سوريا... لا خبز... ولا حرية
الفصل الخامس
آلن جورج
ترجمه: د. حصيف عبد الغني
"نور الحرية" البرلمان
في الساعة السادسة مساءً بالتحديد, رنّ جرس لإنهاء الصخب المتصاعد من حوالي مئتين وخمسين عضواً في مجلس الشعب: وبسرعة ساد النظام. عبد القادر القدورة, رئيس المجلس غائبٌ في أثينا ليحضر اجتماع البرلمانيين الأوروبيين. أحد مساعديه قرأ لائحة الغائبين -عن الجلسة-. ودون إثارة أدنى وشوشة أو حوار بين الأعضاء الحاضرين, كان إسم رياض سيف وزميله مأمون الحمصي بين أسماء الذين لم يستطيعوا حضور الجلسة لأنهما كانا في السجن ولأنهما طالبا بإدخال الديمقراطية الحقيقية لبلدهما حيث يوجد برلمان مهمته فقط الدعم والتصفيق لأوامر الرئيس.
يبدو الدستور حسناً. ففي مقدمته تأكيد على ديمقراطية شعبية فيها (حسب المادة 50): يتمتع مجلس الشعب بسلطة تشريعية محددة بالطريقة التي حددها هذا الدستور، وفيه (حسب المادة 50) أيضاً أن أعضاء المجلس يُختارون بالانتخاب العام السري المباشر العادل حسب قانون الانتخاب". ويوفر الدستور إطاراً مفصلاً لنظام البرلمان ودوره مستعملاً تعابير يوافق عليها أي ديمقراطي. ثم يأتي الأمر كصدمة للمتابع في المادة (107) التي تؤكد حقيقتها في الجملة التي تذكر " يستطيع الرئيس حل مجلس الشعب بقرار يعطي مبرراته ". والمادة (109) تؤكد أن الرئيس يمكنه تقديم مشروع قوانين إلى المجلس ليوافق عليها، والمادة (111) تُبين أن الرئيس يتولى السلطة التشريعية عندما لا يكون مجلس الشعب في حالة انعقاد ".
أ – رقيب بدون سلطة:
" من حرم المجلس (المقدس) يشع نور الحرية ليملأ أرجاء الوطن كله ". هكذا أعلن الرئيس حافظ الأسد في خطابه للبرلمان".ومن خلال هذا المجلس تُضمن ممارسة الحرية بمعناها الحق والصحيح".(1)
والواقع أن الأمر تمثيلية (حزورة)! ومجلس الشعب -وهو تغطية لفظية لبرلمان ٍ حقيقي-، هو واحد من المؤسسات التي تخدم الرئيس بدون أي سلطة حقيقية، خلقها حافظ الأسد محاولاً جعل حكمه مشروعاً بعدما استولى على السلطة. وهذا المجلس هو أبعد ما يكون عن البرلمان السوري بعد الاستقلال الذي جرت في أرجائه المناقشات الحيوية. وكما لاحظ (فولكر برثِسْ) ولو بتعبير أخف مما يقتضيه الحال: "بقي (البرلمان) خلال حكم البعث على هامش الحياة السياسية".(2)
وهذا لا يعني أنه لم يحتل صدر المسرح خلال الفترة الماضية فالمادة (83) من الدستور تذكر أن المرشحين للرئاسة يجب أن يكونوا فوق سن الأربعين. وعندما مات والده كان بشار الأسد بصورة غير مناسبة في الرابعة والثلاثين من عمره... فما الحل ؟ كان من الواضح أن هناك ضرورة لتغيير الدستور لتستوعب الرئاسة بشار بعمره الحالي وهذا ما جرى في نفس اليوم الذي مات فيه أبوه في قاعة البرلمان بإجماع الأصوات في العاشر من حزيران عام 2000. وفي 27 حزيران عام 2000 وافق البرلمان بإجماع الأصوات أيضاً على ترشيح بشار الأسد للرئاسة والذي تقدمت به القيادة القطرية لحزب البعث وأعلِن أن الاستفتاء على ترشيحه سيكون في العاشر من تموز عام 2000 وسجلت وكالة الأنباء السورية (سانا) أن موافقة البرلمان -مجلس الشعب- على ترشيح بشار توجت جلسة برلمانية عاصفة أعلن فيها المتحدثون دعمهم الكامل وولاءهم التام لاستمرار مسيرة الرئيس الراحل في شخص إبنه (الأمل) لمناعة سورية وكرامتها وصمودها".(3)
وبالنسبة لأعضاء مجلس الشعب لم يكن سجن زميليهم رياض سيف ومأمون الحمصي بالموضوع الكبير. لم يكن، ببساطة، من اختصاصهم العملي تحدي القرار بسجن زميليهم، والذي اتخذ على أعلى مستوى في السلطة. فمجلس الشعب هو أقرب إلى مجلس استشاري وليس لبرلمان بالمعنى الأوروبي - الأميركي. فآراؤه مرحب بها ولكن ليس من المتوقع من هذا المجلس أن يُعَرّض سفينة الحكم للخطر. وهذا هو جزء من رفض النظام العنيد التسليم بأن ليس في سورية أية وحدة متماسكة. وبدون وجود خصام فما الحاجة إذن للنقاشات الجادة والحلول الوسط ؟ والجلسة المسائية التي دامت ساعة واحدة والتي حضرتها في 16 شباط /2002/ بحثت في مواضيع الاتفاقيات فيما خص الإزدواج الضريبي بين سورية من جهة وإيطاليا وبولونيا من جهة ثانية، واتفاقية بحرية مع الأردن، ودمج فترتي التعليم الابتدائي والمتوسط في مرحلة ٍ أساسية تربوية واحدة، وقانون تأسيس لجنة من المحامين والقضاة لمراجعة النظام القضائي في سورية، كان الموضوع الخلافي الوحيد المحتمل، نظراً للأوضاع الخطرة للنظام العدلي في بلد كانت المراسيم الرئاسية فيه هي القانون الوحيد الهام منذ الانقلاب البعثي عام 1963، وحيث الجهاز القضائي السيئ السمعة لفساده وللتلاعب السياسي فيه كبقية عناصر الدولة. (راجع الفصل السادس).
وتُصدر الحكومة التشريعات حسب رغبات الرئيس التي لا تتحداها هي أبداً. وتُرسَل مشاريع القوانين من الرئيس إلى البرلمان للمناقشة والموافقه. ولكن بما أن البعث وحلفاءه يتمتعون بأغلبية عددية دائمة في البرلمان أصبح دور الأخير أن (يبصم) أو يختم بصورة آلية - ودون نقاش - كل القرارات الرئاسية". هل كان هناك أية حالة خالف فيها الرئيس قرارات البرلمان ؟ " تساءل عبد القادر قدورة رئيس المجلس وأجاب مؤكداً "لا"، وهو الرجل اللطيف (أبو الجميع) الذي أصبح رئيساً للمجلس منذ العام 1988(4) ولقد فسر لي بصدق مدهش أن كل شيء يُرَتّب مسبقاً منذ البداية، وأكد أن الرئيس -رئيس الجمهورية- هو رئيس الحزب أيضاً: "وعندما يرفض الرئيس شيئاً يُعلم الحزب بذلك قبلاً. كل حزب (في العالم) يسلك هذه الطريقة... زعيم الحزب يجتمع بحزبه". إذا كانت إرادة الرئيس هي الأمر الأهم فأي دور بقي للبرلمان ؟ ولمعت عينا قدورة قليلاً كأنما فضل التعميم بدعابة "أي رئيس إذا رغب بشيء... حصل عليه."
