشكلات التي نقوم نحن بتشخيصها, وصولا لأهداف نقوم نحن بتحديدها.
التنوير الزائف في ثورة المعلومات
يتحدث تفصيلياَ عن ثورة المعلومات وأهميتها العلمية في هذا العصر والتي لا يماري فيها أحد وذلك في أربع صفحات ولكنه يركز على أربعة مصارد للقلق بخصوص ذلك الأمر الهام وهي :
1. المصدر الأول للقلق: يتعلق بنوع المعلومات التي يجري جمعها وتخزينها وتحليلها ونقلها . قد يكون كل ذلك سهلا على الكمبيوتر. أما في الذهن البشري فلا بُد أن ينشغل بكل معلومة مهما بدت تافهة, مما يُؤثر على إنشغاله بما هو أجدى وأهم .وهناك وهم أن كل معلومة تتضمن نفعا وفائدة . وهو يرى أنه يجب التحذير والتأكيد على أن هناك علم ينفع الناس, وعلم لا ينفعهم .ونحن نُفاخر بما لدينا من برامج استقبال مع أن كثيرا مما نشاهده ونعرفه يزيد ضرره على نفعه .
2. المصد الثاني: يتعلق بكمية الملعومات وليس نوعها, كما سبق.وبرأيه فإن المهم فهم المعلومات والإستفادة منها , وليست الغاية بكميتها الكبيرة التي قد تؤدي زيادتها عن حد معين إلى صعوبة فهمها وعدم الاستفادة منها .
3. المصدر الثالث للقلق: يتعلق بنوع استخدامها فكما أنها يمكن أن نستخدم لتحرير الإنسان فإنها يمكن أن تستخدم لقهر الإنسان وإستعباده. كما في حالة إستخدامها في الحروب ورفع كفاءة الأسلحة المدمرة . بالإضافة إلى إستخدامها في قهر الناس للتجسس عليهم, وتقييد حرياتهم. والأدهى من ذلك أننا نحن العرب إستخدمنا السلاح لقهر بعضنا البعض , أكثر مما إستخدمناه في قهر العدو وإخضاعه . وكذلك فعلنا في وسائل الإستخبارات العامة لقهر المواطنين أكثر مما إستخدمناها ضد العدو الخارجي. وكذلك إستخدمنا ثورة المعلومات في إنتاج وسائل الترفية التي تؤدي إلى تخدير الإنسان, وإفقاده لوعية, بدلاً من إستخدامها لما ينفعه ويمتعه, مما يجعله من التنوير الزائف .
4. المصدر الرابع والمثير للقلق من ثورة المعلومات - والذي قد يكون في نظر الكثيرين - أهم وأخطر هذه المصادر ( المثيرة للقلق) كلها . وهو يتعلق بأثر ثورة المعلومات , مقترنة بثورة الاتصالات , في قهر ثقافة الغرب للثقافات الأخرى , مما يساعد في إنتشار التنوير الزائف الذي هو التغريب .
ولنشرح ذلك : من الخطأ الظن بإن المعلومات بطبيعتها محايدة لا ضرر منها . بل إنها في الحقيقة لا تأتي إلينا إلا مختلطة بثقافة معينة, أو برسالة خاصة , لا حياد فيها . وهي تتضمن في جوهرها - على الأقل – نشراً وترويحاً لنمط من الحياة , قد يكون مضاد لنمط حياتنا , ويشيع فينا الشك في صلاحية أسلوبنا في الحياة وجدارته بالإتباع (خاصة وأننا أمة مغلوبة )
أنظر مثلاً إلى نقل الإحتفالات في بلد أوروبي أو أمريكي لإختيار ملكة جمال العالم , أو عروض الأزياء , أو نشر فضائح كلينتون بكل تفاصيلها , أو تعليق زوجته على هذه الفضيحة , وبأنها غفرت له ما فعل مع تصوير هذا على أنه موقف أخلاقي نبيل .
وعلى الرغم من كل هذه الأسباب المهمة والداعية للقلق من ثورة المعلومات نجد في بلادنا حماساً شديداُ ليس من بسطاء الناس وأنصاف المتعلمين , بل ومن المثقفين من صحفيين وكتاب وسياسيين, وهم ليسوا جهلة أو سذجاً , لا يدركون ما ذكر سابقاً . بل بعضهم لا يشعرون بأي ضيق من جراء تصدير هذه القيم إلينا لأنهم يميلون إليها, كما أن بعضهم الآخر له مصالح في ذلك حيث بعضهم وسطاء والبعض الآخر يستفيدون مادياً من زيادة الإنفتاح الإقتصادي والإستهلاك للسلع التي تروج عن طريق تقليد الغرب . ويؤكد أن الخسارة التي تلحق بالثقافة العربية , قد تكون أكبر من أي خسارة تلحق بأية ثقافة أخرى , تتعرض لغزو الغرب .
وهو لا يقول ذلك من باب الحماسة الوطنية والمبالغة في حب النفس . بل يقول ذلك من باب الإعتقاد أن الثقافة العربية كانت يمكن أن تقدم بديلاً صالحاً يساعد العالم كله على التغلب على هذه الأخطار التي تجلبها ثورة المعلومات . فالثقافة العربية مضادة تماماً لتلك الجوانب الأربعة التي أعتبرها مصادر للقلق من ثورة المعلومات . وهذه بعض ما تتميز به الثقافة العربية :
1- تميز الثقافة العربية تمييزاً صارماً , بين أنواع المعلومات التي يجوز نشرها وترويجها , وتلك التي لا يجوز نشرها أو ترويجها وتميز بين (علم ينفع الناس ) (وعلم لا ينفع الناس ) فتشجع الأول وتستهجن الإنشغال بالنوع الثاني.
2- هناك رفض أصيل للموقف المحايد , في العلم والأدب والفن . فالعلم لا بد أن يكون نافعاً . والفن والأدب يجب أن يكونا أخلاقيين . فلا يقبل الأدب والفن الذي يصور الرذيلة كأنها حقيقة واقعة. وكذلك يرفض تصوير الشر والجريمة والإبتذال كأنه أمر طبيعي.
3-تحتوي الثقافة العربية على موقف أصيل يستهجن الجري وراء الكثرة على حساب النوع والمضمون , سواءً كان ذلك كثرة في المال, أو كثرة في الجاه , أو كثرة في المعلومات , وهو موقف مضاد تماماً لقيم المجتمع الإستهلاكي.
4- إن من المعاني الاساسية لعبودية الإنسان لله في الإسلام عبادة الله وحده ,ورفض الخضوع لكل ما عداه وهذا بالتالي يحرم قهر الإنسان واستعباده .
تصغير الكبراء
لقد ازاد في العقدين الماضيين عدد الكتابات المنشورة في مصر, التي تتناول أغلي المقدسات لدى المصريين وبأقل قدر من الاحترام الواجب لها .
وهذه الظاهرة تمثل جزءاً من حركة التنوير في الثقافة المصرية . وهي مؤسفة كما أنها مدهشة , وداعية للتأمل .
إني لا أجد أي سبب للشعور باحترام خاص لكاتب يجعل كل همه إبراز نقائص شخصية تاريخية عظيمة , اتفق الناس على احترامها . خاصة وان ذلك لا يحتاج إلى ذكاء خاص , أو تحقيق مميز, وإنما يحتاج إلى سلاطة اللسان , ورغبة قوية في لفت الأنظار , وميل للحصول على رضا الأجانب ولو على حساب أهله وقومه .
إن هؤلاء المشغولين بتصغير الكبراء يحبون أن يصوروا أن ما يقومون به , على أنه تنوير, وأنه جزء من حركة تحريرية عظيمة للعقل البشري . وأنهم بذلك ينتصرون للعلم والمعرفة , وإنهم يخدمون قضية المساواة والديمقراطية .
وهو يشبه عملهم بالشاب المراهق الذي يرغب في إثبات شخصيته بتحدي أبويه والإستخفاف بمن يكبرونه سناً.
ولعل أخطر ما في هذا التنوير الزائف , أنه يشيع في الأمة مناخاً نفسياً وفكرياً مضاداً تماماً لنهضة الأمة . إن عظماء الأمة هم أفضل ما فيها , والسخرية بهم سخرية من الأمة نفسها . وكفى بذلك هواناً لهذه الأمة .
عبادة المستقبل
يقول إن عبادة المستقبل لا تقل سوءاً عن عبادة الماضي . نحن نلوم هؤلاء المنغمسين في الماضي , والحالمين بالرجوع إلى ماض ذهبي , ولا يمكن في الحقيقة الرجوع الى تكراره . ولكن هاهم عبدة المستقبل , يؤمنون إيماناً لا يتزعزع بفكرة التقدم , دون أن يكون لدينا سبب معقول لهذا الاعتقاد .