عندما يشار إلى أن الديمقراطية البرلمانية في سورية مزيفة يعمد الرسميون بسرعة للف نفوسهم بالعلم الوطني مدعين أن الديمقراطية هي نتاج أصيل لشروط البلد الاجتماعية والسياسية وأن الأنظمة الأجنبية لا يمكن تطبيقها. والحق أنهم يتطرفون لدرجة كبيرة حين يشيرون إلى أن النقد الآتي من الخارج ما هو إلا الامبريالية".إنهم أسلوب مختلف لا يمكنك استعمال نفس المقاييس"، ولقد قال لي أيمن عبد النور أحد مستشاري بشار الأسد المقربين جداً " هذا أمر هام جداً، وهذه إحدى أهم الصعوبات التي أواجهها مع الأوروبيين والأميركان. يريدون قياس كل شيء بمعاييرهم. لا يمكننا فرض ديمقراطية من الخارج."(5)
الجزء القديم من بناية البرلمان الرائعة في حي الصالحية بقلب دمشق شيّد بالحجر عام 1932 ثم جرى توسيعه بعد ذلك. وتغطي قاعة الاجتماع الرئيسة قبة ضخمة وهي آية في الفن والزخرفة العربية الشامية الممتازة الشهيرة. وربما الصورة الأخّاذة فيها هي الأطر الخشبية المنقوشة السوداء التي تحيط اللوحات الجدارية البيضاء. وقاعدة القبة تزينها لوحات تمثل مناظر مدينية وريفية باللونين الأخضر والذهبي تُذكر بالزينة الجدارية البيزنطية للجامع الأموي، والجامع واقع على مقربة في الجنوب الشرقي للمدينة لا تزيد المسافة بينه وبين البرلمان عن كيلومتر واحد أو يزيد قليلاً. لا بد أن بناية البرلمان هي أجمل بنايات القرن العشرين في دمشق. والمقاعد المكسوة باللون الأحمر من أجل النواب مرتبة في خمسة مراتب متحدة المركز على شكل حدوة الحصان حول منبر خاص مرتفع تعلوه منصة خشبية غامقة اللون يجلس عليها رئيس البرلمان ومساعدوه. وعلى يسار المنصة العلم الوطني المكون من الألوان الحمراء والبيضاء والسوداء وفيه نجمتان خضراوان. وعلى اليمين علم حزب البعث المشكل من اللون الأسود والأبيض والأخضر والأحمر. والمشاهدون (وليس عامة الشعب) يستطيعون متابعة الجلسات النيابية من شرفات تحيط بالقاعة على مرتبتين أعلى من مستوى جلوس النواب ربما بعشرة أو خمسة عشر متراً. ودخول المجلس النيابي محكوم بحراس المجلس من البوليس الذين يرتدون اللباس (الكاكي) ويخضعون مباشرة لرئيس المجلس نفسه وهو خامس أقوى رجل في سورية حسب الترتيب الهرمي الرسمي، وإن لم يكن الأمر دائماً هكذا في الواقع.
الألوان فاتنة والنقوش الخشبية الفنية الثمينة والجدران البيضاء والمقاعد المنجّدة الحمراء والرخام الأسود والأبيض والصدف الفضية اللون ترصع اللوحات الجدارية, والزجاج الملون بالأزرق والأخضر والأحمر يزين أعلى جوانب القبة ومعظم أعضاء المجلس يرتدون البزة الرسمية مع أن هناك عدداً لا بأس به ممن يرتدون لباس الريف التقليدي: عباءات بنية غامقة أو خفيفة الغمق، أو رداء طويل ذو حاشية مزينة وعقال مذهب وكوفية كغطاء للرأس، بيضاء وسوداء أو حمراء وبيضاء. والبعض منهم يمزج في اللباس التقليدي والحديث (بزة وكوفية) والنساء (النائبات)! وعددهن ستاً وعشرين في هذا المجلس يرتدين لباساً محتشماً وقليل منهن يضعن شالاً على رؤوسهن كغطاء تقليدي إسلامي. وثلاثة منهن يرتدين أزياء حديثة.
وفي المقاعد أمام وعلى يمين الرسميين فوق المنصة يجلس رئيس الوزراء (محمد ميرو) ووزراؤه. وفي عمق القاعة يجلس حامل الكاميرا (آلة التصوير التلفزيونية من التلفزيون السوري يُسجّل محاضر الجلسة. والتصويت هو برفع اليد، وفي هذه الجلسة - التي أنقلها - كما في كل الجلسات هناك غالبية واضحة وساحقة.
ديمقراطية البعث
لسورية تاريخ تقليدي برلماني طويل. فأول مجلس عُقد في دمشق عام 1919 بعد هزيمة الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى، وتشكل المجلس -آنذاك - من ممثلين من جميع أنحاء سورية الطبيعية -أو الكبرى- وهي المناطق التي تشكل الآن سورية ولبنان والأردن وفلسطين و(إسرائيل). هذا المؤتمر السوري أعلن استقلال البلاد وأقام دستوراً. وفي عام 1920 احتلت فرنسا البلد بعدما حصلت على دور الدولة المنتدَبة من قبل جمعية الأمم، وحلت المؤتمر السوري . وشهد الإنتداب الفرنسي سلسلة من المجالس الوطنية مع أنها كانت كلها محدودة الصلاحيات والسلطات. وفي 29 – 30 أيار /1945/ وعلى أثر مظاهرات كبيرة مطالبة بانسحاب القوات الفرنسية من البلد الذي حصل - إسمياً - على الإستقلال، هاجم الفرنسيون دمشق عسكرياً من الجو وقصفوا الأحياء الجديدة فيها وقتلوا العديد من سكانها وشردوا الألوف الذين أصبحوا بدون مأوى. وأصيبت بناية البرلمان إصابات شديدة تهدم على أثرها أغلب البناء تهديماً كاملاً وقُتِل العديد من حراس البرلمان. وفي صندوق زجاجي مغلق معروض في غرفة قرب المدخل الرئيسي للبرلمان، نموذج صغير لما كانت عليه بناية البرلمان قبل الهجوم الفرنسي.
نالت سورية استقلالها عام 1946 كدولة ديمقراطية برلمانية ولو أن الحياة السياسية فيها كانت تحت سيطرة عدد قليل من العائلات التقليدية البارزة في المدن الرئيسية. وفي السنوات الأولى للاستقلال كان هناك أربعة أحزاب سياسية علمانية " عصرية ": حزب البعث والحزب الشيوعي والحزب القومي السوري الاجتماعي الذي دعا لوحدة سورية الكبرى والحزب العربي الاشتراكي الذي أسسه أكرم الحوراني عام 1950 ودعمه الفلاحون المسلمون السنة في السهول الوسطى. وفي عام /1952/ اندمج هذا الحزب بحزب البعث ليشكلا حزباً واحداً هو حزب البعث العربي الإشتراكي. ولما قام حسني الزعيم بانقلابه في 30 آذار عام 1949 وسامي الحناوي بانقلابه في 14 آب وأديب الشيشكلي في 19 كانون أول، حل البرلمان ولم يعد إلا في عام 1954 بعد إسقاط حكم الشيشكلي بانقلاب عسكري في 27 شباط من تلك السنة. وفي الانتخابات البرلمانية عام 1954 ربح حزب البعث العربي الاشتراكي 22 مقعداً من أصل 142 مجموع عدد النواب. وخلال عهد الوحدة 1958 - 1961 مع مصر كان هناك مجلس وطني فيه مئتا (200) عضو من الإقليم الشمالي للجمهورية العربية المتحدة رغم أن الرئيس عبد الناصر احتكر السلطة الحقيقية لنفسه وكان البرلمان (الإتحاد القومي) ضعيفاً واهناً لا فاعلية له. وبعد الانفصال عام 1961 أغلِقَ هذا المجلس.
وأول (برلمان)! في عهد البعث كان مجلساً وطنياً معيّناً عام 1965 بعد سنتين من الانقلاب ثم حل بعد عام 1966 في الانقلاب المضاد. وفي ذلك المجلس المعيّن كان زعماء الحزب المهمّون وممثلو القوات المسلحة واتحاد النقابات العمالية واتحاد الفلاحين والإتحاد النسائي والنقابات المهنية، كذلك كان فيه من سمّوهم (مواطنين تقدميين) بعضهم من البعثيين المنشقين والحزب الشيوعي السوري وأفراد آخرون. ولقد عين أسد أول (برلمان) له مؤلف من (173) عضواً عام 1971 في شباط بعد أربعة أشهر من انقلابه (أو حركته التصحيحية) كما سموها رسمياً. وكانت تشكيلته صدى للمجلس الوطني السابق وموسعاً ليستوعب ممثلين عن الأحزاب اليسارية الأخرى التي اجتمعت لاحقاً في الجبهة الوطنية التقدمية، ومن بعض المؤسسات الدينية -الرسمية - وغرف التجارة والصناعة. وهكذا وضع أسلوب ومادة العمل البرلماني منذ ذلك الحين. وبسرعة اجتمع (البرلمان) المعين وأعلن أن حافظ الأسد هو المرشح الوحيد للرئاسة. وفي الإستفتاء العام الذي أجريَ بعد ذلك نال حافظ الأسد 99.2 % من الأصوات في أول آذار عام 1971. وهذا (البرلمان) المعين تبنى الدستور - الذي لا يزال يُعمل به حالياً - ووافق الناس عليه في استفتاء وطني آخر في 31 كانون أول /1973/ بغالبية مطلقة.
الجبهة الوطنية التقدمية
في أيار عام /1972/ تشكلت الجبهة التي ربطت حزب البعث بخمسة أحزاب قومية ويسارية:
1- الحزب الشيوعي السوري.
2- حزب الإتحاد العربي الإشتراكي وهو مؤلف من مجموعة ناصرية كانت أصلاً الفرع السوري للإتحاد الإشتراكي في عهد الوحدة وهو حزب جمال عبد الناصر (بنفس الإسم).
3- حزب (الوحدويون الاشتراكيون) فرع منشق عن حزب البعث بعد انفصال سورية عن مصر آخر عهد الوحدة.
4- حزب الوحدويون الديمقراطيون الاشتراكيون وهم فرع منشق عن الحزب السابق.
5- الحزب العربي الاشتراكي: حزب منشق أيضاً عن حزب البعث عام 1964.
وبالإضافة لانتقاء وتحييد المنافسين للبعث في التيارات اليسارية، أضعف تشكيل هذه (الجبهة الوطنية التقدمية) هذه التيارات وأحدث فيها شروخاً للخلاف حول موضوع التعاون مع النظام. وربما كان أهم انشقاق وانسحاب من الحزب الشيوعي السوري هو خروج جناح رياض الترك منه مع عدد ٍ غير قليل من أعضائه وسموا أنفسهم الحزب الشيوعي السوري - المكتب السياسي وهم الذين رفضوا الانضمام للجبهة الوطنية التقدمية. وعام /1968/ انشق الحزب الشيوعي السوري مرة ثانية بسبب الاختلاف هذه المرة على موضوع (البريسترويكا) السوفيتيه وصار هناك جناح خالد بكداش وهو زعيم الحزب التقليدي المتشدد وجناح يوسف فيصل وأبقيا اسم الحزب الشيوعي السوري على حزبيهما ولكنهما بقيا في الجبهة الوطنية التقدمية.
وسيطر حزب البعث بصورة كاملة على الجبهة. وقبل أحزاب الجبهة دستور الجبهة وقوانينها كما جاءت وقبلوا تبعاً لذلك برنامج حزب البعث ومقررات مؤتمرات الحزب كتوجيه أساسي لسياسات الجبهة، وأن حزب البعث هو الذي يقود الجبهة وله غالبية مطلقة فيها وفي كل لجانها وذكر (برثيس): "وهكذا لا يستطيع أي حزب في الجبهة حتى أن يطرح أي موضوع في (أجندة) اجتماعات الجبهة".(6) ومع ذلك انتقِدَت بعض الأحيان، بصورة جدية سياسات النظام ففي عام /1974/ عارض الشيوعيون بقوة قراراً بالسماح لشركات البترول الأجنبية دخول السوق السورية، وعام /1976/ انتقدوا تدخل الرئيس الأسد العسكري في لبنان.
من الصعب تقدير إلى أي حد ٍ يتمتع شركاء البعث، في الجبهة الوطنية التقدمية، بحياتهم الذاتية المستقلة، فكلهم ممنوعون من القيام بأي نشاط سياسي في القوات المسلحة والطلاب ولدى الحزب الشيوعي السوري -بجناحيه - عدد هام من المنتسبين ونشاط وحيوية تفتقدها الأحزاب الصغيرة الأخرى في الجبهة الوطنية التقدمية. فجناح بكداش للحزب الشيوعي السوري - ويرأسه الآن (وصال فرحة بكداش)، أرملة الزعيم التاريخي للحزب، خالد بكداش - ويضم - ربما - إثني عشر ألف عضو", كما ذكر لي أحد المقربين من الحزب وطلب عدم ذكر إسمه. ويقدر أن الجناح الآخر المنافس ليوسف فيصل، يضم ما بين ثمانية آلاف (8000) إل عشرة آلاف (10000) والإتحاد الاشتراكي العربي لصفوان قدسي يضم ما بين (5000) إلى (7000) عضو، كما قال، وعقّب معلقاً: " أتساءل متعجباً: إن كانوا هم أنفسهم يعرفون عدد الأعضاء". وحركة فايز إسماعيل حركة (الاشتراكيون الوحدويون) لها نفس عدد أعضاء التنظيم السابق - تنظيم صفوان قدسي - وحزب الوحدويين الاشتراكيين الديمقراطيين (الذي رأسه حتى يوم موته عام /2001/ أحمد الأسعد، ولم يتقرر من سيخلفه - حتى أيار /2004/ فله حوالي ألف عضو. والحزب العربي الاشتراكي والذي انقسم لحزبين يرأس الأول مصطفى حمدون والثاني غسان عثمان فلديه - في الحد الأعلى - ما بين ألف وألفين (1000- 2000) عضو كما قدّر نفس المصدر.