فليس هناك أي سبب للإعتقاد بأن القرن الحادي والعشرين سيكون بالضرورة أفضل من القرن العشرين . فهل كان القرن العشرون بحروبه الكثيرة ومآسيه , ونازييه , وفاشييه , وأزماته الإقتصادية أفضل مما سبق من القرون ؟ لا أظن ذلك .
ويقول : لاشك أن لدينا قدراً زائداً من الجبرية وتواكلا شديداً وإهمالا للمستقبل , سواء بالتنبؤ به أو بالعمل له . ولكني استغرب بشدة ما وصل إليه الأوربيون والأمريكيون من غرور بقدرتهم على السيطرة على هذا المستقبل . وقد دفعنا ثمناً باهظاً لمبالغتنا في اعتقادنا ( بالجبر) ولكنهم هم أيضاً بدءوا, فيما يبدو له , يدفعون ثمناً باهظاً لمبالغتهم في إعتقادهم في (حرية الاختيار) .
الفصل الثاني : نماذج من التنوير الزائف
1- في البحث التاريخي : بين طه حسين ومحمد الغمراوي مع مقدمة لشكيب ارسلان .
1- عندما وقع في يدي كتاب طه حسين ( في الأدب الجاهلي) لأول مرة , كنت أصغر من أن أستطيع أن أقيمه التقييم الصحيح . وكنت أعرف الأهمية التي أحتلها الكتاب , والضجة العظمى التي أثارها, حين صدوره اول مرة . ولكن القضية كانت تبدو لي حين قراءتي له في منتصف الخمسينات قد حسمت لصالح طه حسين ولقضية (التنوير المزعومة ) ولم يكن أحد من كبار الكتاب يشكك ( أو هكذا كنت أظن ) في سلامة موقف طه حسين . ( رغم معارضة الأزهر والعلماء له)
2- كنت في زيارة لليمن في منتصف الثمانينات , وقد وقع نظري في معرض الكتاب هناك , على كتاب بعنوان ( النقد التحليليي لكتاب في الأدب الجاهلي ) ومؤلفه هو د . محمد الغمراوي مع مقدمة للعلامة شكيب أرسلان صدر عام 1929 . وذلك بعد ثلاث سنوات من صدور كتاب طه حسين . ولفت نظري اسم شكيب أرسلان الذي قرأت له ( لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم ) وأعجبت به كثيراً فكراً وعاطفة ولغة وموقفاً . كما لفت نظري اسم محمد الغمراوي الذي أذكر أن أبي كان معجباً به كثيراً . وذكر ذلك في كتاب (حياتي) , وذلك حين وصف أصدقاءه الذين أثروا في تفكيره وفي نظرته للحياة . وأكد على أن الغمراوي أثر في مدرسته العالية , فدينهم وملأ المسجد بهم .
وكان يحلو له الكلام في الدين , ولا يسمح بأي انتقاد للدين . ويهابونه أصحابه بطربوشه أكثر مما يهابونني بعمتي على حد تعبير أحمد أمين حيث كان يلبس عمة في ذلك الوقت .
3- اشترى الكتاب , ثم استعاره آخر , فأضاعه . ونسي الموضوع حتى تم إعادة طباعة كتاب الشعر الجاهلي . ففتش عن كتاب الغراوي فلم يجده في الأسواق , مما اضطره إلى تصويره من مكتبة عامة . ويشيد كثيراً في حجج الغمراوي وشكيب أرسلان المنطقية السليمة في الرد على طه حسين . وذلك بعد قراءته لكتاب طه حسين ولكتاب الغمراوي الذي يفنده بالتفصيل . وينقل عنه بعض تلك المناقشات .
- ويمدح الغمراوي وجلده العلمي وأسلوبه البليغ حيث قام بدراسة ديكارت ومذهب الشك عنده ( حيث كان اعتماد طه حسين على نظريته في الشك باعترافه ) كما قام بدراسة الشعر العربي وبخاصة الشعر الجاهلي . بالرغم من أنه كان يدرس الكيمياء في جامعة لندن .
- واقتطف الحجة البسيطة البديهيه التي أثارها شكيب أرسلان حول انتحال الشعر الجاهلي فيقول : فليخبرنا طه حسين أو مرجيلوت من الذي قام بهذا العمل كله بعد الإسلام ؟ أكان رجلاً واحداً صنع الفرى كله وصنع هذه العجائب وحده ؟ أم أن هناك جماعة تسانده وتؤازره . فان كانوا جماعة فمن كانوا ؟ وأين كانوا ؟ ومن ذكر من خبرهم أو خبر ذلك المزورللشعر الجاهلي البليغ . طبعا لا جواب لدى طه حسين حول ذلك .
- ويتابع صاحب الكتاب جلال أمين ويقول : لم يعد الآن أحد يشك في أن قضية الشعر الجاهلي , والطعن في أصالته كانت زوبعة . ولم يعد أحد يعبر ذلك الشك الذي أثاره طه حسين أي اهتمام جدي . ولم يبق من ذلك الكتاب إلا ذلك التهكم والسخرية و الشك في المقدسات الدينية . ورغم ذلك فقد قاموا بإعادة طباعة ( الطبعة الثالثة ) كما ذكر على النسخة التي اشتراها والتي طبعت حديثا ً .
- وهذا مثال على ( التنوير) الذي شاع لعقود ثم يتبين زيفه .
في النقد الأدبي بين فهمي هويدي وصبري حافظ وآخرون
كتب فهمي هويدي مقالاً يشكو من كتاب نشرته هيئة حكومية , يحتوي على عبارات تتكلم عن القرآن الكريم وبعض المقدسات الدينية ببذاءة وبسوء أدب . وقد وجدت موقف الهويدي طبيعياً ومفهوماً .
رجل مثل ملايين المسلمين يغضبه ويؤلمه أن يجد معتقداته تعامل هذه المعاملة . خاصة وأن الدولة هي التي أصدرت هذه الرواية (الصقار).
انهال المثقفون المصريون على فهمي هويدي سباً وتشنيعاً . واتهموه بأنه يستعدي الدولة على المثقفين , وبأنه يهدد حرية التعبير والإبداع .
بل قال بعضهم معترفاً أنه لم يقرأ الرواية ولكنه لا يشك في حق كاتب الرواية في التعبير عن نفسه بدون أي قيد أو شرط .
وكان من هؤلاء الثائرين على الهويدي كتاب يساريون , عرفوا بإنتصاراتهم للإشتراكية التي لها موقف معين في قضية حرية التعبير . فهم لا يسمحون بحرية التعبير إذا كانت ضد مصلحة الشعب. ولابد عندهم من الإلتزام في الأدب والتعبير . فلماذا انقلابهم إلى الدفاع عن حرية التعبير وهذا مما يثير الشك في إخلاصهم.
وهكذا فهم يربطون بين من يغار على دينه مثل فهمي هويدي وبين الإرهاب والتطرف والأصولية .
يقول لقد قمت بقراءة هذه الرواية , وأصابني الذهول ليس فقط بالكلام على الدين والمقدسات , وانما بوصف المواقف الجنسية بشكل بذيء , فضلاً عن ركاكة اللغة وخلو الرواية من أية موهبة أو فن . وكأن التطاول على دين والإباحة الجنسية هي الطريق إلى الإبداع .
وهو يفند انتقاد صبري حافظ ( وهو مدرس النقد الأدبي في جامعة لندن ) لفهمي هويدي بدعوى أن هويدي صحفي لا يفهم في النقد الأدبي ولا يجوز له أن ينتقد الرواية بدعوى المحافظة على الفضيلة ألى ما هنالك .
وهذا مثال ثان على التنوير الزائف, الذي يقول بأن حرية التعبير مطلقة لايجوز المس بها مهما تعارضت مع المعتقدات والقيم .
الخاتمة
لقد ازدادت حملة الدعوة للاصلاح مؤخراً بتأثير الخارج . ويقول الكاتب أنه لا يقصد بالطبع رفض أية مساعدة قد تأتينا من الخارج , مهما كان دوافعها أنانية أو غير أنانية . ولكن الذي يعيب أن يحدث هذا التدخل في أمور لا يجوز التدخل فيها ( كالمناهج الدينية ) أو يكون التدخل بجرعة غير ملائمة أو في وقت غير مناسب .
ويختصر الموضوع بأن للإصلاح وصفة أجنبية ( أو جدول أعمال أجنبي ) ووصفة أخرى محليه , سواء كانت مدعومة من الخارج أو غير مدعومة , يجب تنفيذها . ويحذر من الوصفة الأجنبية حيث أن النتيجة الحتمية ليست إصلاحاً , بل مجرد واجهه مزيفة من الحداثة أو بعبارة أخرى لن تكون إلا تنويراً زائفاً .