سعْي النظام لإصلاح الجبهة الوطنية التقدمية ليكون بها مصداقية، هو جزء من رد على حركة المجتمع المدني التي نبتت بعد موت حافظ الأسد. واتخذ النظام تدبيرين اثنين فقط في هذا المجال في أواخر عام 2000 فلقد سمح لشركاء حزب البعث في الجبهة بافتتاح مكاتبهم الحزبية الخاصة بهم في مراكز المحافظات وسُمح لهم بتسويق جرائدهم الحزبية علناً (راجع الفصل السابع). وليس هناك ما يشير أن عامة الناس من أهل السياسة الساخرين المتهكمين اعتبروا التدبيرين أي نوع من (الفجر الديمقراطي)، وهذا ليس عجباً لأن إعادة تنشيط الجبهة ليس أمراً جديداً فهو ما كان يدعو إليه حافظ الأسد باستمرار. بعد أشهر من استلام رئاسة الجمهورية فكر بشار في السماح بقيام أحزاب سياسية جديدة (راجع الفصل الثاني)، ولكن في أوائل عام /2001/، وبعدما تحرك المحافظون في النظام لمنع أية إصلاحات سياسية سريعة، تراجع بشار عن هذا الموقف. وفي 9 شباط /2001/، وفي المقابلة الصحفية مع جريدة الشرق الأوسط لم يغلق الباب كلياً عن قيام أحزاب جديدة، ولكنه أكد أن لا مشروع هناك لهذا الأمر على المدى القصير: وقال " نحن في الحزب والجبهة لا نفكر على أساس عدم تطوير العمل في الأحزاب السياسية بسورية، " على العكس، لذلك كل الاحتمالات واردة بما في ذلك وجود أحزاب جديدة لكن لا نربط الموضوع ببرنامج زمني دقيق لا يمكنك تبني تجربة جديدة قبل تقييم وتطوير التجربة القائمة". فرد ّ رئيس تحرير الشرق الأوسط - السيد عبد الرحمن الراشد - على هذا التصريح قائلاً بصوابية". ولكن هذا قد يستغرق عشرة أيام أو عشرين سنة ".
عندما خاطب الرئيس حافظ الأسد البرلمان في 12 آذار /1992/ أعلن: "لقد ضمنا التعددية السياسية لأكثر من عشرين عاماً.. والأحزاب المشاركة بالجبهة الوطنية التقدمية يسهمون في مسؤولية قيادة الدولة". (هانز غونتر لوبماير) المراقب الواعي للساحة السورية حطم هذه الأوهام بقوله: "عندما تُقيّم الحياة السياسية في سورية لا يستطيع المرء تحاشي الانطباع أن القيادة السورية -أي حافظ الأسد- يتكلم عن أية دولة أخرى... غير سورية. فالواقع مختلف جداً ولا علاقة له من قريب أو بعيد بالديمقراطية"(8) وأضاف: "وما هو أسوأ من النظرية الدستورية... الممارسة السياسية: فباستثناء حزب البعث ليس لأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية أي تأثير في، أو نفوذ على، القرارات السياسية وهذه الأحزاب هي دُمى يحرك الأسد خيوطها "وأثيرت هذه النقطة بانفعال من أحد موقعي بيان الألف الذي طلب عدم ذكر اسمه: "بصدق ٍ هذه الأحزاب لا تمثل الشعب السوري. إنها أحزاب مصطنعة فبركوها لتخدم مصلحة شخص واحد هو الرئيس".(9)
الانتخابات
لقد استعملت وسائل عدة لضمان ألا تنتج الانتخابات العامة مفاجآت غير مرغوب فيها. وأهم هذه الأساليب هو غربلة دقيقة بعناية للمرشحين (كان هناك 7364 مرشحاً في انتخابات 1998). عندما كان النظام يواجه فعلياً حرباً أهلية جرى تزوير الانتخابات بصورة واسعة. ومن المشاكل الدورية المزمنة هي أن المواطن الواحد يستطيع التصويت أكثر من مرة في دائرته الانتخابية وفي دائرة إنتخابية ثانية لأن قانون الانتخاب لعام 1974 والمعدل عام 1984 ألغى استعمال اللوائح الانتخابية وسمح فقط بالتأشير على هوية الناخب " والمفترض أن يؤشر المسؤولون في المركز الانتخابي على هوية الناخب بتخريمها " كما فسر أحد السياسيين". وعادة لا يخرم الموظف المسؤول هوية الناخب ليثبت أنه انتخب، لذا يستطيع أي ناخب أن يذهب لأكثر من مركز انتخابي ويدلي بصوته أكثر من مرة".(10)
وأول انتخابات جرت في ظل حكم البعث كانت عام 1973 عندما كان هناك (186) مقعداً للتنافس عليها موزعة على خمسة عشر دائرة إنتخابية. وخصص لحزب البعث وشركائه في الجبهة (122) مقعداً (ربح فيها حزب البعث 120 مقعداً) وهكذا توفرت مسبقاً غالبية بثلثي الأصوات في البرلمان للجبهة. أما المستقلون بين المرشحين الذين يوافق النظام على ترشيحهم فكان لهم (62) مقعداً.
ثم زيد عدد المقاعد إلى (195) في انتخابات عام 1977 وعام 1990 عام الانفتاح الاقتصادي والحاجة لضم رجال الأعمال الجدد للنظام، زيد عدد مقاعد المجلس النيابي (55) مقعداً حفظت كلها للمستقلين. وخصص للجبهة الوطنية التقدمية ثلثا المقاعد عام 1973 و81.5 % عام 1977 عندما اختصر عدد مقاعد المستقلين إلى (36) فقط، وعام 1981 نالت الجبهة 100 % من المقاعد في الانتخابات المزورة و79 % عام 1986 (عندما كان هناك 41 مستقلاً) وخصص للجبهة 66.8 % من المقاعد وانتخابات عام 1990 و1994 و1998 وخصص فيها للمستقلين (83) مقعداً أي 33.2% من مجموع المقاعد. وينص دستور 1973 على أن 51 % من نواب البرلمان يجب أن يكونوا من العمال والفلاحين ليعكس الأبعاد الإشتراكية المفترضة للنظام.
أما نسبة عدد الناخبين فهي غير مؤكدة ولكنها قطعاً منخفضة والاحتمال الوارد إنها أقل من 20% من مجموع الذين يحق لهم التصويت. وعدّة مرات خلال الانتخابات، بما في ذلك انتخابات عام /1998/ أضيف يوم انتخابي آخر للسماح لكل الناخبين بالإدلاء بأصواتهم - هذا ما جاء به الدستور عندما لا تبلغ النسبة 50% يوم الانتخاب.
" وتعكس لا مبالاة الناخبين شعور الإحباط والخوف فيهم" هذا ما سجلته لجنة مراقبة الشرق الأوسطM.E Watch وهي فرع من جمعية مراقبة حقوق الإنسان Watch Human rights
نقلاً عن أحد الكتاب السوريين المشهورين: "لقد شطب الأسماء الأولى في اللائحة الانتخابية لعام /1986/ كحركة احتجاج. وبعدما غادر مركز الاقتراع استدعاه أحد رجال المباحث إلى مكتبه للتحقيق. يبدو أن أحد المخبرين رأى ما فعله في التشطيب. وقيل له يمكن مسامحته إذا تعاون معهم وعندما رفض ذلك سجنوه لمدة تزيد عن عامين".(11)
لدى سعد جودت سعيد من قرية بيرعجمان تجربة حديثة مع سوء سلوك المسؤولين الرسميين خلال الانتخابات، فلقد صوّت بـ(لا) بتموز 2000 يوم الاستفتاء على تثبيت بشار الأسد رئيساً للبلاد، إلا أنه شاهد موظف المركز الانتخابي يشطب كلمة (لا) ويؤشر على خانة (نعم) في بطاقته الانتخابية. وعندما احتج أوقفته المخابرات المحلية واحتجز لأسابيع عدّة.(12)
وعمل ٌ آخر قام به حافظ الأسد يضفي على نظامه (قشرة) ديمقراطية، وهو إقامة انتخابات على مستوى المحافظات كل أربع سنوات بدءاً من آذار 1972. وبما أن مجالس المحافظات تُعنى فقط بالأمور الإدارية وليس لها مسؤوليات سياسية ذات أهمية, وتجرى انتخاباتها على كل حال برقابة من المحافظين الأقوياء الذين يعَيّنهم الرئيس نفسه,... لهذا كله تجري الانتخابات المحلية هذه بحرية مفاجئة. ولم يعمد النظام إلى فرض غالبيته من البعث والجبهة الوطنية التقدمية رغم أن نتائج انتخابات عام 1972 المحلية أدت إلى هزيمة النظام فيها.
المعارضة الممنوعة
كانت قاطرات سكك حديد مترو الأنفاق في لندن تقرقع على الخط الشمالي المتآكل قِدَماً, عندما أكد لي (علي صدر الدين البيانوني) المراقب العام للإخوان المسلمين في سورية ذي اللحية البيضاء أن حركته ملتزمة بالديمقراطية التعددية، وحقوق الإنسان وحكم القانون.
"احتكار حزب البعث للسلطة لأربعين سنة أو تزيد جعل التيارات -السياسية - تتوافق على موقف مشترك: الحرية والتعددية والديمقراطية". كما قال لي: "وحّدَ هذا (النظام) المعارضة". (13)
التقينا في مكان غير مناسب لمنزل غير منفصل من عشرينات القرن الماضي في حي أنيق لأبناء الشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى في شمال غرب لندن يستعمله البيانوني عندما يكون في لندن. وبتنا في الغرفة الأمامية ذات الأرضية الخشبية (الباركيه) -وتعني الخشب المزخرف- مفروشة بثلاث كنبات تحيط بسجادة أشكالها زاهية الألوان. وستائرها المخرمة تحمي الغرفة من أعين الفضوليين. وكان البيانوني يرتدي بنطالاً واسعاً Slacks بلون الصوف الطبيعي (Beige ) وقميصاً رقيقاً وينتعل خفاً من الصوف المقلم ولو مر به إنسان في الشارع لن يُخَمّن أبداً مدى نفوذه. بعد نفيه من سورية عام 1980 عاش في الأردن حتى عام 2000 ولكن عندما خلف بشار الأسد والده، رغب الأردنيون في علاقات جيدة مع دمشق فسحبت الحكومة الإذن بإقامته هناك. وزوجته وثلاثة من أولاده السبعة لا يزالون يعيشون في العاصمة الأردنية عمان ويعيش البيانوني الآن في حالة تجوال دائم - " ليس لي الآن أي مكان للعيش الدائم فيه".
ولد البيانوني عام 1938 في عائلة مسلمة متدينة وهو يرأس حركة الإخوان منذ العام 1996 وأعيد انتخابه لسنوات أربعة جديدة في تموز عام /2002/. ومثل الكثيرين (و ربما أغلب) القيادات السياسية السورية تعذب البيانوني من اجل مبادئه. ففي الفترة من /1975 - 1977/ في بداية التمرد الذي قاده الإخوان على (النظام) سجن وقضى سنة في الحبس الانفرادي. عام /1979/ عندما كان في أوروبا هاجمت المخابرات منزله وأوقفوا ابنه وصهره وأخذوهما كرهائن". أطلقوا بعد ذلك سراح ابنى ولكنهم قتلوا صهري في السجن رغم أنه لم يكن عضواً في حركة الإخوان". هذا ما قاله البيانوني.
وفي أواخر السبعينات من القرن الماضي - وفي أوج نفوذهم كان حديث الإخوان مختلفاً جداً. وأكثر نجاحهم في تجنيد المعارضة المسلحة ضد النظام كان معتمداً على نقاش يعرض أن سورية خطِفت من قبل فئة مشركة و/أو ملحدة لأقلية علوية مستكبرة. ومدى التحول برز بوضوح في مسودة (عهد شرف للعمل السياسي) الذي صدر في 3 أيار /2001/ وقدّم " كأفكار مبدئية " للنقاش، وأكد العهد أن الإخوان يعتقدون "أن الدولة الحديثة هي دولة تداولية (أي أن الحكومات تتغير بطريقة سلمية) وأن الانتخابات الحرة والنزيهة هي أساس هذا التداول للسلطة بين كل أبناء الوطن "وحيّوا" سيادة القانون وفصل السلطات، وأعلنوا أن الدولة الحديثة هي "دولة تعددية حيث توجد اختلافات في وجهات النظر وسياسات متنوعة ومواقف مختلفة". ولم تذكر المسودة طلب الإخوان القديم بتطبيق الشريعة. وأكدت حركة الإخوان المسلمين "لقد فات الوقت الذي يدّعى فيه حزب واحد أنه الوطن. وأقصى ما يمكن لأية مجموعة سياسية أن تقوم به هو أخذ مكانها على الخارطة الوطنية حسب حجمها الذي تناله بشعبيتها الحقيقية عبر صندوق الاقتراع في انتخابات حرّة ونزيهة "والخلاف السابق بين القومية العربية العلمانية والحركة الإسلامية كان مرحلة تاريخية انقضت الآن ونتجت هذه المواجهة من عوامل عاطفية وسوء فهم، ومن الإيديولوجية التي عمّت آنذاك خلال مراحل ما بعد الإستقلال".
وحسب هذه الوثيقة ليس هناك اختلافات بين السوريين كما قال البيانوني و"الوثائق التي صدرت عن مجموعات أخرى تشبه وثيقتنا إلى حد ٍ كبير. ومطالب الإخوان المسلمين والشيوعيين من جماعة رياض الترك والتجمع الوطني الديمقراطي وحركة المجتمع المدني تتشارك في الكثير من المواضيع". (14)
وفي آب عام /2002/ الإخوان - الذين لا زال الانتساب إليهم عقوبته الإعدام حسب القانون 49 الصادر عام 1980 - دعوا لاجتماع في لندن ما يقرب من خمسين من رجال المعارضة بهدف تحويل المدونة إلى عقد وطني يضم المبادئ للحكم في سورية الديمقراطية. وضم المجتمعون قوميين ويساريين ومستقلين بالإضافة للإسلاميين ومن أهم الشخصيات التي حضرت مع علي صدر الدين البيانوني كان أحمد أبو صالح، الوزير في حكومة بعثية سابقة خلال فترة الستينات والدكتور هيثم مناع طبيب سوري وعالم أنتروبولوجيا يعيش في باريس وهو المتحدث باسم حقوق الإنسان العربية في القاهرة. وأصدر الاجتماع عقداً وطنياً كان صدى قريباً جداً للوثيقة التي صدرت في أيار عام /2001/ رغم أنه أبرز أكثر، دور الإسلام مؤكداً أنه " بأهدافه النبيلة وقيمه السامية وشريعته الكاملة يُشكل مرجعاً حضارياً وهوية متميزة لأبناء وبنات وطننا ". والمسودة السابقة للعقد وصفت الإسلام أنه " إما مرجع ديني أو انتساب ثقافي مفسرةً أنه لذلك شامل يجمع أبناء الوطن ويوحدهم ويحمي وجودهم".
والإخوان المسلمون هم أهم التيارات السياسية الممنوعة قانوناً وكانوا دائماً يتبنّون أطيافاً عدّة من الآراء ففي آخر الطيف كان هناك المجاهدون المناضلون الفتيان والشباب وهم تيار تعايش بصعوبة مع تيار المؤسسة التقليدية الأكبر سناً. الدكتور سمير التقي عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي جناح يوسف فيصل وعضو مجلس الشعب عن مدينة حلب في برلمان 1994 – 1998 هو مراقب لسياسات الإسلاميين في سورية. ولقد ذكر لي ما يلي: " اليوم الجهاديون يربحون مزيداً من الأرض لأنهم تأثروا بشدة - واستلهموا - بالفلسطينيين في حماس وحركة الجهاد الإسلامي وإلى حد أقل بالمسلمين الشيعة في لبنان في حزب الله والذين أجبرت حملتهم في جنوب لبنان إسرائيل على الانسحاب في أيار عام 2000. (15)
و مهما كانت شكوكهم بالولايات المتحدة الأميركية والغرب فالإخوان المسلمون السوريون ليسوا أصدقاء للمجموعات المتعصبة كجماعة أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة الذين قاموا بمهاجمة نيويورك وواشنطن في أيلول عام /2001/. "فلسفتنا هي الاعتدال" هذا ما قاله علي صدر الدين البيانوني، " وبعد أحداث 11 أيلول - سبتمبر - أصدرنا - مع زعماء مسلمين آخرين -بياناً يستنكر ما حدث- بغض النظر عمن قام به وعمن كان الهدف. كان عملاً فظيعاً لا يتطابق مع حقيقة الإسلام.(16)
وأكد البيانوني "أن الإخوان السوريين بعيدون جداً جداً عن العنف" حتى أن العديد من المقربين من الدائرة المباشرة حول بن لادن أعلنوا أن الإخوان المسلمين (كفار) -أي غير مؤمنين -.
ويقال أن الإسلاميين الذين من المتوقع أن يربحوا ثلث مقاعد المجلس النيابي في حال حدوث انتخابات حرّة وعادلة، تسللوا لعمق النظام رغم الجهود المضنية للمخابرات _ في مكافحتهم_ وبرز هذا الموضوع في أواخر عام 1999 وأوائل عام 2000 عندما اعتقل آلاف من الإسلاميين المقربين من الإخوان وحزب التحرير الإسلامي. أغلبهم كانوا عسكريين أو مثقفين " حسب مصدر مطلع في دمشق طلب عدم ذكر اسمه: و90 % منهم كانوا أعضاء في حزب البعث. ولقد أفرج عن غالبيتهم بعد ما وقعوا على إعلان يوافقون فيه على الامتناع عن أي نشاطات سياسية.
وكمنظمة, يبدو بوضوح أن الإخوان المسلمين الآن مستعدّون جيداً للتوجه نحو التعددية والديمقراطية, رغم أن بعض المحللين يشكون بعمق بأهداف الحركة". بعد فشل الإستراتيجية الدينية في الستينات والإستراتيجية المناوئة للعلويين في السبعينات والثمانينات يحاول الإخوان المسلمون تبني الخيار الديمقراطي في التسعينات هذا ما حذر منه "هانز غونتر لوبماير": "لا خلاف في أن الديمقراطية ليست الهدف السياسي للإخوان المسلمين بل هي وسيلة لهدف آخر هو استلام السلطة (17) .
من الصعب -فطرياً- الحلول الوسط مع إرادة الله. ولاشك أن تحليل (لوبماير) صحيح بالنسبة لبعض الإسلاميين المتطرفين داخل الحركة ولكنهم اليوم أقلية فلقد حصل انتقال هام منذ العام 1994 عندما كان (لوبماير) يكتب عن هذا الموضوع وشكوكه تبدو اليوم مفرطة في المبالغة.
قسم هام من المعارضة العلمانية ينضوي تحت لواء التجمع الوطني الديمقراطي وينأى بنفسه عن (النظام) -الحاكم- وله نفوذ صغير ولكنه هام. ولقد أعلن عن نفسه رسمياً في كانون ثاني عام /1980/ في الوقت الذي كان فيه نظام أسد يترنح من التمرد -الإسلامي في غالبه مع آخرين-. وبعض عناصر التجمع المهمّين كانوا منشقين عن أحزاب منضمّة إلى الجبهة الوطنية التقدمية. ورغم أن التجمع كان من الناحية التقنية غير شرعي فهو مقبول اليوم وهو الذي دعم بقوة حركة المجتمع المدني.
وهذا التجمع الذي يضم كل المعارضة اليسارية المهمة باستثناء الحزب الصغير: حزب العمل الشيوعي، مؤلف من:
1- الإتحاد العربي الاشتراكي برئاسة حسن إسماعيل عبد العظيم.
2- الحزب الشيوعي السوري - المكتب السياسي ويرأسه رياض الترك.
3- حزب العمال الثوري برئاسة طارق أبو الحُسن.
4- حركة الإشتراكيين العرب برئاسة عبد الغني عياش.
5- حزب البعث العربي الديمقراطيالإشتراكي (سابقاً حركة 23 فبراير، ويرأسه إبراهيم ماخوس المنفي.
حَسَن عبد العظيم محام ٍ من دمشق هو المتحدث الرسمي باسم التجمع. استقبلني في شقته المتواضعة في حي ركن الدين شمال شرق دمشق، ثم وصل المدفأة الكهربائية ليخفف من برودة الشتاء وقدّم لي الضيافة التقليدية فنجان قهوة تركية مركزة. الزينة في غرفة الضيوف جديرة بالذكر فكنبات (كراسي) موديل لويس الخامس عشر المنجّدة بأغطية ثمينة وأطراف أربعة مزخرفة والزهور الاصطناعية والخضار يحيط النوافذ، وعلى جانب خزانة كتب ذات واجهة زجاجية، صورة فوتوغرافية مؤطرة للرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر.
ويروي عبد العظيم قصته الرسمية بأسلوب تعوزه قليلاً الرشاقة.
الحركة الناصرية التي تأسست عام /1964/ عملت مع أحزاب المعارضة ضد حزب البعث عندما احتكر السلطة". (18) وبقيت بالمعارضة حتى قيام الحركة التصحيحية بزعامة حافظ الأسد " ودعانا الزعيم السوري الراحل للاشتراك بالحكومة والبرلمان " بإقامة جبهة وطنية تقدمية ذات قاعدة عريضة وتابع عبد العظيم: "دخلنا الجبهة بعد الاعتراف بنا كحزب واشتركنا في البرلمان وكان لنا إثنا عشر نائباً حتى نيسان عام /1973/".
كان وضع البعث المتميز في دستور عام /1973/ بالنسبة لجناح عبد العظيم في الإتحاد العربي الاشتراكي هو (الحجر العثرة). فالمادة الثامنة تبين "أن حزب البعث هو الحزب القائد في المجتمع والدولة ", وحينها علمنا أن الجبهة كتآلف ديمقراطي وطني ما عادت موجودة للإصرار على وضع هذا النص في الدستور. لذلك دعونا حينها إلى مؤتمر عام للحزب وقررنا ترك الجبهة " ثم وضّح لي عبد العظيم بحزن: "كانت الجبهة مطلباً لنا وقبِلها البعث ثم تراجع عن وعده. والجبهة لا تمثل اليوم تآلف أحزاب سياسية ولا تعددية سياسية. إنها فقط زينة خارجية، شكل بدون محتوى أو لون أو نشاط. وبعدما انسحب جناح عبد العظيم من الجبهة وانشق عن حزبه الأم الإتحاد العربي الإشتراكي الذي كان يرأسه جمال الأتاسي تحوّل للعمل السري. والتجمع الذي كان يرأسه د. جمال الأتاسي "اشترك في أحداث عام /1980/: إضرابات ومظاهرات ومطالب من أجل التغيير الديمقراطي", قال عبد العظيم، مضيفاً: "حاولنا... من أجل طريق ثالثة ليست طريق الحكومة ولا طريق مجموعات العنف التي أرادت إحداث التغيير بالقوة. أردنا حلاً ديمقراطياً".
ما هي أهمية جناح الإتحاد العربي الاشتراكي والتجمع اليوم؟ ألم يكونوا فقط مشاهدين على الهامش ؟ عبد العظيم الذي يُدير ندوة للمحامين من أجل المجتمع المدني وافق على أن عضوية التجمع قد هبطت ولكنه أكد: "إن أهمية التجمع لا تكمن في عدد الأحزاب المنضمة إليه ولكن في آرائه وفي شعبية الأحزاب المكونة له. في الواقع غالبية الشعب معنا. وبتعبير تطبيقي إن أحزاب التجمع هي أكثر شعبية من أحزاب الجبهة. والعضوية الرسمية ستزيد عندما يصدر القانون الذي يُشَرع الأحزاب السياسية. أما الآن فمن المخاطرة الانضمام إلى أحزاب غير مرخصة". وتاريخ سورية الغريب منذ الانقلاب البعثي عام 1963 يعني أن ليس هناك أي تيار سياسي نما وتطور بصورة عادية. والبعث العنصر الأساسي في نظام استبدادي يتمتع بالتأثير والعضوية العددية أكثر بكثير مما كان يُتوقع عادة من حزب, رغم أهميته بالتأكيد، إلا أنه كان فقط واحداً من عدّة مجموعات منافسة قومية اشتراكية. وهناك أحزاب أخرى صارت صغيرة جداً بشكل غير عادي بعد عقود من العمليات السرية والإنهاك. وهناك قطاعات من المجتمع -أبرزها العلماني والليبرالي الديمقراطي- لا يوجد لها أحزاب تمثلها". لا يوجد أي حزب قائم الآن يعكس مصالح الطبقات والكتل والشرائح الإجتماعية الذي قصد منه العمل لها", وكما يقول سمير التقي "هناك انخلاع بين واقع المجتمع والمجتمعات السياسية"(19) ومن السخرية، نظراً لما قام به هو نفسه من إضعاف الأحزاب السياسية في سورية, أن يكون حافظ الأسد -الملقب روتينياً قائدنا إلى الأبد -وهذه كنية تنفى فطرياً الحاجة للديمقراطية- مستنكراً بشدة إلغاء الرئيس المصري جمال عبد الناصر للأحزاب خلال فترة الوحدة المصرية.
"شعرنا بعداء شديد نحو حزبنا (البعث) الذي صفاه عبد الناصر ذاته، وبدأنا نتنبأ بأن الوحدة ستنتهي بكارثة.
كان عبد الناصر يشكو من حالة (بارانويا) دائمة تجاه الأحزاب السياسية وهي حالة لا شفاء لها على ما يبدو نبتت بلا شك من تجربته مع الأحزاب الفاسدة التي كانت قبل ثورة مصر.
كان يقول -وملاحظاته هذه ترتد إلينا- أنا رجل أمين ومحترم فما حاجتنا إذن للأحزاب ؟ (20)"
دور رئيس مجلس الشعب
لعبد القادر القدورة نظرة واضحة عن دوره كرئيس لمجلس الشعب". رئيس المجلس يترأس الجلسات ولا يتدخل إلا عندما يحتاج الأمر لذلك... للتوضيح. أما اتخاذ القرارات فهي مسؤولية المجلس، بالإضافة لذلك هو المتحدث باسم مجلس الشعب ويمثله في الاجتماعات البرلمانية والإقليمية والدولية"(21)
المحللون في الخارج يرون الأمر بصورة مختلفة, و(فولكر برتيس) يصف القدورة بأنه عضو جوهري في القيادة القومية لحزب البعث عمل كمراقب في النظام لقضايا المجلس أكثر مما هو ممثل المجلس في القيادة"(22). ومثلنا على ذلك الرد الحازم لرئيس المجلس على محاولات التصويت ضد مشروع تغيير قانون الضرائب عام /1991/. فلقد اتفق نواب اتحاد العمال اليساريين ونواب مستقلون من رجال الأعمال في لجان المجلس على تعديل القانون حتى يعفى من الضرائب أول (18000) ليرة سورية من الدخل ومن الإرباح التجارية. وفي النقاش الأولي أعلن وزير المالية أن التعديل غير مقبول لأنه سيؤدي إلى خسائر كبيرة من مداخيل الدولة -من الضرائب-، ورغم اعتراضاته وافق المجلس على التعديل بالأغلبية. فاحتجّ حينئذ ٍ رئيس الوزراء وكان محمود الزعبي. ففضّ القدورة الجلسة بسرعة مؤكداً عدم وجود النصاب. وبعد ظهر ذلك اليوم عاد المجلس للاجتماع لتصويت جديد - على التعديل - فحصل التصويت على التعديل ونجح التعديل. إلا أن رئيس المجلس أكد أن التعديل قد سقط لأن غالبية الأصوات كانت ضده. وعندما واجه رئيس المجلس احتجاج العديد من النواب وافق على تصويت جديد بالأسماء وليس برفع اليد حيث يقول كل نائب هل هو مع أو ضد التعديل. وفي جهده لجلب البعثيين المترددين ليصوتوا ضد التعديل ذكّرهم الرئيس أن المشروع وضعته القيادة القطرية وكان الرئيس الاسد مهتماً به مباشرة. والواقع أنه حول بذلك التصويت إلى امتحان لولاء البعثيين للنظام فترك الجلسة حينئذ ٍ حوالي الستين من أعضاء المجلس احتجاجاً على هذا (التكتيك). عندها أعاد القدورة طرح المشروع الأصلي - دون تعديل - على التصويت وباستثناء قلّة من نواب الإتحاد العمالي العام الذين صوتوا ضده، نال المشروع غالبية الأصوات. وأظهر هذا الفصل - البرلماني -! محدودية المشاركة البرلمانية - حتى في السياسات الأقل أهمية". كما ذكر (برتيس) (23)
المستقلون....غير المستقلين.... تماماً:
زيادة عدد مقاعد المستقلين في انتخابات 1990 وإنْ لم يكن عن طريق تخفيض عدد المقاعد المخصصة للحزب والجبهة بل برفع سقف المجموع لاقت ترحيباً وصُورت في الإعلام الموجه - كمعلم لعملية متوسعة للديمقراطية. أكثر المستقلين في المجالس السابقة كانوا من المهنيين المثقفين في الطبقة الوسطى ورجال الأعمال والقبائل والزعماء الدينيين وأكثر هؤلاء في البرلمان منذ العام 1990 جاؤوا من البرجوازية الجديدة ليؤكد النظام رغبته في خلق - ولو ظاهرياً - صورة تمثيل لجالية ٍ لعبت دوراً متنامياً في الاقتصاد الوطني منذ الثمانينات. وفي نفس الوقت توسّعت المناقشات البرلمانية في السياسة الاقتصادية بالترادف مع التشجيع الموازي لمثل هذه المناقشات في أجهزة الإعلام والمجتمع بعامّه. السياسة الاقتصادية أصبحت موضوعاً - ولو وحيداً - يستطيع البرلمان أن يكون له فيه تأثير حقيقي على الحكومة. وفي خطابه للبرلمان في كانون أول 1991 قال رئيس الوزراء محمود الزعبي أن المجلس عنصر مهم " في نظام سورية الديمقراطي الذي عن طريقه يشترك الشعب في اتخاذ كل القرارات المتعلقة باقتصاده وأموره اليومية". (24) أما أمور الدفاع والخارجية والأمن الداخلي فبقيت بوضوح بعيدة عن متناول الشعب. بعض المستقلين كانوا الأعلى أصواتاً في الدعوة لإصلاحات إقتصادية كبيرة - بموافقة رسمية - وتبنى النظام بعدها هذه الدعوات كأهداف له. وأبرز الأمثلة على ذلك السيد إحسان صنكره أحد رجال الأعمال المشغول باهتمامات عدّة بما فيها الصناعات الغذائية ومعاملها واستيراد السيارات. دخل صنكر البرلمان عام 1990 حيث وقف على أرض صلبة من الولاء للنظام ليضغط بشدة في اتجاه إقامة مصارف خاصة، ورفْع نظام مراقبة وتحديد الأسعار وإلغاء القوانين التي لا تشجع الاستثمارات وإقامة مدن صناعية جديدة، بالإضافة لإنشاء سوق للقطع والأسهم - البورصة - (25). وهناك الكثير من الصناعيين المحدثين الذين يدينون بنجاحاتهم لقربهم الشديد وعلاقتهم الوثيقة بالنظام، وهم من المؤيدين بقوة لبقاء الأمور على حالتها Status quo . فهم " مستقلون " فقط بمعنى أنهم ليسوا منضمين إلى أي حزب سياسي. ومثل بقية المرشحين لمجلس الشعب (!) -البرلمان - تدرس السلطات أرشيفهم بعناية قبل أن يُسمح لهم بالترشح للانتخابات. وكما لاحظ (لوبماير) "ولا يسمح لهم بتقديم حججهم عن مصالحهم -وأرائهم - الخاصة إلا إذا كانت مطالبهم غير متعارضة مع السياسات العامة للنظام". (26)
رياض سيف ومأمون الحمصي هما من دمشق ومن المستقلين ولكنهما ذهبا بعيداً - برأي النظام - واشتطا -برأيه - فدفعا الثمن (راجع الفصل الثالث). وسيف، وهو الشخصية الهامة في حركة المجتمع المدني أوقِفَ في أيلول عام /2001/ بعدما عقد اجتماعاً لندوة الحوار الوطني - وهي ندوته - في منزله دون إذن وزارة الداخلية. والحمصي أوقف في آب بعدما أعلن إضرابه عن الطعام تأييداً لمطالب من ضمنها رفع قانون الطوارئ القاسي وهذان الإعتقالان جاءا كجزء من الحملة على (ربيع دمشق).
ويضمن دستور سورية الحصانة لأعضاء البرلمان... ولكن ذلك ليس (أمراً مطلقاً). فعندما يكون البرلمان في حالة انعقاد، اللجنة البرلمانية هي التي تقرر ما تشاء. وما عدا ذلك فرئيس البرلمان هو الذي يقرر، كما جرى في حالتي (سيف والحمصي). وأكد رئيس البرلمان أنه تصرّف بصورة صحيحة وحسب القانون وأنه لم يخرق حرية التعبير " كلاهما لم يعتقل بسبب ما قال بل بسبب ما فعل". (27)
وكان رأي النائبين مختلفاً - عن وجهة النظر هذه - ففي بيان مكتوب صدر عن (سجن عدرا) في 14 تشرين ثاني /2001/ أصرّ سيف على أنه اعتقل لأنه كان يطلب في البرلمان كشفاً كاملاً عن الأموال التي دُفِعت في قضية عقد للهاتف النقال، ولأن ارتفاع عدد الحضور لندوته أقلق " جهاز الأمن... الذي خشي َ من زوال حاجز الخوف الذي أقاموه بين الناس لعقود طويلة". (28) والحمصي الذي شوَّهت سمعته أجهزة الإعلام الرسمية بعد اعتقاله، أصدر بياناً من السجن ينكر فيه أي عمل خاطئ ويؤكد أنه اعتقل، مع سيف بدون سبب وهذا خرق واضح للدستور". (29)
وقضاء فترة في السجن هي تقريباً شرط لازم لكل من يعمل في السياسة بسورية، شارة مميزة للأصالة. حتى حافظ الأسد نفسه قضى عدّة أيام في سجن المزّة السياسي السيء السمعة الواقع غرب دمشق قريباً من الأوتوستراد الموصل لبيروت للتحقيق معه في ربيع عام 1962، والذي أغلقه إبنه بشار أخيراً عام 2000 (30) . وذكر لي (القدورة) مفتخراً: إنه خلال عمله السياسي الذي بدأ في الخمسينات سُجن ثلاث مرات لنشاطه السياسي باسم حزب البعث.(31) المرة الأولى كانت خلال عهد الجنرال أديب الشيشكلي الذي استولى على السلطة في 19 كانون أول 1949 وأطيح به في انقلاب آخر في 27 شباط /1954/. في ذلك الوقت قال لي القدورة إنه كان "عضواً صغيراً في حزب البعث " وفترة سجنه الثانية كانت عام 1961 " في الثورة التي فصلت سورية عن الجمهورية العربية المتحدة (الوحدة مع مصر) ". أما الفترة الثالثة وهي الأطول فلقد بدأت في 23 شباط 1966 عندما استلم السلطة جناح صلاح جديد البعثي المتطرف. في ذلك الوقت كان (القدورة) طالب علوم في جامعة دمشق وأحد أبرز الناشطين من الطلاب. سجن أولاً في تدمر، السجن الصحراوي السيء السمعة قرب المدينة ذات الآثار الكلاسيكية الساحرة، ثم قضي أشهراً في سجن المزّة. وتبع ذلك ستة أشهر في سجن القلعة (قلعة دمشق القديمة التي استعملت لسنوات كسجن ولكنها تحولت الآن إلى متحف). وقضى بقية أيام سجنه في دمشق. ولقد أطلِق سراح القدورة بعد خمسة عشر شهراً من السجن في 10 حزيران عام 1967. وقال لي هازلاً: "كل من يريد العمل في السياسة... قد يصبح وزيراً... أو.... قد يصبح سجيناً".